التحضير (للتطهير) قراءة في الموقف والتقدير

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

التحضير للـ (تطهير) قراءة في الموقف والتقدير 

تطالعنا صحافة العدو ومراكز أبحاثه، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ الصديقة والمعادية بكم هائل من التحاليل والأخبار والتقديرات التي تتحدث عن " عرين الأسود "، هذه الحالة المقاومة التي طفت على سطح المشهد الفلسطيني منذ ما يقارب الشهرين، حين قدمها فعلها المقاوم فجعلها على رأس نشرات الأخبار، وعلى لسان المحللين ـ عسكريين وأمنيين ومدنيين ـ، لدرجة أنها بفعلها غطت على أخبار فصائل المقاومة الفلسطينية الأقدم منها زماناً، والأكثر منها تنظيماً، مثل فتح أو حماس أو الجهاد الإسلامي، حتى وإن قالت بعض التقارير أن هذه الفصائل هي من تقف خلف هذه الظاهرة، وهي من تمدها بالمال والعتاد، بل حتى وبالرجال، كما أن قادة العدو بمستوييه العسكري والسياسي وبمختلف درجاتهم وترتيباتهم أصبحوا يخصصون لهذه الحالة المقاومة جلسات التقدير وورش العمل التي تبحث في كيفية فكفكتها سلماً؛ عبر الوعود، أو حربا عبر الوعيد.

وهنا تبرز الأسئلة المركزية التالية والتي ستشكل موضوع هذه المقالة وهي:

لماذا كل هذه الضخ المعلوماتي وهذا الحديث والتحليلات والتقديرات وهذا الوعد والوعيد التي يخاطَب بها منتسبو هذه الحالة المقاومة، ويُتحدث فيها عنهم؟ 

هل فعلاً هذه الحالة المقاومة بهذا المستوى من القدرة والكفاءة والمناعة بحيث استعصى على المحتل أن يتعامل معها بقدراته الذاتية، أو عبر عملائه ووكلائه؟ 

إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة نذكر أننا ممن يدعون لهذه الظاهرة بطول العمر ومناعة الجسم، وأننا يجب أن نقدم لها النصح والمشورة؛ كل في فنه وعلمه، وأننا يجب أن لا نألوَ جهداً في رصدها وتتبع أخبارها، بهدف الحفاظ عليها ومنع أي مكروه من أن يصيبها، كما أننا نذكر أن ما نكتبه إنما هو في سياق التحليل والتقدير الذي نرجو أن يقع على وجع؛ فينفع ولا يضر، سادّين بذلك ثغرة قد تتراءى لنا عن بعد، وتغيب عن القريب لانشغاله بما هو أهم.

إن عدونا في الضفة الغربية يشغّل الآن ما يقارب 55 % من قواته البرية النظامية بشكل دائم، لتدافع عن 140 مستوطنة وحول 135 بؤرة استيطانية غير مرخصة و 33 مستوطنة رعوية، وهو محتل لأرضنا منذ عام 1967، ويجوس خلال قرانا ومدننا ليلاً ونهاراً، وفي الساعة التي يريد، مما يعني أنه يعرف الأرض بشكل جيد وقد حفظها عن ظهر قلب، وهذه المعرفة هي جزء من رباعية المعرفة المطلوبة من أي قائد عسكري قبل بدئه بتنفيذ عمله التعبوي؛ فالقائد العسكري قبل أن يقدم على تنفيذ أي أمر صدر له من قيادته العليا؛ يضع أمام ناظريه الأسئلة الأربعة التالية التي لا يمكن أن يقدم على التنفيذ قبل الإجابة عليها وهي الأسئلة : ما هي المهمة؟ 

وهنا مهمة العدو معروفة مصرحٌ عنها ألا وهي القضاء على المقاومة في فلسطين عموماً، وعلى ما تراكم منها في الضفة خصوصاً، والسؤال الثاني سؤال الأرض، ما هي طبيعتها وطوبوغرافيتها والديموغرافيا التي تحويها هذه الأرض؟ والأرض هنا معروفة؛ تضاريساً وجغرافيا وديموغرافيا، أما السؤال الثالث فهو ما شكل العدو الذي يواجهه هذا القائد؟ والجواب في موقفنا هذا معروف؛ العدو هم كوادر ومنتسبو مجموعة " عرين الأسود "، والسؤال الرابع من أسئلة القائد هو سؤال عن الذات والقدرات الذاتية، فما هي وما هو حجمها؟ وعدونا يعرف ما لا نعرف عن قدراته وإمكانياته. 

بعد هذا السرد؛ نعود إلى السؤال الثالث المطروح وهو سؤال من هو العدو؟ وكيف يفكر؟ وما هو سلوكه في الأزمات؟ وما هي ردات فعله في الملمات؟ وهذا السؤال هو أهم سؤال في تلك السلسلة، بحيث لا يجدي نفعاً الإجابة عن أي من تلك الأسئلة، ما لم يُجب وبشكل دقيق وتفصيلي عن سؤال العدو هذا! وهنا مربط فرس هذه المقالة ومحورها الرئيسي الذي نسرده كإجابة لسؤالي المقالة، بحيث يتضح لنا لماذا هذا الضخ الهائل والحديث غير المنقطع عن ظاهرة " عرين الأسود "، ولماذا كل هذه التحليلات والتقديرات عن حالة لم يتجاوز عمرها الشهرين في أحسن تقدير! إن كاتب هذه المقالة يعتقد أن العدو ما زالت تشوب رؤيته ومعرفته بهذه الظاهرة شوائب كثيرة، وهو ما زال في طور تكوين صورة واضحة وبناء معرفي دقيق حول هذه الظاهرة، ليبني على الشيء مقتضاه، لذلك فإن كم الحديث عن ظاهرة "عرين الأسود " الهدف منه جمع المعلومات لتصبح هذه الظاهرة كتاباً مفتوحاً يستطيع العدو قراءته متى شاء وكيف شاء، وصولاً إلى إغلاقه ووضعه على الرف، وهو غلق هذا الكتاب أمرٌ يجب العمل بكامل الجهد والطاقة، ومن كافة المخلصين على منعه.

أما عن المعلومات التي يهدف العدو تحصيلها من كم ما يُضخ من حديث ويُنشر من تقارير وتقادير حول ظاهرة " عرين الأسود " فهي متعلقة بالنقاط التالية: 

  1. مراكز الثقل البشرية لهذه الظاهرة: إن أول ما يريده العدو هو معرفة مركز الثقل البشري لهذه الظاهرة، بمعنى من هم القادة؟ ومن هم المسؤولون الميدانيون عنها؟ وهل فعلا هذه الظاهرة غير مهيكلة ولا تتبع نظاماً هيكلياً معيناً؟ إن معرفة مركز الثقل هذا يعني تخصيص الجهد المعادي لضربه والقضاء عليه، وحتى لو افترضنا أن لا تسلسل قيادي لهذه الظاهرة فإن طبيعة الأشياء تقضي بوجود (كبير) لهذه المجموعات سوف يركز العدو جهوده واستخباراته للتعرف على هذا الـ (كبير) ليسدد له ضربة، يظن العدو أن في نجاحها انفراطاً لعقد هذه الظاهرة، لذلك يجب توخي الحذر والحرص الشديد على حماية مراكز الثقل هذه والدفاع عنها بكل ما نملك من قدرات. 
  2. مراكز الثقل الجغرافية لهذه الظاهرة: كما أن العدو يهدف ومن خلال كم المعلومات التي ينشرها والتقديرات التي تصدر عن مراكز أبحاثه إلى التعرف على مراكز الثقل الجغرافية لهذه الظاهرة المقاومة، أين تتمركز هذه المجموعات جغرافياً؟ وما هو نمط سلوكها في هذه الجغرافيات في حالة الهدوء؟ وكيف يتجمعون وأين في حالات التوتر والمواجهات؟ وكما أن معرفة مركز الثقل البشري يساعد في تحديد كيفية ضربه لفرط عقد هذه الحالة؛ فإن معرفة مركز الثقل الجغرافي يساعد في معرفة نمط العمل والسلوك المطلوب لمواجهة هذه الحالة المقاومة، كما أنه يساعد في معرفة القدرات المطلوبة، وكيف تخصص عند الخروج للمواجهة والاحتكاك مع هذه المجموعة المقاومة، لذلك أيضاً يجب الحرص على عدم تقديم أي معلومات ـ بقصد أو بدون قصد ـ تساعد في تحديد مركز الثقل الجغرافي لهذه المجموعة المقاومة. 
  3. خطوط إمدادها ـ سلاسل التوريد ـ البشرية والمادية: إن عدونا وهو يتصدى للمقاومين في الضفة الغربية بالنار والحديد، ويحتك معهم في كل ساعة وفي كل حين، معنيٌ أيضاً ولديه من أطقم العمل وفرق المتابعة الميدانية والمكتبية التي تبحث وتدقق لمعرفة خطوط إمداد هذه المجموعات، و سلاسل التوريد التي تعوض لها ما نقص من قدراتها البشرية والمادية، لذلك فضخه للأخبار والتحاليل عن هذه الظاهرة يهدف إلى دفع الأطراف الأخرى لتدلي بدلوها في هذا المضمار، فتخرج التحليلات والتقديرات من الجهات الصديقة والقريبة من هذه المجموعات، أو من التي تعيش في بيئتها لتناقش ما يطرحه العدو في تقاريره، وهنا يبدأ العدو في تثبيت معلوماته واستكمال من نقص منها، بل ويستعين بما ينشر في هذه التقديرات في فهم هذا العدو الذي يواجهه، لذلك لابد من التفطن وعدم مجاراة العدو والعوم على عومه في هذا المجال، فنضر حيث أردنا أن ننفع. 
  4. نمط عملياتها: كما أن العدو ما زال في طور تكوين تصور واضح عن نمط عمليات هذه المجموعات، وكيف تتصرف أثناء الاشتباكات؟ وما هي الاستعدادات التي تقوم بها قبل العمل ومعه وبعده؟ وكلها أمور يضعها العدو بجانب بعضها البعض ليرسم الشكل النمطي (البصمة) لعمليات هذه المجموعات، فإن وصل إلى نتيجة مؤكدة في هذا المضمار، بحيث أصبح نمط وشكل عمليات هذه المجموعات شبه معروف له؛ فإن التصدي لها يصبح أكثر نجاعة وأقل أكلافاً وأسرع تنفيذاً. 
  5. قدراتها الحقيقية والرديفة: أيضاً العدو معني بمعرفة القدرات الحقيقية والرديفة لهذه المجموعة، وهو أمرٌ يستعين العدو لمعرفته بما يملك من مصادر بشرية تعمل على الأرض، وبما ينشر من تقارير ودراسات عن هذه الظاهرة، فعدونا على سبيل المثال ينشرُ خبراً حول عدد منتسبي هذه المجموعات أو قدراتها وما تملكه من احتياط بشري أو مادي، وينتظر ليرى ما سينشر حول ما قال؛ نقضاً أو تثبيتاً لما نشر أو أصدر، والبعض وتحت إغراء تسجيل السبق الصحفي وعلو الكعب المعلوماتي؛ يتصدى لدحض أو تثبيت ما نشره العدو من أرقام أو قدرات، ليقدم ما لديه من معلومات، أو ما سمعه في السهرات حول تلك القدرات، فيتلقفها العدو ليكمل بها تقريراً هنا أو تقديراً هناك. 
  6. منظومة القيادة والسيطرة عندها: وكثرة الحديث عن هذه المجموعة المقاومة يهدف في جزء منه دفعها إلى الرد أو التعليق، وهو أمرٌ ينبني عليه بدء التعرف على منظومة القيادة والسيطرة التي تدير هذه المجموعات، فالخروج في مؤتمر صحفي، أو التصدي للإجابة على أسئلة السائلين واستفسارات الباحثين، يعني أن هناك شكلاً قيادياً وهيكلاً إدارياً، والتعرف على الهيكل الإداري لأية مجموعة من الأمور المهمة التي تساعد أي صاحب اختصاص لتصور منظومة القيادة والسيطرة التي تدير هذا الهيكل. ومثل هذه المعرفة إن تحققت يعني معرفة كيف يمكن ضرب هذه المنظومة لشلها وافقادها فاعليتها وكفاءتها، تمهيداً لضرب مفاصل هذه الهيكلية لينهار الجسم، ويصبح أثراً بعد عين. 

هذه نقاط يجهد العدو للاستعلام عنها ومراكمة المعلومات حولها، تجهيزاً للظروف التعبوية المناسبة التي يمكن أن توقع في هذه الظاهرة أكبر خسائر بأقل الأثمان، للقضاء عليها أو على أقل تقدير؛ تحويلها إلى ظاهرة أمنية يمكن التعايش معها. وأمام هذا الموقف، المطلوب للمواجهة ومنع العدو من تحقيق أهدافه ما يأتي: 

  1. اعتماد استراتيجية الاختفاء وليس التخفي: فلا يجب الاكتفاء بلبس اللثام أو غطاء الوجه والرأس ثم الظهور في كل مناسبة وعند كل حدث، إنما يجب الخروج عن شاشة الرادارات المعادية والاختفاء عن أجهزة رصده ومصادر معلوماته وعملائه، فكلما لف هذه الحالة الغموض؛ كلما زادت خشية العدو ووكلائه منها، وكلما طفت على السطح وبقيت ظاهرة، كلما أمكن التعرف على نقاط ضعفها وتوقع سلوكها، ومن ثم وضع الخطط والإجراءات لضربها. 
  2. إدامة التماس مع الميدان: لا تعني استراتيجية الاختفاء قطع التماس مع الميدان، وإنما تعني الغياب عن رادارات العدو، مع وضع الإجراءات والاستعداد بكل ما نملك من قدرات لإدامة التماس المعلوماتي والتعبوي مع الميدان، فلا يطير فيه طائر دون أن نعلم، ولا يحدث فيه أي تغيير صغير أو كبير إلا ونحن في صورته، وهنا تخصيص القدرات وتوزيع الأدوار والمهمات من أفضل ما يمكن أن يساعد في إدامة التماس مع الميدان وعدم الغياب عنه ورصد متغيراته وما يطرأ عليه. 

هذه بعض الأفكار والنقاط التي نعتقد أن العدو يعمل على تحقيقها من خلال الكم الهائل من الحديث عن هذه الظاهرة الشريفة، التي يجب أن تُحمى بأشفار العيون. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

عبد الله أمين 

24 10 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023