المقاومة في الضفة الغربية ... الكيف في مواجهة الكم!!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

تحدثنا كثيراً عن الحرب من حيث أنها أكثر النشاطات البشرية تعقيداً؛ فهي تحمل في نفس الوقت الشيء ونقيضه، ففي الوقت الذي تذرف فيه عيون رفقاء السلاح الدموع شفقة وخوفاً على رفاقهم، وتفيض حناياهم بالعاطفة تجاه مواطنيهم وأبناء شعبهم، في الوقت نفسه، يمارس نفس المقاتلين  أشد أنواع السلوك البشري قسوة وعنفاً؛ فيقتلون ويجرحون ويأسرون من عدوهم ما يمكّنهم من فرض إرادتهم عليه.

وقلنا أن الحرب لا بد لها من مقدمات تسبق شنها، أو التلويح بها كأداة من أدوات السياسية، وعلى رأس هذه المقدمات: تهيئة (عدة) شغلها من قدرات وإمكانات بشرية ومادية، أو ما يعرف اختصاراً بــ "القوة "، والتي قلنا أنها مركبٌ مكونٌ من جزئين رئيسيين هما القدرة والإرادة، فلا تنفع القدرة بدون إرادة لتشغيلها عند الحاجة، ولا تسعف الإرادة بدون قدرة تمنحها المصداقية.

والقوة من حيث التعريف بها تعد من أكثر المصطلحات سيولة وتعدد المعاني، فلا يكاد يجمع على تعرفيها باحثان ولا يتفق على كنهها عالمان، ولكن لفهم دينامياتها ومعرفة أبعادها تتم مقاربتها من زاويتين، الزاوية الأولى: الموارد -بشرية ومادية- وما تملكه الدولة أو المنظمة أو الحركة منها، أما زاوية الثانية فهي زاوية العلائقية، بمعنى ما ينتج عن هذه القدرة من آثار ونتائج، فالقدرة إن لم تستطيع فرض نتائج و(خلق) وقائع، فلا تعدو أن تكون ترفاً لا طائل منه، وحملٌ أكلافه أكثر من جدواه! لذلك أن تملك قدرات أكثر لا يعني أنك الأقوى! فمتمم هذه المعادلة وجود الكفاءة لجعل هذه القدرات قادرة على إيجاد الأثر المطلوب من جمعها ومراكمتها، فضلاً عن قابلية هذه القدرات أصلاً للتحول إلى أدوات فعل لـ(خلق) الأثر المطلوب.

كان هذا تقديم سريع في الإطار المفاهيمي للقوة والقدرة.

أما في أصل المقال والعنوان الذي عنون به فإننا سنتحدث بشكل سريع عن مقاربة "الكيف" العالي الذي تملكه المقاومة في فلسطين عموماً والضفة الغربية خصوصاً من الناحية المعنوية والتشغيلية، في مواجهة "الكم " المادي -الموارد- الذي يملكه العدو، حيث سنقارب هذه المسألة انطلاقاً من "التعريف التكويني" للعمل العسكري من حيث هو -العمل العسكري- أهداف ووسائل وطرق عمل، فالخصوم أو الأعداء إن رجحت كفة أحدهما على الآخر من حيث القدرات؛ نحى أقلهم قدرة إلى التركيز على الـ "كيف" الذي يمكّنه من معادلة كفة الصراع لصالحه.

لذلك فإن هذه المقالة سوف تخوض في الـ "كيف" المتعلقة بأهداف ووسائل وطرق عمل المقاومة في الضفة الغربية لمواجهة هذا العدو الذي ما فتئ يعيث فساداً في مدننا وقرانا، أملاً في أن ترجح كف معادلة صرعنا معه لصالحنا، فنحقن دماً عندنا هنا، ونلحق ضرراً عنده هناك .  

أولاً: في (كيف) الأهداف: تحدثنا في المقالة السابقة حول مجموعة "الأصول القتالية" التي تحكم أي عمل عسكري -نظامي أو عصابات- وقلنا أن أول أصل من الأصول هو " أصل الهدف"، وقلنا أن الهدف هو: ذلك الشيء المطلوب تحقيقه والوصول له، بحيث يتم حشد كامل القدرات وتخصيصها بما يساعد في الوصل للهدف بأقل الخسائر وأسرع الأوقات، وبناء على ما تقدم، سنتحدث عن الـ (كيف) المرتبطة بهذا الهدف، بحيث تساعد هذه الـ (كيف) الذاتية في التغلب على الكم المعادية، ومن هنا نقول أن الهدف المطلوب من قبل المقاومة العمل إنجازه يجب أن تتوفر فيه مواصفات من أهما:

1. متناسباً مع القدرات المتوفرة فعلاً: فليس من المنطق والا العقل -فضلا عن المصلحة- أن تختار المقاومة أهدافاً لا تملك من القدرات البشرية والمادية ما يمكنها من خلالها أن تحقيق تلك الأهداف، ففي هذا -عدم التناسب- من حيث المبدأ مفسدتين، من جهة: خسارة هذه القدرات التي يصعب تعويضها أو ترميمها، ومن جهة أخرى: تحميل البيئة الحاضنة أكلافاً هي في غناً عنها، خاصة وأننا في مرحلة مشاغلة واستنزاف للعدو، ولسنا في مرحلة خوض معركتنا الحاسمة معه، فإن كانت قدراتنا المملوكة تمكنا من الاحتكاك (بمغتصبة) هنا أو بؤرة لمغتصبين هناك، أو حاجز (طيار) في نقطة ما، فإنها قد لا تسعفنا إن دفعنا بها للاشتباك بمعسكر للجنود، أو مقر قيادة ميدانية أو حاجز ثابت، فتخير الملائم من الأهداف لما هو مملوك من قدرات؛ مظنة استنزاف العدو وتحقيق الضربات فيه.

2. لين سهل التأثير فيه: كما أن امتلاك القدرات التي لا تضاهي قدرات العدو كماً وكيفاً يفرض علينا أن نختار الأهداف اللينية، وتجنب الأهداف (الصلبة) صعبة المنال، التي تستنزف القدرات والإمكانات، فبؤر (الاستيطان) المؤقتة أكثر ليونة من (المغتصبات) الثابتة التي لها تشكيلات مدنية وعسكرية مكلفة بالدفاع عنها، وعربات نقل المغتصبين الذين يتحركون على الشوارع والطرقات، أقل تدريعاً وأبسط إجراءات من ناقلات الجند ومدرعات، فاحملوا على اللين وتجنبو الصلب.

3. معزول يطول زمن وصل نجدات العدو له: كما يناسب قدراتنا وما نملك من أسلحة ومهات أن نختار لها تلك الأهداف التي تحتاج زمناً أطول من غيرها لوصول نجدات العدو لها، فهذا الزمن نحن بحاجته للانسحاب والتراجع إلى نقاط انطلاقنا، قبل أن يُجلب علينا العدو بخيله ورجله، نجدة لما تعرضنا له من أهداف، وهنا لا بد من لفت النظر إلى أن المقاومين بحاجة إلى جهد معلوماتي كثير ودقيق قبل اختيار مثل هذه الأهداف، كما أنهم قد يكنوا بحاجة إلى عمليات "استطلاع بالقوة " بحيث يتعرضون لهذه الأهداف فقط من أجل معرفة قدراتها وما تملكه من دفاعات ذاتية، وكذلك لحساب زمن وصول قوات الدعم والتعزيز لها بغض النظر أكانت هذه القوات عسكرية نظامية تنطلق من معسكرات ونقاط تجمع، أم كانت مدنية تهب للنجدة من مغتصبات وتجمعات معادية قريبة.    

4. مختلف على أهميته و(شرعيته) من قبل العدو: يعلم أي متابع لشؤون العدو أن عنده أمور مجمع عليها وعلى (شرعيتها)، وأخرى مختلف على (قانويتها)، فما أجمع هذا العدو على قانونيته وأهمية وجوده؛ يوفر له كل المطلوب لحمايته، وما اختلفوا عليه؛ يخصص له الحد الأدنى من وسائل الحماية وأسباب الراحة، وعليه فعندما نختار هدفاً من المناسب أن نختار ما نعلم ومن خلال الجهد المعلوماتي أنه غير حائز أهمية تفرض على العدو حمايته وتخصيص القدرات للدفاع عنه، وهنا تكثر الأمثلة والنماذج، بدء من بؤر (الاستيطان) التي يفرضها المغتصبين بحكم الأمر الواقع على حكومتهم، وليس انتهاءً (بالمغتصبات) التي لا تشكل جغرافية وجودها نقطة مهمة في خطط العدو الدفاعية أو الهجومية.

5. مبرر الاحتكاك به والتعرض له: فالأهداف المعادية التي تشكل نقاط تضييق أو (تنغيص) على أهلنا ومواطنينا؛ مبرر الاحتكاك بها والاشتباك معها موجود على الصعيدين: الداخلي المحلي عند أهلنا وناسنا وبيئتنا الحاضنة، وكذلك عند العدو الذي يرى في مثل هذه النقاط والأهداف عامل استفزاز يدفع وجودها للاحتكاك بها وضربها، وهي عليه عبء أكثر منها فائدة، وتحقيق الانجازات من خلال ضرب مثل هذه الأهداف أسهل بكثير مما لو تم التعرض لغيرها، وهذا الإنجاز مطلوب لذاته كعامل تطوير وتنمية لقدرات المقاومة، وإكسابها الخبرة والدربة.

ثانياً: في (كيف) الوسائل البشرية والمادية: أما عن الوسائل المطلوب البحث عنها ومراكمتها والحرص على حمايتها، فنعتقد أنها يجب أن تتصف بالآتي من المواصفات:  

1. ما خف حمله وزاد أثره: وهذا لا يعني أن لا تتم مراكمة وجمع وتخزين أي وسيلة قتالية تتوفر لدينا، فما لا يمكن استخدامه الآن قد تتوفر ظروف تشغيله مستقبلاً، ولكن ما نقصده تحت هذا العنوان هو أننا بحاجة إلى جمع ومراكمة القدرات التي تتناسب مع الأهداف الحالية، والتي ستشغل في وقت ليس ببعيد، وما لا يدفع العدو إلى زيادة إجراءاته الأمنية التي ستحول دوننا والوصول إلى أهدفنا، كما نقصد بالوسائل: تلك التي لا تستنزف قدراتنا المالية والبشرية، هذه القدرات يجب البحث عنها ودرس سبل امتلاكها، وجعلها محل الأولية وعلى رأس قائمة الاحتياجات اليومية.

2. سهل التشغيل والاستخدام: فالتعقيد والصعوبة في عمليات التشغيل والاستخدام، يعني صعوبة في المناورة، ومظنة الانكشاف قبل الاحتكاك والاشتباك، كما يتطلب امتلاك مثل هذه القدرات فترات زمنية أطول لإتقان التشغيل، وحيازة الثقة بالوسيلة القتالية، فصعوبة الاستخدام وتعقيده يؤدي إلى انخفاض الثقة في الوسيلة القتالية، وهذا أمرٌ -فقدان الثقة- سيرى أثره سلباً عند العمل والاحتكاك مع العدو.    

3. بلا بصمات أمنية وصور (فيس بوكية): ففلسطين المحتلة من بابها إلى محرابها تعج بوسائل القتال وأدواته، فما لا تجده في الضفة الغربية تمتلئ به الأسواق في مناطق الثمانية والأربعين، وما هو (مسموح) المتاجر به -قانوناً أو تهريباً- أكثر بكثير مما هو ممنوع، والجهد الأمني للبحث عن الوسائل القتالية لجمعها و(لمها) من الأسواق، يتم وفقاً لأولية محددة قائمة على جمع أكثرها خطورة وأقلها تعقيداً عند التشغيل، ومثل هذا النوع من الأدوات (بصمته) الأمنية عالية وظاهرة، ومجرد الاقتراب منه يعني (الحرق) والانكشاف الأمني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأجهزة الأمنية المعادية تعمد إلى إنزال بعضاً من وسائل القتال لتشكل نقطة جذب وكمائن اصطياد للمقاومين -تذكروا الشهيد نضال فرحات-، لذلك يجب التنبه إلى مثل هذا الأمر، وعدم الوقوع فريسة مثل هذه  الألاعيب وعمليات الخداع.  

ثالثاً: في (كيف) طرق العمل: أما عن الضلع الثالث من ضلوع العملية العسكرية وهو ضلع طرق العمل وأساليبه، فمن المهم أن تكون هذه الطرق وتلك الأساليب مما تتصف بالتالي من المواصفات:  

1. مبتكرة جديدة: غير مستعملة من قبل -أو على أقل تقدير- لا يتوقع العدو حدوث مثلها في مثل جغرافيا العمل التي يدخلها ويعمل فيها، فجغرافيا منطقة العمليات تفرض على العاملين فيها نمطاً معيناً من طرق العمل وأساليبه، وهنا يأتي دور الابتكار والتجديد في طريق تشغيل وسائل القتال ووسائطه، وهنا تبرز المعلومات وحسن جمعها واستثمارها كمحدد رئيسي لتحدد كيف سيتم تفعل هذه القدرات، وتحقيق المفاجأة في العمليات.

2. لا تتطلب حشد قدرات بشرية ومادية كبيرة: فالكثرة تولد الضجيج، وتضيق هامش المناورة ومساحة الحركة المطلوبة لتسريع عمليات الاحتكاك والاشتباك والانسحاب، فسرعة وخفة الحركة أثناء الاشتباك والاحتاك مع العدو ومن ثم الإنسحاب؛ سبب رئيسي في تقليل الخسائر في صفوف المقاومين، وتجنب ردة فعل العدو التي قد تلحق بنا خسائر وتوقع فينا إصابات.  

3. لا تتطلب زمناً كبيراً لبدء العمل والانتهاء منه: كما يجب البحث عن طرق ونوع من الأعمال التي لا تتطلب زمناً كبيراً لبدئها أو الانتهاء منها، فالعدو لديه "زمن استجابة" لاظهار رد فعل عملياتي مقابل  أي تهديد قد يعترضه محسوب بدقة، وعليه فكلما قصر زمن العمل المقاوم، كلما قلة فرصة العدو في إظهار رد الفعل المناسب من طرفه على ذلك العمل؛ فتُسدد له الضربات، ويحرم من فرصة الانتقام الكر علينا.  

هذه بعض النقاط السريعة التي يمكن أن تساعد في تحسين وتجويد الـ"كيف" المقاوم في مواجهة الـ"كم" المعادي، نعتقد أنه إن أُحسن تطويرها وإنزالها على أرض الواقع بما يتناسب مع بيئة العمل ومحيطه، في لغة يعرفها المقاومين المحتكين مع العدو، فإنها ستساعد في حماية المقاومين والحاق الخسائر بالمحتلين.

والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

عبد الله أمين  

22 08 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023