المقاومة الذكية وقيادة المناطق المحروقة

بقلم/ أحمد أبو عبادة


من الجيد إدراك حقيقة ضرورة تأهيل العقل للتفكير والعمل على ما هو منطقي وواقعي لا على ما هو مأمول، ومن الجيد جدًّا استيعاب حقيقة أن الزمان لا يعود إلى الوراء، ومن الضروري مواكبة متطلباته على ما هو حالًا لا على ما كان سابقًا.

إن مع أهم العبر التي استخلصتها لجنة "فينوغراد"، التي تم تشكيلها بعد الفشل الذي مُنِيَ به جيش الاحتلال في حرب تموز حزب الله هو الفقر في التفكير، وقياسًا على ذلك؛ فمن المعقول أن نظن أن من الأسباب الأكثر أهمية في دراسة معضلة انحسار العمل المقاوم في الضفة، هي حصر العقل والفكر في محاولة استنساخ تجربة فترة في تاريخ العمل المقاوم، وهي تجربة السنوات الثلاثة الأولى من عمر انتفاضة الأقصى.

وبطبيعة الحال؛ فإن كثيرًا من الذين عاشوا تلك الفترة أو قادوا العمل المقاوم فيها، لا يستطيعون إخفاء حنينهم إليها وجعلها آلة القياس والمقارنة لأي عمل ممكن أن يلحقها؛ وذلك على الرغم من اختلاف كافة مدخلات المعادلة "المجتمعية، والثقافية، والوطنية، والإقليمية، والأمنية".

ولعلَّ قُرَّاء هذه السطور ممن هم على مقربة من ساحة الضفة الغربية؛ سيقودهم الفكر مباشرةً لاستحضار العديد من النماذج لكوادر فذة أقعدها وثبَّطها اليأس، وذلك لأنها لم تستطع الخروج من علة المقارنة تلك؛ وكانت النتيجة إيثار القعود ووقف العمل المقاوم على المبادرة لعمل مقاوم بالحد الأدنى بمعادلته الإرثية، وهو الحد المنطقي للمعادلة الواقعية.

ولعل من أبرز المغالطات التي قفزت إلى الفكر المقاوم؛ هي إطلاق مبدأ "الجدوى" من العمل المقاوم، والإصرار على جعله ذا مردود عملي على أرض الواقع لإعطائه "الشرعية"، فصحيحٌ أن المقاومة انتقلت خلال الـ 17 عامًا الأخيرة من مرحلة النكاية إلى مرحلة السيطرة والعمل برؤية ترنو إلى التحرير، إلا أنه ليس من الفطنة بمكان تعميم هذا المبدأ على كافة الساحات، فإن كان هذا المبدأ لازم وجدير بمنطقة محررة مثل قطاع غزة، فإنه يعني إنهاء والقضاء على المقاومة في منطقة محروقة مثل الضفة الغربية.

وقد كثر وتصاعد النقاش بين كوادر ومفكري المقاومة في ساحة الضفة حول الآليات التي عليها أن تسلكها أو القدرات التي عليها أن تمتلكها، وكانت آلية قيادة العمل المقاوم من الخارج من خلال مجموعة من مجاهدي الضفة، الذين كانوا أسرى وتم إبعادهم إلى الخارج أو إلى قطاع غزة في القلب من هذا النقاش، ولا نستطيع هنا التحدث بمثالية عن هذه الآلية؛ إلا أنه وفي نفس السياق فان وصفها "بالغبية" هو ظلم وإجحاف ومس قيمي بالصورة العامة للمقاومة، وتجريح بقادة شهدت لهم ساحات الوغى ببأسهم ونكايتهم، فإن أي عاقل يمكنه أن يلاحظ أنه على الرغم من تواضع النتائج وثقل الأثمان، إلا أن هذه الآلية ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على هوية وثقافة المقاومة في الضفة الغربية، والتي باتت في موقع الاستهداف من جميع الأطراف القريبة والبعيدة.

ومن خلال تفحص الإحصاءات التي تصدرها المراكز الأمنية في دولة الاحتلال، حول زخم العمل المقاوم في الفترة ما بين عام 2006م حتى عام 2014م، ومقارنته بفترة عام 2014م حتى اليوم، نستطيع الإجابة على الأقل عن التساؤل الذي يثور حول مدى جدوى هذه الآلية، وحجم الأرق وعمق الأزمة الأمنية التي سببتها هذه الآلية للاحتلال وأجهزته.

ونقوم هنا بتسجيل شهادة حية وصادقة من جولات مقارعة مخابرات الاحتلال في أقبية التحقيق، حيث أن ضباط مخابرات الاحتلال أبدوا انزعاجهم الشديد من حجم الضغط والأزمة التي تسببها هذه الآلية للاحتلال، وذلك من من خلال إيصال رسائل تهديد بالاغتيال والتصفية الجسدية لقادة العمل الخارجي بالأسماء، وكذلك تلميح مخابرات العدو عن استعدادها لتقديم تنازلات والقبول ببعض مطالب المقاومة، مقابل وقف آلية العمل الخارجي أو إخراجها عن الخدمة.

لا تَعُجّ الضفة اليوم بازدحام العمل المقاوم وآلياته، فإن كان من "آلية ذكية" لم ينتبه لها القوم تضمن تصعيد العمل المقاوم، فالضفة في توقٍ لاحتضانها، أما شل وتجميد العمل في انتظار "الآليات الذكية"، فهو بمثابة فتنة القعود والهدية المجانية التي يمكن منحها للاحتلال ، وإلى ذلك الحين فإننا لا نرى "أذكى" من الاستمرار بإشغال هذا العدو بما نملك ونستطيع.


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023