اللعب ضمن معادلة الرعب

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم:
الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين
09 04 2023  

أولاً: استهلال:  

ها قد انقشع غبار صلية الصواريخ التي خرجت من جنوب لبنان عصر الخميس 06 04 2023، وتبدّى الغبار الذي تناثر من الحفر التي تركتها صواريخ العدو التي اطلقها باتجاه غزة، وفي محيط مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني.
 وانطلاقاً من المثل القائل: 
لا يُحكم على مصارعة جملين ما لم يتوقفا، ثم تزول سحابة الغبار عن رأسيها؛ عندها فقط يمكن أن يحكم أي الجملين هو الفائز بجولة المصارعة تلك، الأمر الذي يدفعنا إلى القول أن الكثيرين -ولسنا منهم- يسارعون مع بداية أي حدث أمني أو عسكري مع هذا المحتل بالكتابة والتحليل وإصدار التوصيات وتقديم التقديرات؛ الأمر الذي نعتقد أنه لا يستقيم، على اعتبار أن مثل هذه المواقف الأمنية والعسكرية تصعب الكتابة عنها، وإصدار الأحكام عليها ما لم تنتهِ وتُستجمع تفاصيلها وما تيسر من معطيات عنها، ثم تُخضع للدراسة والتحليل من أجل استخلاص العبر والدروس منها، لنراكم على منجزاتها، ونتجنب في المستقبل اخفاقاتها، الأمر الذي تأتي هذه الورقة للحديث عنه، شرحاً للموقف واستخلاصاً للدروس، وتقديماً للتوصيات.



ثانيًا: الموقف:  

أصبح معلوماً لدى الجميع أن هناك ما لا يقل عن 30 صاروخاً من نوع غراد 122  نصبت في منطقة مزارع للحمضيات، وبين أودية منطقة "القليلة " في جنوب لبنان والتي تبعد عن فلسطين المحتلة مسافة تصل إلى 20 كيلومتر ـ خط نار ـ وأن هذه الصواريخ قد وقتت عبر أجهزة توقيت الكترونية، بحيث تنطلق دفعة واحدة تقريباً باتجاه أهدافها التي صُفرت عليها، وحيث أن هذا النوع من الصواريخ مخصص لضرب أهداف منطقة وليس أهداف نقطة؛ مما يعني أنها قد تصيب هدفاً ما بشكل مباشر، وقد تقع في محيط جغرافي محدثة حالة من الرعب والخوف، وخسائر مادية وبشرية لا يمكن لأحد أن يقدر قدرها، ما لم يرَ أثرها ـ الصواريخ ـ بعد سقوطها، وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكره العدو من أن القبة الحديدية قد اعترضت مسار بعض من هذه المقذوفات فأسقطته. كما نشير  كذلك إلى ما قيل وشوهد عبر الاعلام من أن عدداً من هذه الصواريخ لم ينطلق أصلاً نتيجة عطل تصنيعيّ ما قد يكون في حشوة الصاروخ الدافعة ، أو فنيّ في وسيلة تشغيلها الالكترونية.  



ثالثاً: التحليل:  

أما عن تحليل هذا الموقف فيمكن الحديث مطولاً، ولكن استثماراً للوقت، سنختصر الأمر على أهم ما يمكن استنتاجه كتحليل ما رصدنا من معطيات حول هذا الموقف، وهي نقاط سريعة نأتي عليها على النحو الآتي:  

1. وجود مجاميع وجهات عمل لديها قدرات فنية وتعبوية:  

إن أول خلاصة يمكن أن تستخلص من هذا الموقف، هي أن من يقف خلف هذه العملية والتي ــ وبغض النظر عن الجهة التي يمكن تخيل وقوفها خلف هذا الحدث ـ لديه من القدرات الفنية والتعبوية ما مكنه من إدخال هذا الكم من المقذوفات ومن ثم زرعها وتوجيهها نحو أهدافها ثم توقيتها لتنطلق لاحقاً، ثم ينسحب من المكان بأمان، هذه الجهة أو الجهات لديها من القدرات الفنية والتعبوية ما يرفع له العقال وتؤدى له التحية.  



2. وجود قرار بتشغيل هذه القدرات والاستفادة منها:

أما الخلاصة الثانية، فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتي سبقتها؛ فلا قيمة للقدرات القتالية البشرية والمادية، ما لم يكن خلفها جهة صاحبة قرار حاضرة ومستعدة لأخذ القرار وتحمل أكلافه، الأمر الذي نراه في كل تفصيل من تفاصيل هذه العملية، من شراء المقذوفات، وتأمين نقلها، ومن ثم زرعها، وصولاً إلى تشغيلها ضد عدو مستنفر، لديه من مصادر المعلومات ـ البشرية والالكترونية ـ ما يمكنه من تصور مثل هذا العمل وتوقع حدوثه؛ كيف لا وقد حدث ما يشبهه سابقاً وفي نفس الظروف، ومع ذلك، كان لدى الجهة التي تقف خلف من أطلق شجاعة أخذ القرار وتحمل ردات الفعل المعادية، وهذا أيضاً أمرٌ يرفع له العقال.  



3. تطور في الأداء وإدارة النار:  

الخلاصة الثالثة، ما يمكن تسجيله من تطور في أداء الجهة ـ إن كانت هي نفسها من عمل في السابق ـ التي تقف خلف هذا العمل، فقد بدأت مثل هذه الرشقات الصاروخية تطلق باتجاه فلسطين المحتلة مما يقارب السنتين، ولم تكن في بداياتها موفقة؛ فقد كانت في معظمها لا تصل إلى أهدافها، وبعضها كان يسقط في البحر، هذا فضلا عن الكم؛ فقد كانت في السابق كمية ما يزرع لا يتجاوز أصابع اليد، فإذا به اليوم يتجاوز أصابع اليدين والرجلين، يصل منها إلى أهدافها حسب ما صرح به العدو 15 مقذوفاً، ويعترض كما قال ما يقرب من 15 فجرها في الهواء، ولكن ما هو أهم من كل هذا؛ شجاعة ومثابرة وتصميم المجموعة العاملة على إنجاز مهمتها على أكمل وجه، ثم الانسحاب، وهذا أيضاً ترفع له العُقل، و تنحني له الرؤوس.  



4. غض طرف أو تغطية من جهة مسيطرة:  

حيث أن المكان الذي زرعت فيه هذه الصواريخ ـ هذه المرة والتي سبقها من مرات ـ كلها تأتي في منطقة عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله )، وحيث أن العقل والمنطق والمعطيات تقول أن هذه الجغرافيا لا يمكن أن يحدث فيها ما حدث دون علم أو تغطية أو غض طرف من الجهة صاحبة الأرض؛ حيث هذا كله؛ فيمكن تصور أن لحزب الله مساهمة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ ما في هذا الجهد العملياتي، يشكرون عليه ويؤجرون، لقول سيد المجاهدين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله و الذي يرمي به في سبيل الله " لذلك ترفع لهم ـ حزب الله ـ  بسب هذه المساهمة العُقل كما رفعت لمن سبقهم.    



5. وجود إمكانية لتكرار مثل هذه العمليات:  

الخلاصة الخامسة هي إمكانية تكرار مثل هذا الفعل، كلما تكرر سببه، فقد أطلقت الصواريخ في المرات السابقة لمواقف عسكرية مرتبطة بفلسطين المحتلة ـــ ما عدا حادثة قرية شويا اللبنانية عام 2021 ـ وعليه فإننا نتوقع أن يتكرر مثل هذا الفعل كلما تكرر المحرض، مع فارق هو توقعنا لتطور العمل وتحسنه في المرات القادمة، مع عدم إغفال تطور وصعوبة الإنجاز لاعتبار توقع حدوثه من قبل من يرصده ومن هو معني بعدم تكراره، الأمر الذي يتطلب إجراءات تعبوية وأمنية أشد صرامة وأكثر إحكاماً لينجح الفعل، فإن حصل؛ سنرفع عندها لمن قام به عُقلنا والحطات.  



6. وجود بيئة متفهمة أو مساعدة أو حاضنة:

كما قلنا أن منطقة العمليات التي تم منها إطلاق هذه الرشقة الصاروخية، بيئة؛ العقل والمنطق والمعطيات تقول أنها مسيطر عليها من قبل "حزب الله"، وبدون مشاركته أو غض طرفه، يصعب تنفيذ مثل هذه الأعمال، كما قلنا سابقاً، نقول إن الحديث نفسه يمكن أن يقال عن البيئة الاجتماعية والديموغرافية التي نُصبت في محيطها أو قريب منها هذه المقذوفات، وهي بيئة زراعية، مما يعني أن أهلها يتجولون فيها ويترددون عليها، وهنا يذهب بنا الظن إلى أنه قد يكون ـ وقد لا يكون ـ  وقع عين أحدهم على أحدهم وهو يزرع أو يوجه هذه الوسائل القتالية، فما اعترضه، وما عارضه، بل غض طرفه عنه كأنه لم يره، مما يعني أن هذه البيئة بيئة مقاومة، تعرف ماذا يعني أن تكون مقاوماً، وتعرف ماذا يعني أن تطلق النار من بين أملاكها وأرزاقها على هذا العدو الصائل، كيف لا و قد خبرت إجرامه، تعرف كل ذلك؛ ثم تشيح بنظرها عن الفاعل ليُتم فعله، وينجز مهمته، الأمر ـ غض الطرف ـ الذي يحملنا طائعين على شكر هؤلاء الساكنين، ونرفع عُقلنا لهم في كل حين.  



7. قراءة سليمة لرد فعل العدو ناتجة عن تحليل سليم للموقف:  

نختم بما يُغلق به الحوار والنقاش عندما يتعلق بأخذ قرار بالعمل ضد هذا العدو الصائل، ألا وهو سؤال طبيعة وشكل ومكان وحجم رد فعل العدو على فعلنا، وهذا أكثر ما يثقل ويعيق أخذ القرار، خاصة عندما يكون الذي يقف في مقابلك من يقال عنه أنه القوة النارية الخامسة في العالم (حط بالخرج ) ومع ذلك يُؤخذ القرار بالشخوص لهذا العدو، وتحدي جبروته في ظرف زماني يجمع الجميع على أن العدو يبحث (بالسراج والفتيلة ) على ما ينقل به أزمته الداخلية إلى الخارج، بحيث تتحرر حكومة نتنياهو مما هي فيه من ضغط لتقول لمعارضيها: تعالوا نتوحد على العدو الخارجي، مع كل هذه المعطيات، تأتي مجموعة لتقرأ الموقف (صح)، وتقدر العواقب بشكل معقول، لتخلص إلى نتيجة مؤداها أن هذا العدو أفل نجمه، وما عاد هو الذي نعرف، فتأخذ قرار الفعل وتمضي نحو التنفيذ، مسنودة إلى قراءة صحيحة للموقف تُرفع لها عُقل المحللين والمقدرين.  



رابعاً: الدروس المستفادة:  

بعد كل هذه الخلاصات التي جئنا على ذكرها، نأتي على ذكر بعض الدروس المستفادة من هذا الحدث السريع، لنبني عليها في المستقبل، ونستفيد منها عند تعرضنا لمثل هذه المواقف، وأهم هذه الدروس يمكن أن يستخلص على النحو الآتي:  

1. المعادلة بين " حزب الله " والعدو هي معادلة ردع:  

إن أول درس يمكن أن يستفاد من هذا الموقف هو أن المعادلة التي تحكم الصراع بين العدو الصهيوني و" حزب الله " هي معادلة ردع؛ ثبت صدقها، ولولا ذلك، لما وفر العدو أهدافاً هي له ـ لحزب الله ـ يزخر بنكه ـ بنك العدو ـ  بها، ويراها على مد نظره، ولما جهد العدو في تكرار مقولة أن " حزب الله " لا يقف خلف هذه العملية، وأن ما تم قد لا يكون بعلمه، ولما كانت  توصية المؤسسة العسكرية في لقاء " الكبينيت " الإسرائيلي بتجنب الاحتكاك مع الحزب، فإن لم يكن هذا هو الردع، فما هو الدرع إذن ؟ ولكن الأهم من هذا كله هو كيف بنيت هذه المعادلة ؟ وكيف تم الوصول لها ؟ وهذا أمر يطول الحديث فيه وحوله، ولكن نختصر الموقف بشكل سريع لنقول: حتى تردع عدوك يجب أن يكون ما خفي ـ بشرياً ومادياً وإجرائياً ـ  منك عنه أكثر مما ظهر له.    



2. المعادلة بين حركة " حماس" والعدو هي معادلة رعب:  

أما الدرس الثاني فهو درس الرعب الذي قلنا أكثر من مرة أنه هو الذي يحكم معادلة صراع حركة " حماس " مع هذا العدو، فالردع يمنع العدو من تشغيل أي قدرات ضدك، ويتركه يندب حظه، خالي الوفاض، لا يملك من أمره شيء، أما الرعب؛ فإنه يقيد فعل عدوك ويضع له سقفاً، ويجعله يحسب حساباً عند محاولة زيادة فعله أو تطوير إجراءاته، وهذا بالضبط ما رأيناه في رد فعل العدو، فقد كان حريصاً جداً على أن لا يسيل دماً، ولا يدمر أصولاً استراتيجية للحركة في مركز ثقلها الجغرافي المتمثل في غزة، فقصف مناطق غير مأهولة، هذا فضلاً عن أنه مكث من الساعة 15:30 حتى الساعة 21:30 وهو في جلسات تقدير متتالية، ليقوم برد فعل على منظمة يرى أنها تقف خلف هذا الفعل، وهو مسيطر على جغرافية وجودها، وعنده عشرات ـ إن لم نقل مئات ـ الأهداف التي يمكن أن يخرج لضربها بشكل مباشر، ودون تضييع للوقت، فما الذي حمله على تضييع كل هذا الوقت، إن لم يكن الرعب الناتج عما يعرفه من أكلاف سيدفعها إن هو تمادى في غيه ؟ وهنا يحضر سؤال مشروع؛ هل ما يصلح لـ " حزب الله " من معادلة صراع قائمة على الردع، يصلح لحركة " حماس " المحتلة أرضها والمعتقل رجالها ؟ وهنا الإجابة لا كبيرة، فالردع ـ شئنا أم أبينا ـ يقيد القدرات، ويمنع من الفعل، وهو يصلح لمن حرر أرضه وطرد محتله، ويريد أن يحافظ على مكتسباته، ويحمي بيئته ويطورها وينميها، وهو ـ الردع ـ لا يصلح لمن ما زالت أرضه محتله، وعدوه عليه صائل، وخيرة أبنائه في السجون، وحرائره مغيبات، إن ما يراد في مثل هذا الموقف إنما هو الرعب الذي يخيف العدو إن تمادى، ويُهدَد به لتحصيل مكتسبات، لا ردعاً يقيد القدرات.  



3. الأثر الإيجابي لمفهوم وحدة الساحات على النتائج والخلاصات:  

أما الدرس الثالث والأخير، فهو ما تركه مفهوم وحدة الساحات من أثر إيجابي على الموقف، فقد قيد قدرات العدو، ومنعه من تشغيلها بكامل طاقتها، بل دفعه للتصريح ـ قولاً وفعلاً ـ أننا (هم ) لسنا معنيين إلا بمن استهدفنا، ولن نتجاوز في (عقابنا) إلا من هددنا، وهذا ـ وحدة الساحات وترابطها ـ أمرٌ يجب العمل على تعزيزه، وتوثيق عراه، والعمل على تفعيله واخراجه من حيز القول، إلى رحابة الفعل، ولن نطيل هنا كوننا تحدثنا عن هذا الموضوع في ورقة سابقة تحت عنوان " وحدة الساحات قراءة في المفهوم والمتطلبات " يمكن الرجوع لها، لمزيد من التفصيل والفائدة.  



خامساً: التوصيات:  

نختم ببعض التوصيات التي نعتقد أنها قد تكون مفيدة في مثل هذه المواقف والتي من أهمها:  

1. معاودة دراسة الحدث والوقوف على نقاط قوته وضعفه من حيث الشكل والمضمون، بهدف تطوير الأداء وزيادة الجدوى.  

2.  دراسة البيئة والظرف السياسي قبل أخذ القرار، لما يمكن أن يتركه هذا الأمر من أثر على الفعل وما يمكن أن يترتب عليه من إجراءات .  

3. بحث تطوير الأداء انطلاقاً من مفهوم " وحدة الساحات " ليبنى على الشيء مقتضاه.  

هذه أفكارٌ سريعة كان لابد من كتابتها تعليقاً وتعقيباً على هذا الموقف بعد أن هدأ غباره، وانقشع غمامه، علّها تسهم من قاعد في تطور فعل مجاهد. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  
















جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023