إبراهيم أبراش
هل فقدت فلسطين عمقها العربي؟ ومن المسؤول؟
يمكن للعرب أن يتخلوا عن الفلسطينيين أو لا يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية، ولكن هل يمكن للفلسطينيين التخلي عن العرب أو يحققوا انجازاً في نضالهم بدون العمق العربي الشعبي والرسمي؟ وإلى أين سيؤدي التدهور غير المحمود وغير المسبوق في العلاقات الفلسطينية العربية؟ ومن المسؤول عما وصلت إليه الأمور؟.
ما جرى في الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب حيث تم اسقاط مشروع قرار فلسطيني بإدانة التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، والنقاشات والاصطفافات التي تمت حيث لم يجد ممثل فلسطين دعماً صريحاً لموقفه من أي دولة عربية كما سبق أن رفضت دول عربية تبني مشروع القرار الفلسطيني وتقديمه نيابة عن فلسطين، وردود الفعل الفلسطينية الرسمية التي وصلت لحد مطالبة بعض الرسميين بالانسحاب من جامعة الدول العربية، كل ذلك يؤشر إلى وضع غير مسبوق في توتر العلاقات الفلسطينية العربية الرسمية.
ما جرى يُنذر بمنزلقات خطيرة سواء من الدول العربية تجاه التطبيع بعد أن شرعنت جامعة الدول العربية التطبيع المنفرد مع إسرائيل أو تجاه التعامل مع منظمة التحرير والقيادة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أو انزلاق القيادة الفلسطينية نحو سياسات واصطفافات تدفعها لتكون طرفاً في أحد المحاور العربية المتصارعة، وشكر الرئاسة الفلسطينية لقطر على مواصلة دعمها المالي للسلطة في هذا التوقيت له دلالاته، أيضاً ربما يكون الموقف العربي المتخاذل دافعاً للبعض من الفلسطينيين ليطالب بإعادة النظر في الموقف تجاه الإدارة الأمريكية وإسرائيل والبحث عن قنوات للتواصل معهما بدون أي شروط مسبقة.
فلماذا هذا التصعيد والتوتر الآن؟ وهل أن موقف جامعة الدول العربية وموقف الإمارات ومحورها كان مفاجئاً؟
لقد صمتت القيادة الفلسطينية على سياسات عربية رسمية كانت واضحة في تراجعها عن التزاماتها تجاه فلسطين بل وتتدخل في الشأن السياسي الداخلي وتعزز حالة الانقسام والفتنة، وإن كان صمت وصبر الرئيس أبو مازن على ذلك يمكن إدراجه في سياق الصبر الفلسطيني التاريخي وتجنب مواجهة آتية ولا ريب إلا أن الموضوع قد يتجاوز مسألة الصبر وحكمة الرئيس.
منذ سنوات ونحن نسمع من مسؤولين فلسطينيين أن كل الدول العربية لا تلتزم بدفع ما عليها من استحقاقات للسلطة الفلسطينية إلا دولة عربية واحدة- ولا نعرف إن كان هذا الكلام صحيحاً أم لا- كما تندد القيادة ومعها الشعب بعدم تفعيل شبكة الأمان التي تم إقرارها في القمة العربية التي عُقدت في مدينة "سرت" الليبية 2010 وتعهدت خلالها الدول العربية بتوفير شبكة الأمان المالية للسلطة، في حال ضغطت إسرائيل على الفلسطينيين مالياً من خلال حجب إيرادات المقاصة الشهرية، كما صمتت القيادة على تصرفات تهدد وحدانية التمثيل الفلسطينية وتعزز الانقسام مثل تحويل دولة الإمارات الأموال التي كان يجب دفعها للسلطة إلى محمد دحلان مما عزز من حضوره فلسطينياً وعربياً وعمل على إضعاف حركة فتح، ونفس الأمر صمت الرئيس أبو مازن والسلطة على دولة قطر التي لعبت دور العراب للانقسام وجندت نفسها لتثبيته من خلال دعمها لحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة ولولا الدعم القطري ما استمر الانقسام حتى اليوم، فهل كانت القيادة تجهل كل ذلك؟ أم كانت تعرف ولكنها عاجزة عن اتخاذ أي قرار بشأنه؟ أم متخوفة من افتعال صدام ستكون الخاسرة فيه؟ أم انها كانت راضية وشريك في كل ما يجري ولم تتحرك أخيراً إلا لأن وجودها أصبح مُهدَداً؟
مع رفضنا لكل أشكال التطبيع بما فيه التطبيع الإماراتي الإسرائيلي ورفضنا للسياسة المتخاذلة لجامعة الدول العربية، إلا أن من حقنا أن نتساءل عن مدى صوابية وصول الأمور بين الفلسطينيين وجامعة العربية لهذا المستوى من التوتر، وخصوصاً إن أثر الخلاف الرسمي على العلاقة مع الشعوب العربية؟ وإلى أين ستصل الأمور إن بقي الفلسطينيون لوحدهم كما يتغنى البعض ويردد مقولة الزعيم أبو عمار "يا وحدنا"؟ ولماذا هذا الهلع من القمة العربية وقراراتها التي تاريخياً لم يلتزم بها أحد وكل قرارات القمم العربية تبقى حبراً على ورق، حتى المبادرة العربية للسلام التي صدرت على شكل قرار قمة في قمة بيروت 2002 لا يمكن اعتباره قراراً ملزماً بعد الانهيارات التي عرفها العالم العربي في ظل فوضى الربيع العربي؟ وهل كانت الدول العربية قبل التطبيع الإماراتي قائمة بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني وفي مواجهة العدوان والتحالف الإسرائيلي الأمريكي، وغالبية الدول العربية وخصوصاً دول الخليج بها قواعد عسكرية أمريكية؟
لقد حذرنا في مقال لنا يوم 28 مايو 2016 تحت عنوان "خطورة تعريب القضية الفلسطينية الآن" من صيرورة الأمور إلى ما نحن عليه الآن وطالبنا بضرورة زيادة التركيز على الذات الوطنية من خلال الوحدة الوطنية بدلاً من توجيه الغضب على الخارج العربي أو الدولي.
الغضب الشعبي الفلسطيني على جامعة الدول العربية وعلى موقفها من التطبيع ينطلق من منطلق أن القضية الفلسطينية ما زالت عند الأنظمة العربية قضيتهم الأولى أو هكذا يجب أن تكون، وهذا غير صحيح، فمع كامل قناعتنا بأن المشروع الصهيوني يتجاوز في أهدافه الاستراتيجية فلسطين، ومع احترامنا وتقديرنا للشعوب العربية المتعاطفة مع عدالة قضيتنا، إلا أن الواقع يقول بأن القضية الفلسطينية لم تَعد قضية العرب والمسلمين الأولى في ظل فوضى الربيع العربي والأزمة البنيوية والوظيفية التي تهدد وجود الدول الوطنية القائمة.
لكن لا يكفي أن تستمر القيادة الفلسطينية في التنديد بكل تطبيع عربي وبإلقاء اللوم على الأنظمة العربية وجامعتهم العربية لأنهم لم يتخذوا القرارات التي يريدها الفلسطينيون، فالجامعة العربية كانت تاريخياً خاضعة لموازين القوى العربية ولتوجهات دولة المقر والدول ذات التأثير والنفوذ الأيديولوجي أو المالي، وهي اليوم لا تشذ عن هذه القاعدة، كما أنها اليوم شاهد زور على كل الحروب الأهلية والصراعات في المنطقة العربية والغائب فيما كل دول العالم وخصوصاً دول الجوار تتدخل بل وتنتهك السيادة العربية. القيادة الفلسطينية تعرف كل ذلك وأكثر من ذلك وكان يجب على الدبلوماسية الفلسطينية معرفة ذلك واستيعاب ما يجري في العالم العربي من تحولات عميقة وليس إدارة الظهر لها وتجاهلها.
كما لا يكفي أن تستمر القيادة الفلسطينية بالتنديد بالأمم المتحدة ومجلس أمنها لأنهم لم يصدروا قرارات ملزمة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية اعترافاً كاملاً أو إجبار إسرائيل على الالتزام بما صدر من قرارات سابقة والخلل ليس في الأمم المتحدة التي هي محصلة لموازين القوى العالمية وتعبيراً عن المصالح الدولية وشأنها شأن جامعة الدولة العربية من حيث غياب دورها في حل النزاعات الدولية.
كما لا يكفي استمرار التنديد بالولايات المتحدة وسياستها المعادية للفلسطينيين ولموقفها المعادي لمحكمة الجنايات الدولية التي راهن عليها الفلسطينيون لتقديم قادة الاحتلال للمحاكمة! دون البحث عن شبكة علاقات وتحالفات دولية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة الكيان الصهيوني والعدوانية الأمريكية، وأليس غريباً أنه لا توجد أية دولة يمكن اعتبارها حليف استراتيجي للفلسطينيين لا عربياً ولا دولياً !!!. .
نعم من المطلوب الثبات على المواقف والتمسك بالثوابت الوطنية ورفض أي اعتداء على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني أو الإساءة للقيادة الفلسطينية، ولكن من الواجب بل والضروري عمل مراجعة وإعادة تقييم إن لم يكن محاسبة للدبلوماسية الفلسطينية التي ثبت فشلها على كافة المستويات وفي كل الساحات، وما تزعمه من تحقيق إنجازات وانتصارات للقضية الفلسطينية ما هي إلا انتصارات وهمية مهددة بالزوال في أي لحظة، أو إنجازات حقيقية تم تحقيقها قبل قيام السلطة الفلسطينية وهي نتاج لعدالة القضية وصبر وصمود ومقاومة الشعب الفلسطيني.