بقلم/ أ.د إبراهيم أبراش
يبدو أن الحالة الثقافية والفكرية في العالم العربي أصابها ما أصاب الأنظمة السياسية، من تدهور في القيم وغياب المنظومات والمرجعيات الوطنية والقومية الجامعة، والغرق في مشاكل وتحديات الحياة اليومية الاقتصادية والأمنية، ودون الدخول في السبب وفي الجدل التقليدي حول علاقة الفكر بالواقع أو علاقة المثقف بالسلطة وأيهما يؤثر على الآخر، وما إن كان تدهور الوضع السياسي وحالة الاستبداد، وغياب قيم الديمقراطية سببا في أزمة الفكر والمفكرين وتراجع الحالة الثقافية بشكل عام، أم أن أزمة المنظومات الفكرية من قومية واشتراكية ووطنية وتراجع دور المثقفين، كان السبب في فساد وتسلط الأنظمة وغياب الرؤية عند الشعوب؟، هذا التدهور والتراجع في دور المثقفين امتد حتى إلى الحالة الفلسطينية حيث كان وما زال يفترض أن المثقفين قاعدة من قواعد الثورة، وخط الدفاع الأول في الدفاع عن الحريات المنتَهكة من الاحتلال، أو من السلطات الفلسطينية القائمة.
ما كنا نرغب أن ننزلق وننجر للحديث والانشغال بقضايا فرعية، على حساب القضية الوطنية العامة كحالة تحرر وطني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ونحن نعلم بأن العدو نجح نسبيا في (استراتيجية الإلهاء) لحرف الأنظار عن القضية المركزية.
فسواء في الضفة أو غزة أو في الشتات أنشغل المواطنون بمشاكل الرواتب وأموال المقاصة، وانتهاكات للحريات والحصار وحالة المعابر والحديث عن الفساد والمحسوبية إلخ، حتى المقاومة الفصائلية خرجت عن سياقها الوطني، وواكب ما سبق تراجع الكِتابة والمقاربات الجادة حول جوهر وأصل الصراع مع العدو وكيفية مواجهته، أيضا تراجعت الكتابة عن المصالحة والوحدة الوطنية والانتخابات والتوافق على استراتيجية المقاومة ومستقبل المشروع الوطني.
استراتيجية الإلهاء شوهت المشهد الفلسطيني وزادته تعقيدا، فمن منطلق التفاعل مع هموم المواطنين وتحسس معاناتهم، ومحاولة إيصال صوتهم اضطر كثير من المثقفين للكتابة حول مشاكل وهموم الحياة اليومية، على حساب الكِتابة عن جوهر الصراع مع العدو والقضايا الاستراتيجية، كما فضلوا كتابة بوستات وتعليقات مقتضبة على وسائط التواصل الاجتماعي على المقالات والدراسات الجادة في الصحف والمجلات الرزينة.
هذا الانشغال يتباين ما بين الضفة وغزة، فوجوده عند مثقفي وكُتاب قطاع غزة أكثر مما هو موجود عند نظرائهم في الضفة الغربية أو في الشتات، ويعود ذلك لهموم الحياة اليومية المالية والمعيشية وتداعيات الحصار والحرب، أما في الضفة الغربية فالانشغال بالقضايا المتعلقة بالحريات العامة وانتهاكها من طرف السلطة، أكثر من الانشغال بالأوضاع الاقتصادية وهموم الحياة اليومية، بل وأكثر من الانشغال بالشأن الوطني العام، إلا أن اهتمام المثقفين والكُتاب في الضفة بالقضايا الوطنية تزايد بعد تصاعد عمليات المقاومة في الضفة وسقوط العديد من الشهداء، وخصوصا في مخيم جنين وفي نابلس وتزايد عمليات الاستيطان واقتحامات الأقصى.
في بعض الحالات يكون موقف السلطة في الضفة من مسألة الحريات، وكيفية مواجهة المحتجين والمعارضين لها غير مقبول؛ ويدفع البعض للتساؤل: كيف تغضب أجهزة أمن السلطة وتثور حميتها من شعارات يرفعها محتجون من مشارب سياسية متعددة، ومنهم فتحاويون ضد جريمة قتل مواطن على يد أجهزة أمن فلسطينية، أو احتجاجا على عمليات اعتقال سياسي، ولا يغضبون أو تُمَس كرامتهم عندما يشاهدون مستوطنين يسرقون الأرض ويقتحمون البيوت ويدنسون المسجد الأقصى؛ ويقفون صامتين يراقبون جنود الاحتلال يقتلون المواطنين على الحواجز ويعتقلونهم من بيوتهم؟، صحيح أن مشاركة بعض منتسبي الأجهزة الأمنية في أعمال المقاومة الأخيرة ساعد على تحسين صورة الأجهزة الأمنية عند المواطنين، إلا أن موضوع انتهاك الحريات ما زال يشغل المواطنين، وخصوصا المثقفين والمنظمات المعنية بالدفاع عن الحريات العامة.
انتقاد انتهاك الحريات في الضفة لا يعني تتجاهل ما يجري في غزة من توظيف سيء للمقاومة؛ ومن حد للحريات واعتقالات ووفاة البعض في المعتقلات أو أثناء الاعتقال!!!، ولكن الناس ينظرون للسلطة في الضفة غير نظرتهم للسلطة في غزة، فهذه الأخيرة سلطة أمر واقع بالإضافة إلى أنها سلطة لحركة إسلامية لها مشروعها الخاص، بينما السلطة الوطنية سلطة رسمية وشرعية ونواة للدولة الفلسطينية المنشودة، كما أن العالم ينظر لها ويتعامل معها كنموذج وتجسيد لقدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم، وإذا كانت السلطة الآن، وقبل أن تتحول إلى سلطة دولة مستقلة، غير قادرة على استيعاب معارضيها فكيف سيكون الحال عندما تصبح سلطة دولة حقيقية؟.
صحيح أن هناك من لا يريد خيرا بالسلطة ويسعى لتخريبها وتشويه صورتها؛ وقد يكون بعض هؤلاء مندسين وسط المتظاهرين ومن نشطاء مؤسسات المجتمع المدني، وربما من ممارسي العمل العسكري ضد جيش الاحتلال، ولكن ليس كل من يعارض السلطة عدوا لها أو عميل "لإسرائيل" أو لحركة حماس؛ فقد يكون المعارضون المحتَجون أكثر حرصا على وجود السلطة الوطنية وعلى المشروع الوطني من المنافقين والمتملقين أو الساكتين عن التجاوزات، الأولون أو أغلبهم ينتقدون من منطلق الحرص والغيرة والرغبة في تصحيح الأوضاع، أما الآخرون منافقون يُظهرون الحرص على السلطة بينما هدفهم المصلحة الشخصية، كما أن سكوت البعض من المثقفين والمفكرين والسياسيين لا ينطبق عليه المثل: (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) ففي بعض المواقف والأوقات يكون السكوت عن الفساد فساد، والسكوت عن الخطأ خطيئة.
نتمنى على السلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية، إعادة تصويب وتعديل نهجهم في التعامل مع من يختلفون معهم في الرأي، لأن القمع أو أي إجراءات عقابية لن يُسكت شعباً مثل الشعب الفلسطيني؛ وإن سكت الشعب فالسكوت ليس دائما علامة عن الرضا، كما أن القمع يولِّد الانفجار والثورة، ونتمنى على السلطة أن تحترم المثقفين والأكاديميين، وأن تُدرك أن هؤلاء أكثر حساسية لانتهاكات حرية الرأي والتعبير، والشعب يراهن عليهم ليكونوا صوت ضميرهم والمعبر عن معاناتهم، كما أن من حق كل مثقف وصاحب رأي أن يحتج ويستنكر أي انتهاك للحريات، وأية سلطة تقمع الحريات العامة ولا تقبل الرأي الآخر؛ إنما تسيء لنفسها وتراكم من أعداد معارضيها وتثير الشكوك حول أهليتها لقيادة الشعب نحو الحرية وبناء نظام ديمقراطي.
وأخيرا، الحالة الوطنية وخصوصا في الضفة، تشهد متغيرات مهمة بعد تصاعد الأعمال الفدائية والتي يشارك فيها أفراد من الأجهزة الأمنية، وسواء كان موقف السلطة تجاه ما يجري نتيجة ضعفها أم نابعا من قناعة وطنية وتواطؤ مع حالة النهوض الشعبي، فإن الأمر يتطلب مزيدا من الوحدة الوطنية ومن إعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمثقفين، بحيث يصبح المثقفون والمفكرون قاعدة من قواعد دعم وإسناد السلطة الوطنية، وهي في مرحلة التحول نحو بناء الدولة الفلسطينية المنشودة كما كانوا قبل قيام السلطة قاعدة من قواعد الثورة الفلسطينية.