يعتقد صانعو السياسة في الكيان أن التحذير من الأخطار الوجودية التي تتعرض لها الدولة العبرية يوحد الناس نحو مواجهة تلك الأخطار، باعتبار أن المصير المشترك هو ما يوحدهم.
لسنواتٍ طويلة منذ نشأ الكيان؛ كان العرب يشكلون المحيط المعادي له، ويجب الوقوف بصلابة أمام هذا التهديد العربي، ولكن مع زوال التهديد بتبعية العرب للكيان ضمن المصالح المشتركة، أو بالتصالح مع الصهاينة لأبعد حد كما البحرين والإمارات والمغرب وغيرها؛ فإن نظرية "اصنع عدوك يتوحد شعبك" بدأت تتساقط، لذلك كان يتم بين الفينة والأخرى الاعتماد على الخطر الفلسطيني كخطر يمكن استخدامه بين الفينة والأخرى كواجهة تحذيرية للتهديد الوجودي، إلا أن اتفاق أوسلو ومخرجاته جعل جزءًا مهمًّا من المنظومة السياسية الفلسطينية تعبر عن نفسها بأنها أفضل حليف للمنظومة الصهيونية -وتحديدًا الأمنية-، وهذا ما قلل في عقل سكان الكيان خطورة الحالة الفلسطينية بخلاف الوضع في قطاع غزة المسيطَر عليه بشكل مرَضي.
الحل نحو إيران النووية، الداعم الرئيسي للإرهاب في المنطقة بحسب الرواية الصهيونية، والتي تشكل الخطر في أنشطتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، ثم قطاع غزة، ولكن على ما يبدو فإن الخطر كان كامنًا في تركيبة الكيان الصهيوني أو منظومة التدمير الذاتي في السنوات الأخيرة، ففي العامين الماضيين تم إجراء انتخابات أربعة مرات، مما يؤكد نظرية التدمير الذاتي التي تدور على عدم الاتفاق بين مكونات المنظومة السياسية، لتعود من جديد النصوص التاريخية الكيانية اليهودية التي كانت قائمة في البلاد، وتحديدًا الخراب الثاني للهيكل رمز الكيانية، ومفادها أن اليهود في الأصل هم أبناء الشتات وبقايا الهجرات القديمة، تجمعوا في البلاد تحت حكم الرومان بالقوة، ولاحقًا تمردوا وهُدم الهيكل.
السؤال: "لماذا تمردوا؟"، كانت تلك الكيانية تحكم ضمن نوع من التحالف الديني السلطوي، فالجانب الديني يسيطر على رمز الكيانية "الهيكل" كما يدعون، ويديرونه بمناسباته وطقوسه، أما الجانب السياسي فهو المستفيد من المنظومة الدينية وما تحققه من تبعية وعبودية الشعب للإله، الضحية كان الشعب الذي يعيش في نوع من الانفصال عن الذات، فإيمانه يدفعه للتسليم بهذه المنظومة المركبة والظالمة، في حين تدفعه احتياجاته للتمرد عليها.
ما بين الجوع والإيمان حصل التمرد على رجال الهيكل "الأحبار الكبار" سعيًا في تحقيق العدالة، ثورة الجياع تلك قادت السكان إلى الفعل وردات الفعل تجاه الجميع، فتم إزاحة الأحبار الكبار كونهم رأس الظلم الاجتماعي والديني، ومن ثم استهداف المنظومة الحاكمة ذات الشكل الملكي، وصولًا إلى الخط الأحمر الذي لم يكن مسموحًا أن يتجاوزوه، وهو استهداف التواجد الروماني في البلاد، ليتحرك جيش الإمبراطورية لمواجهة هذه الثورة وسحقها، أربع سنوات من الحصار لمواجهة هذه الثورة وسحقها، أربعة سنوات من الحصار في القدس والخارج، ليتم سحق ثورة الجياع أمام الخلاف الداخلي والاستهداف الخارجي.
يتكرر المشهد اليوم بين الاختلافات المركبة العديدة في الداخل سياسيًّا واجتماعيًّا إلى قائمة الأعداء الكثر والمتربصين بالدولة في الخارج، يجد الوعي اليهودي نفسه من جديد أمام ما حصل في فترة الخراب الثانية.
الكيان الصهيوني هو وليد للسياق اليهودي، قادم من بقايا اللجوء والشتات، والمركبات الاستعمارية الجديدة اغترفها من البحر الاستعماري الأوروبي، ليتم إقامة الكيان وسط إقليم معادي يرفض هذا الوجود الشاذ.
اليوم الانشقاق ليس نابعًا من الفكرة الشيوعية أو الرأسمالية، أو بين الليبراليين أو اليساريين، لكن الحديث يهود صهاينة ويهود غير صهاينة في الفكر والممارسة، بالإضافة إلى الخطر والتهديد الديموغرافي الفلسطيني والسياسي، عدا عن وجود مشروع استراتيجي يقدم رؤية للدولة عما ستصبح عليه بعد مئة عام، إلا أن الكيان الصهيوني حتى اليوم لم يحدد له حدود سياسية يعتبرها أطراف دولته الجامعة، وصولًا إلى التباين العميق في الشخص الحاكم للبلاد، والخلاف عليه ببعده الشخصي وليس البرامجي.
إن مقومات الاختلاف والتباين بين اليهود في جغرافيا فلسطين لا تصب في صالح الكيان الصهيوني اليوم، ولكن على أصحاب النباهة أن يلتقطوا هذه الحالة ويعيدوا تقييم كل ما يمكن فعله من أجل إزالة الكيان الصهيوني عن الأرض الفلسطينية.
الأسير الكاتب/ إسلام حسن حامد 17/6/2022م