متى تأخذ الدول قرار الحرب ؟

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

متى تأخذ الدول قرار الحرب ؟  

ما زلنا مشغولين في الحرب وملابساتها، وتحليل مقدماتها وتقدير مآلاتها، وهي شغلتنا وتشغلنا بها، كيف لا وهي من تترك آثارها وندوبها علينا وعلى محيطنا، فهذا شهيد وذاك ابن شهيد، وهذا جريح وتلك اسرته تعوده، حزينة عليه، لكنها ترى في حياته مع جراحه أمراً أفضل من فقدانه، أسيراً أو شهيداً، فالتغييب محزن، شهادة كان أم أسراً، وقد حزن خير الخلق صلى الله عليه وسلم على عمه، فبكاه، والحرب كره كما وصفها ربنا عز وجل، العالم بخبايا النفوس ومكنوناتها، ولا يُلجأ لها عند كل شاردة وواردة.

نكتب ونحن نرقب هذا اليوم الذي استنفرت فيها قوى المقاومة في غزة ومحيط فلسطين قواها تحسباً لما قد يقدم عليه عدونا من حماقات في القدس خصوصاً وفلسطين عموماً، في اليوم الذي يطلق عليه يوم " مسيرة الاعلام"، نكتب بعد أن مُلئت منصات التواصل الاجتماعي بدعوات يا " غزة يلا " ويا " ضفة مشان الله "، نكتب ويكتب غيرنا، ونحن وهم في أجواء أقل ما يقال عنها أنها أفضل بكثير من تلك التي يجتمع فيها قادة المقاومة ومسؤوليها وكوادرها ومتصدي تشغيل القدرات النارية فيها وأعينهم على خرائط بنك أهداف العدو، وقلوبهم مشغولة بما قد يجره قرارهم من رد فعل معاد، يسقط فيه شهداء وتسفك فيه دماء وتدمر فيه حواضر ويتطاير على أثره جنى عمر الكثيرين، نكتب ونحن متحررين من كل الضغوط ـ يمكن نكون نشرب نسكافيه كمان ــ النفسية والبدنية والعضلية، أما هم، فتنوء كواهلهم بأثقال قرار تنوء بحمله الجبال ولا يشبه في شيء شرب الماء الزلال.

نكتب بهدف الإضاءة على بعض الدوافع التي تحمل الدول ـ يمكن أن يقاس عليها شأن حركات المقاومة ولكنه قياس مع الفارق ـ  إلى أخذ قرار الحرب بما يحمله من تبعات وما يتخلله من خسائر وإصابات.

 فنقول أن الدول المستقلة المستقرة لا تلجأ إلى قرار الحرب إلى في آخر المطاف، وعندما تجد نفسها في موقف يشبه بعض الآتي من المواقف:        

1. عندما تصل الوسائل الدبلوماسية إلى طريق مسدود: فالدول في متابعتها شأن تأمين مصالحها ومتطلبات رفاه شعوبها تسلك سبل السياسية والمفاوضات والحديث الناعم الذي يرجى معه تأمين تلك المصالح والمحافظة عليها والدفاع عنها، فإن هي أخفقت في ذلك، لجأت إلى طرق أكثر خشونة من الحديث الناعم السلس، من مقاطعة سياسية وتجيش المجتمع الدولي إلى صفها لتأييد سرديتها وتبني نظريتها، ثم تخطو خطوة أخرى نحو الحصار الاقتصادي إن كانت قادرة عليه، وفي حال لم تلفح كل تلك الطرق، فلا يتبقى أمامها سوى القوة، تلويحاً بها وحتى الوصول إلى تشغيلها، وما يمكن أن يحمله هذا الشغيل  من تبعات مادية وغير مادية .  

2. عندما تتعرض مصالحها الحيوية للخطر: وكذلك الأمر فإن الدول التي تبني جيوشاً وتراكم قدرات، فإنها لا تقوم بذلك من أجل الاحتفالات والاستعراضات ـ وإن كان بعضها يفعله لذلك ـ، وإنما تقوم ببناء هذه القدرات من أجل الدفاع  عن مصلحها الحيوية، بدأ من الحفاظ على وحدة أرضيها وأقاليمها، ومروراً بوحدة شعبها والحفاظ عليه من التفتت والتشرذم، وليس انتهاءً بمتطلبات الحياة الكريمة له، ضمن تعريف واضح ومرتب حسب الأولية لمنظومة المصالح والمتطلبات تلك، المادية منها وغير المادية.

3. عندما لا تقيم وزناً لعدوها: فليس كل أعداء  الدول من الأعداء الذين يحسب لهم حساب، أو يخشى لهم عقاب، لذلك فعندما تصل الدولة في علاقاتها مع دولة أخرى إلى حالة من التأزم والاستعصاء، فإن كانت هذه الدولة من صنف الدول الذي لا يخشى جانبه ولا يحسب الحاسب لعواقبه، لا تتوانى بعض الدول في شن حرب على هذا العدو، تحقيقاً لهدفين، أحدهما قريب وهو حل ما استعصى مع هذه الدولة أو ذاك النظام، والثاني هدف بعيد مرتبط بناء هالة من القوة والهيبة لنفسها، يراها أعداؤها فيخشون جانبها، بناء على قول المثل الشعبي ( اضرب المربوط بخاف السايب ).  

4. عندما تصل تقديراتها إلى أن أكلاف الخروج الآن لتحييد تهديد في حال التشكل أقل مما هي عليه مستقبلاً: فالتهديدات التي تعترض الدول لا تولد مباشرة وهي تحمل مخاطر وجودية لا يمكن التنبؤ بها أو تحمل آثارها، وإنما تبدأ هذه التهديدات بالتشكل والتبلور والتعاظم  مع الأيام، وفي هذه الأثناء تكون أعين الدولة بمختلف أجهزتها المختصة شاخصة على هذه التهديدات، ترقبها وترى سير تطورها ومدى الخطر الذي بلغته أو ما يمكن أن تصله، فإن وصلت تقديرات الدول إلى أن الخروج لتحييد هذا الخطر الآن أفضل وأجدى وأقل كلفة مما لو سُكت عنه، عندها يتَقَرر الخروج وتحمل الأكلاف، قبل أن تصبح غير محتملة في مستقبلاً، وقديماً قيل: إذا هبت شيء فقحمه .

5. عندما يتم الاعتداء على حلفائها الذين تربطها بهم معاهدات دفاع مشترك: فما كل الدول تطيق تحقيق أهدافها منفردة، ولا تستطيع تأمن متطلبات بقائها منعزلة، فتلجأ إلى عقد الصداقات وفتح العلاقات وبناء الأحلاف والمعاهدات، فمنها ما تؤمن به المصالح، ومنها ما تسد به النقائص، ومنها ما يدفع به ضرر ويستعان به على عدو، والدول في علاقاتها مع غيرها من الدول والكيانات السياسية، لا تمارس فعل جمعيات العمل الخيري، ولا سلوك النوادي الرياضية، وإنما هي مصالح متبادلة ومنافع متقاسمة، والعلاقات الدولية والسياسية طرق ذات اتجاهين، فما تقدمه باليمين، ترجو أن تلقى عوضه باليسار، وما تنفقه ـ مادياً ومعنوياً ـ  على حليف يوم السبت، ترجو أن يعوضه لك يوم الأحد. فإن صادف أن اعتدي على أحد حلفائك أو أصدقائك الذين تجمعك بهم في أحلاف من نوع أحلاف الدفاع المشترك، فإنك ستجد نفسك مرغماً على أن تكون شركياً في حربه وسلمه، وعندها يحضر قرار الحرب والخروج لها على طاولة القرار.

6. عندما يعترضها تهديد وجودي، المبادرة لضربة أفضل من السكوت عليه: هذا الموقف يشبه إلى حد ما قيل عن الموقف في النقطة الرابعة، مع فارق في أن التهديد هنا ليس في وضع التفعيل أو الخروج إلى حيز الفعل، وإنما هو من النوع الذي يبقى شاخصاً أمام منظومة القرار دون أي مؤشر أو قرينة على أنه سيخرج إلى حيز الفعل، وأن ما يمنعه هو فقط قرار التفعيل عند الجهة المعادية، لذلك تجد الدولة المُهددة نفسها في موقف مضطرب غير مستقر لا يستقيم أن يطول زمنه، فتأخذ الدولة قرار الخروج للحرب بعد أن تكون تقديراتها كلها تشير إلى أن الخرج للحرب كفيل بتحييد هذا التهديد، فتحمل عليه، وتقطع تلك الشعرة التي يتدلى منها فوق رأسها سيف ديموقليس الذي يهددها كل ساعة وكل حين، رائدها في ذلك المثل الشعبي " اللي بقع من السما بتتلقاه الأرض " .  

7. عندما يتعرض أمن مواطنيها ــ الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والاتني ـ إلى خطر: فمنظومات الحكم والإدارة من حكومات ووزارات ما هي إلا وكلاء عند  أصلاء ( اقرأ الشعب ) تنازلوا لهم ــ للحكومات ـ عبر عقد اجتماعي تراضوا عليه سوياً، وتنازل الأصلاء عن بعض حرياتهم وخصوصياتهم، في مقابل تأمين متطلبات عيشهم الجماعي وأمنهم الحياتي، وعليه فإن تعرض أمن مواطني الدولة بمختلف صنوفه إلى ما يهدده أو يعبث به، فإن منظومة الحكم ومن باب الوفاء بعقدها مع مواطنيها، وفي حال تعذرت السبل والطرق الناعمة ونصف الخشنة عن الدفاع عن أمنهم، ستجد نفسها أمام موقف لا خيار معه سوى أخذ قرار الحرب وتحمل تبعاته وأكلافه.

8. عندما تتعرض رموزها البشرية والمادية، الدينية والسياسية والاتنية والاجتماعية إلى تهديد: فالدول والوحدات السياسية لست أسماء في الهواء، ولا هي هندسة في الفراغ، بل هي مجموعة من الأسماء والمصاديق والرموز البشرية و المادية الفعلية القابلة للمشاهدة والرؤية، فهذا شخص وتلك منشأة تختزل فيهم معاني السيادة الوطنية، وترى فيهم مفردات العقيدة الدينية، وأي تعرض لهم، يعنى إهانة وطنية دونها المنية .    

هذه بعض الحالات والمواقف التي عندما ترى الدول نفسها أمها، فإنها تضع على طاولة قرارها أمر الحرب، فتنظر فيه وتقلب الرأي حوله، وتحسب حساباتها، فلا تندفع إلى موقف يجرها له عدوها، فتخوض الحرب في الزمان والمكان الذي يريده وفقاً لجدوله الزمني والمكاني، بل تحرص على أن تأخذ قرارها برأس بارد وبقلب مطمئن، على قاعدة أن الحرب وإدارتها هي فعل وليست انفعال، فلا تنساق منظومة الحكم أو القيادة خلف الأصوات العالية، ومنصات الحوار الفرضية، أو وسائل التواصل الاجتماعية، فليس أعقد وصعب من الحرب إلا قرار شنها وإطلاق صافرة بدئها، التي إن العلم الكثيرون متى وكيف تبدأ، فإن أحد لا يعرف متى وكيف تنتهي . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين  

30 05 2022



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023