بين ترسيم الحدود البحرية وتبادل الأسرى

د. ناصر ناصر

كاتب وباحث سياسي

بقلم/ ناصر ناصر 


إذا تنازلت حكومة إسرائيلية "هشة"، وفي فترة عدم استقرار وانتخابات ومزايدات حساسّة أمام العدو (اللبناني)، وفي موضوع استراتيجي واقتصادي من الدرجة الأولى وهو ترسيم الحدود البحرية، فلماذا لا تتنازل أمام العدو (الفلسطيني) وفي موضوع أقل أهمية كتبادل الأسرى؟.
بداية لا بد من الاتفاق على أمرين اثنين، الأول: إمكانية التنازل الإسرائيلي أمام العدو العربي وهو في هذه الحالة حزب الله اللبناني، هي إمكانية ثابتة وواضحة بتجربة التوصل الى مسودة اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ومن يستبعد هذه الإمكانية يخالف حقائق الواقع الملموس، وأكثر من ذلك، فهو يقطع الطريق على أي محاولة جادة للتقدم ويحرم الهدف من فرصة مواتية للتحقق. 
أما الأمر الثاني: فهو أن ما حدث هو تنازل وتراجع إسرائيلي معين، وهذا ما يؤكده مؤيدو الاتفاق ومعارضوه في الداخل الإسرائيلي، فإسرائيل تنازلت أمام لبنان حكومةً ومقاومةً وهذا واضحٌ لا لُبس فيه. 
لا شك بأن هناك فوارق جوهرية بين الحالتين، ولكنها لا تمنع من المقارنة في هذه الجزئية، وهي "التنازل والتراجع في فترة الانتخابات الحساسّة في إسرائيل"، فهو إذن (تشبيه مع الفارق).

من الممكن البدء بداية من الواضح ثم الانتقال إلى الأقل وضوحاً بكثير، أما الواضح فإن عوامل التنازل الإسرائيلي أمام لبنان تشمل:
أولاً- حاجة أوروبا وأمريكا إلى أدنى وأبسط مصادر الغاز في العالم، وذلك بسبب الأزمة الأوكرانية؛ أي وجود موقف أمريكي داعم لضرورة التوصل لصفقة.

ثانيا- من حيث الأهمية وهو العامل الأمني الاقتصادي الإسرائيلي، فالاتفاق يضمن نسبياً هدوء الجبهة الشمالية وردود حزب الله، تحديداً وإن بشكل نسبي.

ثالثا- عوائد اقتصادية للخزينة الإسرائيلية.
أما عامل إضعاف تبعية لبنان لإيران فهو مبرر إسرائيلي للتغطية والتسويق الداخلي.
وثالثاً- وهو الأهم على ما يبدو، فهو حسن إدارة ملف مفاوضات الأزمة من الأخوة اللبنانيين حكومةً ومقاومةً، وتحديداً وبالدرجة الأولى من المقاومة وعلى رأسها السيد حسن نصر الله، والتي لعبت بأوراق قوتها بشكل جيد بل ومتميز.  
أما الجانب الأقل وضوحاً، فهو لماذا لا تستجيب إسرائيل للمقاومة الفلسطينية في ملف تبادل الأسرى، على الرغم من مرور سنوات طويلة على أسر الجنود الإسرائيليين منذ العام 2014، مع أن إمكانية التنازل حتى في أصعب الفترات وأحلكها على إسرائيل، وهي فترة انعدام الاستقرار السياسي والانتخابات المتكررة هي إمكانية واردة كما يبدو من الاتفاق المتراكم بين لبنان ودولة الاحتلال، لذا فالبحث عن الإجابة يجب أن يتجاوز فترة الانتخابات وعدم الاستقرار السياسي؛ ويركز على عوامل أخرى سواءً كانت متعلقة بقيادة الاحتلال أو بالمقاومة نفسها.

قد يكون أهم هذه العوامل هو عدم نجاح المقاومة الفلسطينية وبقرارها الخاص وإرادتها الحرة، في تبني سياسة الغموض في ملف التبادل، أقول لم تنجح المقاومة المبجلّة فعلاً وقولاً في التأثير الحقيقي؛ عدا السيطرة على الرأي العام الإسرائيلي كما فعل السيد نصر الله وبجدارة، وذلك من خلال تهديداته المصورة والعلنية والمتكررة والواضحة بالتصعيد، وما رافقها من طائرات بدون طيار جالت في الذهنية الإسرائيلية، بعد أن حلّقت فوق حقول الأمن والاقتصاد الإسرائيلي في "كاريش".

فتحوّلت هذه المواقف إلى موضوع الساعة في إسرائيل لأيام وأسابيع طويلة، حتى جاءت تكتيكات المفاوضات الناجحة لتتوصل إلى مسودة اتفاق أولية أشعلت حرباً كلامية بين قبائل إسرائيل المتنازعة، فمعسكر نتنياهو يعتبرها خضوعاً وخنوعاً" للإرهاب" اللبناني، ومجموعات لبيد التي أنجزت خلف دوافع نتنياهو الضيقة والغريبة، فاعتبرتها وفي تجاوز لتكتيكات التفاوض المهنية إنجاز استراتيجياً كبيراً تم تحقيقه في شهرين، بعد أن عجز نتنياهو في التوصل إليه خلال سنوات طوال.

وفي المناسبة فمن غير المتوقع أن يقع لبنان حكومة ومقاومةً بعد ما أظهره من حسن إدارة وسلوك، في فخ الردود والمناكفات أو حتى المسرحيات الداخلية الإسرائيلية، والتي تسيطر عليها في الغالب دوافع ضيقة، بل ستكتفي لبنان، بدراسة موضوعية وعقلانية لحجم الإنجاز مقابل التكاليف واقتناص الفرصة مقابل الانتظار الإستراتيجي.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023