للعزم في معركة الحسم !!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

عبد الله أمين 

05 05 2022


كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن المعركة الحاسمة مع عدوّنا الإسرائيلي؛ فمن متوقع لها عبر حسابات رياضية، ومن داعٍ لها عبر خطابات منبرية، وآخر ينتظرها عبر منامات ورؤى تبشيرية، وهناك من يدعو لها من خلال منصات التواصل الإجتماعية، ظاناً أن الحرب ما هي إلا فزعة عشائرية!

وحتى لا يَدّعِ مُدعٍ  أننا ــ لا قدر الله ـ نقلل من قيمة الآراء الأخرى ولا نقيم لها وزناً، أو أننا لا نؤمن بالمشيئة الإلهية، أو الأقدار الربّانية؛ وحيث أنه سبحانه إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه؛ عزمنا على كتابة هذه المقالة التي تعنى بالحديث عن معركة الحسم وأهم متطلباتها وأسبابها المادية والمعنوية، قبل أخذ قرارها ولبس لبوسها والعزم على فتح نارها وخوض غمارها.

مشيرين إلى أننا سابقاً كنا قد كتبنا ثلاثة مقالات حول معركة التحرير بعنوان: " مسار التحرير بين الواقع والتنظير" يمكن الرجوع لها لمن أراد أخذ أفكار حول هذا المسار، لذلك تأتي هذه المقالة الحاليّة في ذاك السياق السابق، آملين أن نقدّم في هذه العجالة ما يمكن أن يشكّل محركاً للتفكير الجديّ والمنطقيّ غير الرغائبي، والمبني على الحقائق والمعطيات وليس على الرؤى والتمنيات، فقديماً قيل حسنُ النهايات من حسنِ البدايات.

وحيث أن الحرب هي من أعقد النشاطات البشرية التي يمارسها الإنسان، وأن نتائجها من أخطر النتائج التي يمكن أن تكون لفعلٍ بشريّ أو نشاط إجتماعي؛ حيث في اللحظات التي يحتفل فيها جزء من الناس بالنصر المتحقق؛ تفتح بيوت العزاء وصواوينه لتقبّل العزاء أو التهنئة في شهداء قضوا في سبيل هذا النصر ـ الذي لولا الله ثم جهدهم ودماؤهم ما تحقق-، وكما أن أبناء وأمهات وأباء وزوجات يخرجون لاستقبال ذويهم الذين عادوا مكللين بتيجان النصر والظفر؛ فإن آخرين ينتظرون خبراً عن أسير أسر أو مفقود فُقد، ولأنها ـ الحرب ـ كذلك؛ قال عنها ربنا سبحانه في محكم تنزيله "كتب عليكم القتال وهو كره لكم".

وقال في حقها خير المجاهدين وسيد القادة والمَقودين "محمد" صلى الله عليه وسلم "لا تتمنوا لقاء العدو"، وقال عنها بعدهم خبراء شأنها أنها من الخطورة بمكان بحيث يجب أن لا يكون قرارها متروكاً للعسكريين وحدهم ولا للسياسين بمفردهم، وهنا دعونا نفتح قوساً لنشير إلى اللطيفة التالية وهي أن من الأعراف  الدارجة في معظم الدول المستقلة المستقرة أن يكون وزيرُ دفاعها من شريحة الموظفين المدنيين البيروقراطيين حتى يلجم ببرود رأسه (حماوة) رأس العسكريين، فإن كان ليس هناك بديل غير أن يكون عسكرياً؛ فلا بد أن يكون قد تقاعد من منصبه العسكري وأمضى مدة لا تقل عن ثلاث سنوات طواها في العمل المدنيّ البيروقراطيّ حتى(يبرد) رأسه ويرى الأمور من زاوية غير التي كان يراها، فمن يحمل في يده مطرقة يرى كل مشكلة مسمار، ومن يحمل في يده بندقية يرى كل مشكلة حلها في بيت النار.

لذلك كله سنجتهد و-بما يسمح به المقام- من الحديث عن بعض أهم المسلَّمات التي يجب بحثها والتدقيق فيها قبل الحديث عن المعركة الحاسمة أو معركة التحرير الختامية مع هذا الكيان الغاصب المؤقت ، والتي منها وعلى رأسها الآتي: 

1. البيئة السياسية للحرب أو المعركة:

لا تخرج الدول المستقلة المستقرة، فضلاً عن حركات المقاومة والتحرير لتشنَّ حرباً أو عمليةً عسكرية ـ كبيرة كانت أم صغيرة ـ دون النظر في البيئة السياسية لهذه المعركة، فمعرفة تفاصيل البيئة السياسية والإستراتيجية بمختلف ملابساتها وبأدق تفاصيلها من أهم المتطلبات التي تحدد إن كان هناك أملٌ في النصر، أو خوفٌ من الهزيمة، كما أن تلك المعرفة هي التي تحدد المدة الزمنية التقريبية لانتهاء المعارك العسكرية. والبيئة السياسية التي نتحدث عنها تشمل البيئة الداخلية والإقليمية والدولية، فدون معرفة هذه البيئة وتلك الملابسات؛ فإن قرار الحرب سوف يكون مقامرةً غير محسوبة العواقب ولا معروفة النتائج. 


2. البيئة الجغرافية والديموغرافية لمنطقة العمليات:

كيف لا والحرب نشاطٌ سوف يخاض على جغرافيات مختلفة، تتضمن تكتلاتٍ ديمغرافية متنوعة، وهنا نشير إلى أن "دراسة منطقة العمليات" التي تُعدّ القاعدة الرئيسية التي يبنى عليها "تقدير العلميات" الذي يؤخذ على ضوئه "أمر العمليات"، تلك الدراسة إنما تأتي للحديث التفصيلي والممل الذي يجيب على سؤال البيئة الجغرافية والديموغرافية لمنطقة أو مناطق العمليات، ودون هذه المقدمات فلا يمكن التخطيط للعمليات فضلاً عن تحمل أخذ القرار بشنها، وهذا بحث تفصيليٌ يطول شرحه. 


3. القدرات الذاتية والحسابات التعبوية:

فلا تُكلف النفس إلا وسعها، ولا تتحمل فوق طاقتها، وما يظنه القائد كافياً من قدرات بشرية ومادية للمناورة؛ قد لا يكفي للاندفاعة الأولى للقوات وخروجها من خلف خطوطها الدفاعية للتعرض للعدو بعمليات هجومية، فمعركة التحرير ليست غارة، أو كمين يُقضى الهدف منه وتعود القوات إلى قواعدها، معركة التحرير هي معركة تلحظ إمتلاك قدرات قتالية تكفي من أجل تخصيص القدرات للعناوين التعبوية التالية: قوات الواجب الرئيسية واحتياطها العضوي، قوات التأمين، قوات الثبيت، قوات الاحتياط المركزي، القدرات اللوجستية المطلوبة لتغطية هذه القوات مجتمعة، وتفاصيل أخرى يضيق الموقف عن حصرها أو الدخول في تفاصيلها.


4. دور الحلفاء والأصدقاء في الجهود القتالية:

ثم ما هو دور الحلفاء والأصدقاء في حرب التحرير ومعاركها؟ هل دورهم في الجهد الرئيسي للعمليات فقط؟ هل هم قوات إسناد ومؤازرة وتغطية عن بعد؟ هل بيئتهم السياسية تسمح لهم بخوض معركة أنت تحدد زمانَها ومكانَها؟ ما هو الظرف الأنسب لهم من الناحية السياسية والتعبوية لدخولهم شركاء كاملي الشراكة لك في هذه المعركة؟ ما سقف تحملهم لأكلافها؟ ما هي أهدافهم ومصالحهم الذاتية من هذه المعركة؟ و ... . 


5. الاتجاهات الرئيسية لمحاور الجهود العسكرية:

كما هو معروف فإن أي عمل عسكري يقسم إلى ثلاثة جهود عمل تُخصص لها القدارت بناءً على الهدف المطلوب تحقيقه في كل جهد منها، فالجهد الرئيسي للعمليات هو الذي يأخذ النصيب الأكبر من القدرات البشرية والمادية واهتمام القادة وتوجههم، ثم يليه الجهد الثانوي ثم الجهد الخداعي، هذه الجهود تأتي ضمن ما يعرف بالاتجاهات الرئيسية للعمليات العسكرية، وعليه ما هي الاتجاهات الرئيسية لمعركة التحرير الحاسمة التي كثر الحديث عنها؟ هل الاتجاه الرئيسي سينطلق من غزة مثلاً؟ أم شمال فلسطين حيث حزب الله ومن خلفه الحلفاء؟ ماذا عن الواجهة الشرقية لفلسطين المحتلة الممتدة على طول 450 كلم وتحتوي أكبر مخزون لجوء فلسطيني؟ ماذا عن الضفة ومناطق الثمانية وأربعين؟ إن هذا التحديد بحاجة إلى بحث تخصصيّ تفصيليّ دقيق برؤوس باردة، وبناء على معطيات وليس استناداً إلى رغبات ولا تمنيات، فمعركة التحرير الحقيقية لا تملك ترف خوضها بناء على قاعدة  التجربة والخطأ، ثم أخيراً ما هي المراحل التي ستُقسم على أساسها المعارك؟ وما مؤشرات بلوغ أو إنجاز كل مرحلة من هذه المراحل؟.

   

6. الجهود السياسية المصاحبة للعمليات العسكرية:

قيل في تعريف الحرب أنها مفاوضات سياسية ولكن بأدوات خشنة، وقيل أن الحرب تأتي من أجل (خلق) مواقف تعبوية ميدانية يمكن أن تنعكس على طاولة المفاوضات كنصوص سياسية، كما قيل أنه إن كانت الحرب زراعة؛ فالسياسة حصاد، وعليه؛ ما هي الجهود السياسية المطلوبة لمواكبة هذه العمليات العسكرية؟ ومن هم أصحاب الشأن الداخليين والخارجيين الذين سيقومون بهذا الدور؟ وما هو مستوى التفويض الممنوح لهم في دورهم هذا؟. 


7. قدرات العدو الذاتية والجانبية: 

يخطئ القادة كثيراً عندما يبنون تقديراتهم لقدرات عدوهم بناءً على ما يرونه عنده فقط، ويغضون الطرف أو لا يقيمون حساباً معقولاً لما يمكن أن يصب في خزائنه ومستودعاته من قدرات قتالية عند طلبه لها، فيطول أمد الحرب وتتعقد مواقفها، ولنا في حرب أوكرانيا الحالية خير دليل، فقد صبّ الغرب من القدرات التسليحية ومن مختلف الأنواع على الجيش الأوكراني ما عقّد الموقف أمام القوات الروسية وجعلها تدخل في حربٍ -قيل في حينه- أنها بحاجة إلى شهر للخروج منها بموقف ميدانيّ يحقق لروسيا أهدافها السياسية ويحفظ لها مصالحها، فإذا بها تدخل الشهر الثالث دون تصوّر لحلٍ يلوح في الأفق! لذلك قبل أخذ قرار الحرب الحاسمة لا بدّ من التفكير الجدي والحساب المنطقي لقدرات العدو وما يمكن أن يُزاد عليها عند طلبه، ليس من أجل أن تثبّط الهمم أو تخور العزائم؛ وإنما من أجل وضع الإجراءات وأخذ التدابير التي تقلل من خطر ما يملك العدو من قدرات أو ما يمكن أن يستدعى عند الحاجة من إمكانيات.


8. تعريف النصر أو الهزيمة:

من أهم الأمور التي تطيل الحروب وتزيد في مستويات دمارها وما تلحقه من خسائر بشرية ومادية في الدول والشعوب؛ مسألة تعريف النصر الذي يجب أن يتحقق، فتقف آلة الحرب عند بلوغه، أو الهزيمة التي لا يمكن تحمل تكاليفها، فيُطلب وقف النار قبل إدراكها، كون بلوغ الهزيمة التامة؛ يعني موقفاً تمّت فيه خسارة أصول القدرة الرئيسية المملوكة من قبل الطرف المهزوم، الأمر الذي يعني تسليماً بكامل شروط العدوّ وإملاءاته، لذلك يجب أن يتم تعريف النصر والهزيمة قبل إطلاق أول طلقة أو خروج أول رشقة.

  

9. قدرة البيئة الداخلية على تحمل الخسائر المادية والبشرية:

إنّ القادة العسكريين الذين يخوضون المعارك يكونون في أغلب الأحيان محصّنين في غرف عملياتهم ومقرات قياداتهم، فلا يطالهم الخطر ولا تصلهم الأضرار، بل أكثر من ذلك؛ فقد ذهب العرف العسكريّ أن لا يتم استهداف كبار القادة حفاظاً على انتظام الشكل الكلي للحرب حتى لا ينفرط عقدها ولا يعود هناك قدرة على (لمها) أو السيطرة عليها، كما أن الجنود الذين يخوضون المعارك؛ هم أصلاً يمتهنون مهنة الموت التي أحد بنود عقدها الذي عقدوه مع قادتهم نيابة عن أمتهم، يقتضي سفك دمهم أو سلب حريتهم، لذلك فإن استشهدوا فهي أحدى الحسنيين التي خرجوا طلباً لها، ومع أنه يجب المحافظة على سلامة الجنود والسهر على راحتهم، إلا أن الأهم والأكثر إلحاحاً هو مدى تحمّل البيئة الداخلية -لنا ولعدونا- لخسائر الحرب وأكلافها! فالحرب ليست نزهة ولا هي مزحة؛ إنها نشاطٌ ستزهق فيه الأرواح وستدمر فيه المنازل والديار، وستختفي بسببها البنى التحتية للخدمات الاجتماعية، وعليه يجب على منظومة القيادة أن تمتلك تصوراً واضحاً وتقديراً دقيقاً غير حمّال لأوجه عن قدرة بيئته الداخلية على تحمل الخسائر، فلا تحملها فوق طاقتها، فتخذله مجبرة! كما يجب أن لا يخونه التقدير عندما يكون الحديث عن حرب مع عدو قاعدة السلوك فيها أن يكون أو أن نكون.

لذلك فقد لا تتحمل جبهة العدو أكلاف حرب غير مصيرية أو قد لا تتقبل ما يلحق بها من خسائر إن كانت الحرب غير ضرورية، فتنتفض في وجه قادتها طلباً لوقف الحرب، لكن إن كانت الحرب حرباً مصيرية ذات معادلة صفرية؛ فقد يجد القائد نفسه أمام بيئة معادية متماسكة مستعدة للذهاب في الشوط إلى آخره -فلا خيار لها سوى ذلك- مهما بلغت الأكلاف والتضحيات، وهنا لا بد الإشارة إلى أننا نقاتل الجيل الثاني لعدوّنا، وهو جيل ولد أكثرهم في فلسطين المحتلة، ولا يرى نفسه إلا (ابناً) لهذه الأرض، لا يعرف غيرها ولا يستطيب هوىً سوى هواها.   


10. المسارات الحرجة للعملية العسكرية:

فلكل حرب مساراتها الحرجة التي يجب التنبه لها، وتقدير سيناريوهاتها من أجل وضع التدابير والإجراءات للتعامل معها في حال حصولها، وهنا على منظومة القيادة أن تعرف هذه المسارات، فهل مثلاً يشكل ضرب مركز ثقل معين مساراً حرجاً قد يقلب التقديرات رأساً على عقب؟ أم أن خسارة بشرية كبيرة العدد -عندنا أو عند عدونا- قد تفرض علينا وعليه تشغيل قدرات نارية كنا ندخرها ولا نرغب في تفعيلها؟ ما هي هذه المسارات الحرجة التي تخرج التقديرات عن سياقاتها؟ يجب معرفتها والتحوّط لها . 


11. اليوم التالي للعملية العسكرية:

أخيراً ماذا عن اليوم التالي لتوقف الحرب؟ انتصرنا فيها أو هزمنا، فالنصر بعد الحرب يتطلب إجراءات بعده، وكذا الهزيمة، فقد تنتصر في معركة ثم يُجوف انتصارك ويفرغ من مضمونه إذا لم تكن قد أعددت العدة ووضعت الخطط لاستثمار هذا النصر وتلك الدماء والأشلاء التي زهقت ومزقت، وقد تُهزم فتتولد لديك طاقة جبارة على تعويض ما تهدّم وبناء ما تدمّر من بشر وحجر، المهم أن تمتلك منظومة القيادة تصوراً واضحاً عن اليوم التالي لصمت المدافع وزغردة الرصاص.

 

هذه بعض العناوين الكلية، وبعض تفاصيلها الجزئية التي يجب التفكير فيها من أجل بناء العزم على امتلاك تقديرات وقدرات معركة الحسم، وحتى لا يخطئ القادة ويبالغ الجواسيس (إقرأ ضباط المعلومات) فتقع الحرب في غير وقتها ولا ظرفها ولا بيئتها المناسبة.

"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". 



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023