بقلم/ إبراهيم أبراش
نظرا لطول أمد الصراع مع الكيان الصهيوني وعدم إنجاز هدف التحرير والاستقلال الوطني، وبسبب ضعف النظام السياسي والطبقة السياسية وقوة التدخلات الخارجية في الشأن الوطني، يبالغ كثيرون في ممارسة النقد دون ضوابط، ولكل شيء دون طرح أي رؤية أو استراتيجية واقعية وعقلانية للخروج من المأزق وتصحيح المسار.
النقد سلوك وقيمة سياسية وأخلاقية محايثة للحياة السياسية، والأحزاب والقيادات السياسية التي تحترم حرية الرأي والتعبير وتحترم شعبها تتقبل النقد، بل وتمارس النقد الذاتي بين فترة وأخرى، وخصوصاً عندما تجد حالة تذمر وعدم رضا من الشعب تجاه سياساتها.
لا نروم من انتقاد بعض منتقدي ومعارضي النظام السياسي الفلسطيني تجميل المشهد، فالنظام السياسي وصل لحال من التكلس والعجز والفساد بحيث بات محتاجا ما هو أكثر من النقد، والطبقة السياسية وصلت لدرجة من الكلاحة بحيث لم تعد تحترم الشعب، ولكن هناك فرق بين النقد الموضوعي الذي ينطلق من الفهم العقلاني للواقع، وما يجب على القيادات السياسية القيام به وتستطيع ذلك ولكنها لا تقوم به، من جانب، والنقد الهدام الذي تكون دوافعه مجرد حب الظهور والتميز وينطبق عليهم المثل الذي يقول (خالف تُعرف)، أيضا نقد السياسيين الذين ينطلقون من عدم فهم الواقع، ومدفوعين بمواقف مسبقة تجاه النظام السياسي وقيادته، تؤسَس على حسابات شخصية أو حزبية ضيقة أو لخدمة أجندة خارجية غير وطنية.
الأولون يتلمسون ويعترفون بما يوجد من إيجابيات وإنجازات عند الأحزاب والقيادات السياسية حتى إن كانت إنجازات محدودة، وحتى إن لم تكن هناك إنجازات لا يكون هدف الانتقاد مبنياً على رغبة بالانتقام، بل السعي للأفضل وتصحيح المسار.
المنتقدون أو المعارضون الموضوعيون لا يسعون لمصلحة شخصية من الحاكم، ومستعدون للتضحية بحريتهم وحتى بحياتهم من أجل المصلحة الوطنية وتصحيح المسار، أما الآخرون فيتنكرون لأي إنجاز للقيادة والأحزاب السياسية كما يتنكرون لكل التاريخ الوطني، ولا يكون هدفهم من الانتقاد تصويب المسار، بل البحث عن مصالحهم الخاصة حتى وإن كانت على حساب الوطن، وعندما ينتقدون فساد النظام السياسي يكونوا غارقين في فساد أكبر.
بالرغم من كل الانتقادات على عمل القيادات السياسية والأحزاب وما هي عليه اليوم، من حالة ضعف وعجز في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتعاظمة، وما ينتابها من أوجه فساد وعدم قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية بالحرية والاستقلال، إلا أن ذلك لا يعني تجاهل تاريخها النضالي في مقارعة دولة الاحتلال في الداخل والخارج ودورها في التعبئة والتنشئة السياسية، وبالتالي فإن الهدف من الانتقادات ليس إطلاق رصاصة الرحمة عليها والبدء من نقطة الصفر في العمل السياسي الوطني، بل حثها على تطوير عملها والخضوع لإرادة الشعب من خلال الاحتكام لصناديق الانتخابات، وأن تتقبل كل ما يوجَه لها من انتقادات وأن تعترف بأنها وصلت لطريق مسدود في أدائها السياسي والعسكري، وعليها فسح المجال لنخب سياسية جديدة، وألا تكون مصالحها الخاصة وارتباطاتها بحسابات وأجندة خارجية عقبة في طريق استنهاض الحالة الوطنية.
نفهم جيدا مأزق السلطة والحكومة في الضفة وكذا بقية الأحزاب والقوى السياسية، بل وفشلها وانزلاقها المتدرج نحو التكيف مع واقع الانقسام وأحيانا مع مخططات العدو، ولكن لا مفر من إشراك هذه الأحزاب في أي توجهات لاستنهاض الحالة الوطنية، مع ضرورة انفتاحها واستيعابها للقوى الجديدة التي ظهرت على الساحة، وخصوصا فئة المثقفين والكتاب وأصحاب الرأي المستقل، وفي نفس الوقت ممارسة الضغط عليها لتنبذ من صفوفها الفاسدين ومعيقي المصالحة.
وعلينا ملاحظة أن المجتمع الفلسطيني لم ينتج بعد فصائل منظمة التحرير، حالات سياسية منظمة ذات أهمية وتأثير غير حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ويمكن إضافة حركة المبادرة التي يترأسها مصطفى البرغوثي، كما أن المجتمع المدني أصابه ما أصاب السلطة/ السلطتين من فساد وعجز وانقسام وارتهان لأجندة خارجية، وبالتالي غير مؤهل لقياد ثورة على السلطة.
الحالة الفلسطينية الراهنة تحتاج لفعل إبداعي يشارك فيه الشعب والقوى السياسية بما فيها الحاكمة، فعل إبداعي لإعادة بناء المشروع الوطني ضمن رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، تتجاوز حسابات الحكومة والسلطة والانقسام.
للخروج من هذه الحالة وتصويب المسار الوطني هناك طريقان:
الأولى - الإصلاح التدريجي
ويكون ذلك من خلال التوافق على ثوابت ومرتكزات المشروع الوطني والنظام السياسي بين مكونات النظام السياسي الحالية، والانتخابات العامة على كافة المستويات أهم مفاعيل هذا الإصلاح.
بالرغم من فشل جهود المصالحة بهذا الشأن، إلا أنه ما زال في الإمكان الاستمرار في المحاولة.
قد يبدو هذا الطريق عبثيا، وقد يتساءل البعض كيف نراهن على إصلاح من داخل أحزاب وطبقة سياسية وسلطتين فاشلتين وعاجزتين وفاسدتين، وأي توافق بينهم يعني تقاسم مغانم السلطة واستمرار الأمور على حالها وقطع الطريق على أي قوى جديدة قد تكون أفضل من المتواجدين اليوم؟.
هذا القول لا يخلو من بعض الوجاهة، وقد كتبنا كثيرا عن الموضوع وانتقدنا الطبقة السياسية والسلطتين الخ، ولكن نطرح هذا الطريق للخروج من المأزق، حتى لا نقع في دعوات العدميين السياسيين الذين يتهمون كل الأحزاب والطبقة السياسية بالخيانة، ويطالبون بأسقاطهم دون طرح بدائل عقلانية لمرحلة ما بعد اغسقاط السلطة أو الثورة عليها، كما أنه داخل الأحزاب يوجد إصلاحيون وطنيون يمكنهم تغيير توجهات الطبقة النافذة في أحزابهم.
الطريق الثانية: الثورة والانقلاب على السلطة
وهذا نمط شائع وخصوصا في دول العالم الثالث لمحاولة التغيير، حيث تثور الشعوب على أنظمة فاسدة ومستبدة، فعلى من يثور الشعب الفلسطيني؟، وكيف يثور في ظل الاحتلال والشتات والانقسام؟.
بالرغم مما يعتري السلطتين والطبقة السياسية عموما من حالة عجز، ومسؤوليتهم نسبيا عما وصل إليه النظام السياسي من طريق مسدود، وعدم ثقة الشعب بهذه الطبقة السياسية، إلا أن للثورة أو الانقلاب على هذه الطبقة السياسية محاذيرها.
الحالة الفلسطينية مختلفة عن الحالة العربية، حيث خرج الشعب في أكثر من دولة مطالبا بأسقاط النظام، وحتى في حالة الدول العربية المستقلة فإن الثورة اسقطت الدولة وأثارت حروبا أهلية، وفي الحالات التي تم إسقاط النظام جاءت أنظمة لا تقل سوءا من سابقاتها.
حتى لا تتوه خطانا عن الطريق، وننجرف باتجاه ما يريده العدو من تأجيج الفتنة الداخلية لإبعاد الأنظار عن الاحتلال وممارساته، فإن الثورة يجب أن توجه ضد الاحتلال، مع ادراكنا أن الانقسام وحال الطبقة السياسية قد يشكل عائقا أمام نجاح ثورة أو انتفاضة، أو حتى مقاومة سلمية على الاحتلال.
نجاح الثورة على الاحتلال يحتاج لثورة سلمية عقلانية مؤسساتية على الذات، ثورة داخلية توحد مكونات النظام السياسي والشعب على هدف ورؤية وطنية، تقطع الطريق على المراهنين على المنقذ الخارجي، كما يجب التفكير قبل محاولة الثورة أو الانقلاب على حكومة غزة أو حكومة الضفة فذلك لن يؤدي إلا لمزيد من الفتنة والحرب الأهلية أو لحكومتين جديدتين أكثر سوءا، لأن الاحتلال سيوجه الأمور في الحالتين لخدمة مصالحه، وعلينا الانتباه إلى أن واشنطن وهي لا تحتل العالم العربي احتلالا مباشرا، تمكنت من توجيه الثورات العربية بما لا يتعارض مع مصالحها، فكيف الحال مع الكيان الصهيوني الذي يحتل كل فلسطين؟.