قراءة هادئة بعد أيام صاخبة!!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أما وقد وضعت (الحرب) أوزارها، وانقشع غبار المدافع والراجمات، و(هدأت) النفوس وحان وقت المراجعات، دعونا نعيد قراءة المشهد من جديد علنا نجد فيه ما يفيد، وبعيداً عن (العراضات) وحديث رفع المعنويات، واقتراباً من العرض الموصل إلى استخلاص العبر، وحتى لا يقال أننا ندعي الحكمة بأثر رجعي؛ فقد آثرنا أن نعيد صياغة بعض ما كتبناه على مدار ثلاثة أيام حول معركة "وحدة الساحات" أو ما أطلق عليه العدو معركة "الفجر الصادق"، في عناوين ثلاثة: ما قبل المعركة، وأثنائها، وما بعد أن هدأ هدير مدافعها.


المشهد الأول: ما قبل المعركة:  

لا شك أن من بدأ المعركة هو العدو، بعد أن بادر باستهداف الشهيد "تيسير الجعبري" بقصف المكان الذي كان يدير عمله منه موجه أربعة صواريخ -هذا ما شاهدته من خلال ما نشر من مقاطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي- دقيقة إلى شقتين سكنيتين، حيث بدى أن العدو لم يحدد مكان الشهيد بشكل دقيق؛ فوجه صواريخ حقده إلى شقتين سكنيتين متجاورتين، على دفعتين حتى يتأكد من تدمير الهدف وتحييد الأشخاص المطلوبين، محققاً مفاجأة تكتيكية من العيار الثقيل.

بدء العدو معركته بضرب "مركز ثقل" بشري للإخوة في الجهاد الإسلامي، الأمر الذي أثار عندنا -وعن غيرنا من المراقبين- مجموعة تساؤلات، خلاصتها أن هذه المفاجأة ما كانت لتكون لو أننا أحسنا قراءة المشهد وقرائن الميدان، ولم نحسن الظن بمن يدعي (حرصاً) علينا، ونحن نعلم علم اليقين عكس ذلك.

وإليكم تفصيل المشهد قبل بدء المعركة، من مراقب بعيد، هاله نجاح العدو في تحقيق مفاجأة مع أن كل الشواهد كانت تقول أن أمراً ما يدبر له، وأن خلف الأكمة ما خلفها، فقد حفل الموقف بالقرائن الدالة على إمكانية حدوث أمر ما، وجب الانتباه له، وعدم الركون لما يقال وينقل من تطمينات، من هذه القرائن:

1. أنه لم يكن هناك ما يشي بأن تصعيداً من الأخوة في الجهاد على وشك الحدوث، خاصة بوجود الوساطة المصرية، وأن أمر اعتقال الشيخ بسام السعدي، أمراً من الممكن التعامل معه عبر الوساطات، أو ترك الأمور تأخذ مجراها الإداري، فليست المرة الأولى، ولم تكن ولن تكون الأخيرة التي يعمد فيها العدو لاعتقال الشيخ أو من هم في مكانته التنظيمية أو الشعبية.

2. لا شك أن الأخوة في الجهاد قد استنفروا على طول خط الجبهة وأنهم كانوا يتحينون فرصة للرد أو التلويح بالرد على عملية الاعتقال، الأمر الذي دفع العدو إلى رفع حالة الجاهزية لدى قواته، وفرض حالة طوارئ على سكان غلاف غزة ومنع الحركة على خطوط المواصلات القريبة والبعدية بحيث أخرج الأهداف الممكن ضربها خارج مديات الأسلحة والقدرات النارية الممكن تشغيلها للرد على عملية الاعتقال.  

3. دخل الجانب المصري على خط الواسطة بين الأخوة في الجهاد الإسلامي والعدو، الأمر الذي لا نعرف تفاصيله ولا ما جرى فيه، لكنه من الأمور التي استغلها العدو في تهدئة حالة الغليان عند الإخوة في الجهاد، وخفض -فيما نحسب- درجة الاستنفار ودرجات التحوط والتأمين حول مراكزهم وكوادرهم، ولو أحسنا قراءة سلوك الإدارة المصرية معنا ومع عدونا، واستناداً لما هو معروف عن علاقته مع هذا العدو؛ لما حصل ما حصل، ولما حقق العدو مفاجأته.  

4. مع ذلك فقد أبقى العدو حالة الاستنفار على كامل خط الجبهة ونشر القبة الحديدية قبل عملية الاغتيال  ولم يسمح للمغتصبين في غلاف غزة بالعودة إلى الحالة الطبيعية وأبقاهم في حالة طوارئ، وطلب منهم التحلي بالصبر!!

5. حضر رئيس هيئة الأركان ووزير الجيش وقائد المنطقة الجنوبية في جلسة تقدير موقف وفي الميدان مباشرة، ثم خروج رئيس هيئة الأركان لتفقد بعض مناطق الجبهة بكامل لباسه العسكري -سلاح وجعبة- مع قائد فرقة غزة حيث ظهر الرجلان وهما يراجعان الموقف عبر نشر  للخرائط في الميدان، وعلى غطاء محرك السيارة التي كانت تقلهما، وهذه دلالة يمكن أن تقرأ على وجهين؛ إما أن الأمر روتيني بحت، فلو كان هناك أمر بشن عملية؛ فمن المنطقي أن لا يكون رئيس هيئة الأركان في الميدان بهذا الشكل الصاخب، وإنما في غرفة العمليات المركزية في وزارة الجيش، أو في غرفة العمليات الميدانية في المنطقة الجنوبية، ويمكن قراءة المشهد على أنه رسالة تطمين أن لا أمر عمليات في الأفق، لاستكمال إجراءات الخداع وتحقيق المفاجأة، وهنا تحمل الأمور على الأسوأ وليس على الأحسن، الأمر الذي -فيما نحسب- حُمل على المحل الأول، فوقع المحظور!!

6. أن ظهور رئيس هيئة الأركان بكامل عتاده -ما عدى خوذة الرأس- في الميدان مع بقاء حالة الطوارئ لسكان المغتصبات، قرينة مهمة على أن أمراً ما كان يدبر، فما كان لرئيس الأركان أن يخرج على الصورة التي خرج فيها ويبقي سكان المغتصبات تحت حالة الطوارئ إلا زيادة في الجهد الخداعي، فهو في الميدان وليس في غرفة العمليات، يعني أن لا حرب، ولكن مجرد بقاء المغتصبات في حالة طوارئ كان يكفي المتابع صاحب الاختصاص ليعلم أن هذا الإجراء الذي يقوم به رئيس هيئة الأركان إجراء خداعي، فما كان لــ "كوخافي" أن يغامر بأمن المستوطنين، وإن خاطر هو بأمنه إلا لأمر ما، يقرأ على أنه مشاركة في الجهد الخداعي.  

هذه القرائن كلها كانت ظاهرة ومشاهدة من قبل أهل الاختصاص، فإذا كان المرقب عن بعد قد شاهدها؛ فمن باب أولى أن من هم في الميدان قد شاهدوها ورأى ما هو أكثر منها، ولكن كيف قرأت هذه القرائن؟ وكيف تم تحليل خلفيتها وقراءة ما بين سطوره؟ وكيف تم تقدير نوايا العدو من خلال جميع هذه القرائن؟

هذا أمر لا نملك جواباً عليه؛ وإنما يمكن التكهن بأن صاحب الاختصاص في هذا المجال قد شاب تقديره شوائب، ووقع في فخ حسن الظن والبناء على أفضل التقديرات، في الوقت الذي يجب أن يبنى فيه في مثل هذه المواقف على الأسوأ، خوفاً من الوقع في الفخ.


المشهد الثاني: حول إطالة زمن الحرب:  

حيث كثر الحديث من المراقبين ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي عن سير المعركة، وما يجب وما لا يجب فيها، وبدأنا نقرأ ونسمع ونشاهد عبارات من قبيل: يجب أن! ولا بد من! وكان من الأفضل أن يكون! وفوراً لا بد من الإجراء الفلاني! وحالاً يجب.. ! وفي التو والساعة! والكل يقرأ ويحلل ويصدر التقديرات، ويعتقد بعضنا أنه  زرقاء اليمامة، وأنه  يرى ما لا يراه أهل الميدان، والمشتبك والمحتك مع آلة العدوان! وهنا أيضاً يحصل الخلط بين ما هو عقل ومنطق وضرورات ميدان، وبين ما هو عاطفة، ناتجة عن قلة الخبرة أو عدم امتلاك المعلومات والمعطيات.

وانصب الحديث والتركيز على سبب إطالة زمن المعركة، وهل أنها لم استنفدت أهدافها، وأن لا طائل من مد زمنها، وقلنا في حينه أن الحرب بعد أن تبدأ؛ يعرف الكل متى وكيف بدأت، ولكن أحداً لا يعرف متى وكيف ستنتهي، هذا في الأصل أو في الفهم العام، لكن عندما يقرر طرف إطالة زمن الحرب فإنه يقرر ذلك بناء على مجموعة من المعطيات والخلاصات والتقديرات كلها ترتكز على بعض الأمور، والتي منها:  

1. أنه يراهن على تطور الموقف مستقبلاً بما يحقق له مكاسب -مادية ومعنوية- أفضل مما لو أعلن وقف الحرب الآن.

2. يتحين فرصة يساعده الموقف فيها على إدخال وسيلة قتالية أو استخدام تكتيك حربي ما يجعل موقفه أفضل من موقف عدوه.  

3. يراهن على نقطة ضعف لدى عدوه يعتقد أن إطالة زمن الحرب سوف تحولها إلى مكمن خطر غير قبال للتغطية، فيسدد لعدوه ضربة من خلالها، فيصبح موقفه أفضل من موقف عدوه.

4. أن لديه من القدرات والإمكانات ما يمكنه من خوض حرب استنزاف طويلة الأجل، قادر على تحملها، على اعتبار أن ليس لديه ولدى حاضنته الشعبية ما يخسرونه، وأن نَفس عدوه أقصر من نفسه في هذا المجال، فيرخي للحرب العنان إلى أن يصل إلى ذاك الموقف الأنسب له والأضر لعدوه.

5. أنه يراهن على دخول حليف أو صديق -قرب أو بعيد- معه في خضم معركته، ويحتاج هذا الصديق أو ذاك الحليف إلى وقت ليستعد ويرفع جاهزيته للدخول في المعركة، فيمنحه ذاك الوقت أملا في تحول الموقف لصالحه بمجرد دخول صديقه في معركته.

هذه بعض الأمور التي تساعد على فهم سبب إطالة زمن المعارك -مطلق معارك- أو جولات الاشتباك مع أي عدو متصور يمكن أن تخوض معه حرباً.  

في غير هذه الصورة وتلك المبررات، يصبح زمن إطالة الحرب، ترف ولا طائل منه ويجر خسائر مبرر لها.


المشهد الثالث: حول مشاركة حركة حماس في المعركة:  

ثم تلى ذلك، النقاش الذي اشتعل على منصات التواصل الاجتماعي، وحار فيه المحللون وداروا على شاشات المحطات والمنتديات، و(قامت قيامة) الكثيرين، وطار الشرر من أعينهم وهم يتساءلون عن سبب عدم دخول حماس في هذه المعركة، مع أن أكثر من مسؤول من مسؤولي حركة الجهاد الإسلامي قال أنهم وحماس في خندق واحد، وأن لا صحة لما يقال أنهم تركوا لوحدهم، وقال البعض أن حماس تدير المعركة من تحت الطاولة، وهنا قلنا في حينيه، أن لا تبدو حركة حماس للمتابع عن بعد -ونحن منهم- أنها مشاركة في المعركة عبر إطلاق رشقات أو تسديد صليات، هذا لا يعني أنها لسيت شريكة في المعركة بصورة أو أخرى.

ولفهم الموقف قلنا أن عدم ظهور حماس بشكل فاقع في المشهد يعني أن جهة ما في مكان ما قالت: هذا هو الدور المطلوب حالياً ونكتفي به، أما لماذا فقط هذا هو الدور المطلوب في هذا المقطع الزماني فجوابه عند من أخذ قراره.

وقلنا أيضاً أن يقرر طرف ما الدخول في المعركة فهذا يعني:  

1. أن الجهد الحالي والقدرات التي تم تشغيلها لم تعد تكفي للنهوض في وجه التهديد والمخاطر الحالية.

2. أن الموقف يتطلب رفع سقف التصعيد الحالي درجة أعلى، وأن بقعة زيت النار والدمار يجب أن تزيد.

3. أن منطقة العمليات يجب أن تتسع لتشتيت الجهد المعادي ومنع العدو من الحشد والتركيز.

4. أن جبهتنا الداخلية قادرة على تحمل  أكثر مما تتلقى حالياً من ضربات يوجهها العدو لها.

5. أن هدفاً ما نريد تحقيقه ويريد جهداً أكبر من الجهد الحالي، وقدرات أكثر فاعلية من القدرات الحالية.

6. أن قواعد للاشتباك، وخطوط حمر جديدة يراد وضعها ورسمها معالمها تتطلب تشغيلاً لقدرات أكثر مما شغل حتى الآن.

7. أن وقف إطلاق النار قرب وقته ومطلوب موقف ميداني أفضل مما نحن فيه الآن ولا يمكن الوصول له إلا بإدخال طاقات وتشغيل قدرات أكبر مما شغل حتى الآن.

كل هذه الملاحظات وغيرها الذي يطول سرده لا يملك جوابها إلا من يجلس في غرفة عمليات وينشر أمامه خرائط ويتابع مواقف ووضعيات، وغير ذلك لا يعدو غير اجتهادات وتحليلات وتخيل مواقف وفرضيات، ليس بالضرورة أن تكون مطابقة لما يتطلبه الفعل الميداني من إجراءات.

ثم مضت المعركة وحمي وطيسها وارتفع نقعها إلى أن وصلنا إلى المشهد الثالث والذي تمثل في وقف إطلاق النار الذي بدأ يوم الأحد 07/ 08/ 2022 الساعة 23:00 وهنا دخلنا إلى المشهد الأخير من هذه الجولة القتالية.


المشهد الثالث: ما بعد المعركة؛ خلاصات:  

لن نقوم بعمل تقييم شامل لما نتجت عنه هذه المعركة كون التقييم بحاجة لمعطيات ومعلومات وزيارات وجلسات مع من خاض هذه المعركة واصطلى بنارها، ولكننا نسمح لأنفسنا أن نسجل بعض الخلاصات والنتائج لهذه الجولة، والتي قد تجيب على بعض ما ثار من أسئلة، وتساعد في تقييم الموقف لاستخلاص العبر والدروس ، فنقول:  

1. أنه إذا أراد طرفٌ من طرفٍ أن يكون شريكاً معه في المصير المسير؛ فلا بد له من أن يشاركه في التقدير والتقرير.  

2. أن قرار الحرب؛ قرارٌ يخضع لمجموعة من المعايير والملاحظات والتقديرات، ثم يقاس بميزان الجدوى والأكلاف، وغير ذلك؛ فإن الخروج للحرب أو الاستمرار فيها، إنما هو عبث ولعب بمصائر الناس ومقدرات الأوطان.  

3. أن مالك القدرات القتالية إن تجمعت لديه قرائن وشواهد على أن عدوه قد أعد وجهز لما يمكن أن يحيدها أو يخرجها خارج الخدمة؛ فإن الموقف يتطلب منه إما أن يبادر إلى تشغيل هذه القدرات ضد عدوه قبل أن يخرجها من الخدمة، أو أن يقوم برفع إجراءات التأمين والحماية الخاصة بها، تحيناً لفرصة مناسبة زماناً و مكاناً ليقوم بتشغيلها.  

4. أن الحرب -قرارا ًوإدارة- لا يتم التعامل معها بالعواطف والمشاعر و(العنتريات)، وإنما هي فعل يحكمه المنطق والمصلحة، ولا يجب الخلط فيه بين ما هو شخصي وما هو عام، فشخصنة الحرب يعني الدخول في دوامة من القرار الخاطئة والمواقف المهلكة.  

5. لا تقيم نتائج الحرب ولا يقرر من انتصر فيها بناء على من أطلق الطلقة الأخيرة أو صلى الصلية النهائية، وإنما تقيم بناء على ما وضع لها من أهداف وغايات؛ في الميدان وفي السياسة، فالحرب تخاض لتحقيق منجز سياسي عجزت الدبلوماسية عن تحقيقه، وغير ذلك؛ عبث.  

كانت هذه قراءة هادئة بعد أيام صاخبة، رافقها شحن نفسي وعاطفي، ونقاش منطقي في بعضه، وغير عقلي في كثير منه، أيام اصطفى فيها ربنا خيرة من أبنائنا وإخواننا، شخصوا إلى مصارعهم وما تخلفوا عن تلبية واجبهم وأداء تكليفهم، وإنما الأيام دول.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين

08 08 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023