ما بعد المعارك

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم:
الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين

أولاً: مقدمة:

في مساءات  الانتصارات، وبعد انجلاء غبار المعارك ونقعها؛ يعقد المنتصرون حلقات الأفراح والتبريكات، وتعلو زغاريد الأمهات وهلهلات الأخوات، بعودة المنتصرين الظافرين، وينشغل القادة والمسؤلون بتفقد المقاتلين؛ من بقي منهم على قيد الحياة؟ ومن اختاره الله لجواره؟ ومن منهم أصيب فأقعدته إصابته؟ وتنهال على رؤوسهم ـ المسؤولين ـ سيول الطلبات بمختلف أصنافها وأنواعها , وفي الوقت الذي يتبادل فيه الناس التبريكات بما تحقق من إنجازات؛ ينشغل القادة في كم من الأولويات والمتطلبات، تكاد تسرق منهم فرحة النصر الذي أنجز، والهدف الذي تحقق، لذلك قيل: أنه في الوقت الذي يفرح فيه الناس والعوام بالنصر الذي تحقق، (يبكي) القادة و(ينتحبون)، لعلمهم أن الإجراءات والخطط والتدابير التي ساقت لهم هذا النصر؛ قد حُرقت وكشف سرها، لذلك لا يمكن أن تستخدم في المعركة القادمة، وأن عليهم أن يجترحوا من الخطط والتدابير القتالية والإدارية ما يحقق لهم النصر في المعركة القادمة، التي يبدأ الاستعداد لها مع انقشاع غبار التي انقضت تواً، وانتهت فعلاً. لذلك وبناء على ما تقدم فإن هذه الورقة تأتي للحديث عما يجب أن ينشغل به القادة والمسؤولون بعد انجازهم معاركهم، تحضيراً للقادم من الجولات، والمتوقع من النزالات. وهنا سنتحدث عن الإجراءات الواجب القيام بها بعد انتهاء أي معركة أو نزال مع عدو؛ صغر هذا النزال أو كبر، وبغض النظر أكان التشكيل القتالي الذي خاض المعركة، تشكيلاً نظامياً أو عصابياً (عصابات )، آملين أن تشكل هذه الورقة أرضية بحث وتدقيق من ذوي الاختصاص والاحتياج، فنسد بذلك ثغرة، ونساهم في معركة التحرير بسهم.      

ثانياً: إجراءات ما بعد المعركة:  

تتنوع الإجراءات التي تلي أي معركة تخاض، بين ما هو عاجل وضروري وذو طابع إسعافي، وما يمكن أن يصنف تحت تصنيف الإجراءات المدنية والتنظيمية، والتي تهدف إلى تحقيق حالة من الاستقرار الأولي للبيئة الحاضنة للمقاومة، إلى حين توفر الظروف والإمكانيات لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل المعركة التي خيضت، وهنا ينشغل التنظيم بأطره المدنية والخدمية في توفير كل ما يمكن من ضروريات الحياة ومستلزمات العيش الكريم، للحاضنة التي حضنت المقاومة ووفرت لها سبل النمو والتطور، وتحملت ـ الحاضنة ـ معها الضرر الناتج عن اعتداء العدو الصائل، ولن تتحدث هذه الورقة عن الإجراءات المدنية والتنظيمية الواجب القيام بها من قبل الأطر والتشكيلات المدنية التابعة لأي تنظيم أو حركة مقاومة، وإنما سينصب الحديث على الإجراءات العسكرية التي يجب على قادة المقاومة، ومتصدي شأنها القيام بها، والتي من أهمها ما يأتي:  

1. إعادة التنظيم وترميم الجهاز الدفاعي:  

إن أول إجراء يجب القيام به بعد انتهاء أي معركة أو اشتباك مع عدو هو: إجراء ما يعرف بإعادة التنظيم وترميم الجهاز الدفاعي، وهو ما يعني إحصاء الخسائر البشرية والمادية التي نتجت عن الاحتكاك مع العدو، والثغرات أو (التشققات) التي حصلت في الجهاز الدفاعي ـ الجهاز الدفاعي هو عبارة عن كامل الإجراءات والترتيبات البشرية والإنشائية التي يتم تجهيزها وإعدادها في منطقة المسؤولية بهدف التصدي لعمليات تعرض العدو وهجومه، وتبدأ بالعناصر المنتشرة في منطقة المسؤولية، ولا تنتهي بالدشم والعوائق الصناعية التي يتم نشرها في منطقة العمليات ـ  عن منطقة المسؤولية، وبدء تعويض هذه الخسائر وترميم تلك الثغرات، تحسباً من أي عمل مفاجئ قد يقدم عليه العدو لكونه ـ العدو ـ ما زال في حالة استنفار، ومن الممكن أن يكون انسحابه ما هو إلا أجراء خداعي، الهدف منه إيهام المقاومين أو المقاتلين بانتهاء المعركة، فيكر عليهم في حالة غفلة عن أسلحتهم وأعتدتهم، لذلك فإن إعادة التنظيم والترميم الأولية هذه الهدف منها؛ تعويض ما فقد من قدرات، وسد ما فُتح من ثغرات.  

2. مراجعة مدى تحقق الهدف أو الأهداف التي تم التخطيط لها:  

أما الإجراء الثاني الواجب القيام به فهو: مراجعة مدى تحقق أهداف الخطة الدفاعية التي تم وضعها. صحيح أن أهم هدف من أهداف  أي خطة دفاعية هو منع العدو من تحقيق هدف هجومه، ولكن هذا لا يعني أن الخطط الدفاعية لا تحوي أهدافاً جزئية ضمن ذلك الهدف ـ منع العدو من تحقيق هدف هجومه ـ، لأنه وفي سياق تحقق ذلك الهدف الكلي فإن أهداف جزئية من قبيل: إبطاء اندفاع قوات العدو، فرض مسار تقرب معين على العدو، حرف اتجاهات الهجوم المعادية، إيقاف تقدم العدو على محاور معينة، إيقاع خسائر بشرية ومادية في العدو، إيقاع العدو في كمائن معدة مسبقاً، ضرب مناطق حشد العدو، ضرب التنظيم القتالي للعدو، تجميد جزء من قدرات العدو القتالية،  وغيرها من الأهداف الجزئية، كلها تأتي في سياق  منع العدو من تحقيق هدفه الكلي من الهجوم، وهنا يقع على عاتق قادة المقاومة وضباطها وكوادرها مراجعة مدى تحقق هذه الأهداف من عدمه.  

3. مراجعة الخطة التي خيضت المعركة بناء عليها:  

الإجراء التالي هو مراجعة الخطة التي وضعت لتحقيق تلك الأهداف الكلية أو الجزئية، وهل نهضت هذه الخطة بما وضعت من أجله؟ فإن كانت الإجابة بنعم، فنعم الخطة هي، وإن كانت الإجابة لا؛ فلماذا لم تتحقق تلك الأهداف التي وضعت الخطة لتحقيقها؟ لماذا أخفقت الخطة في تلبية المطلوب منها؟ هل الخطأ في المعلومات أو المعطيات ( التقدير المعلوماتي ) التي بنيت عليها الخطة؟ أم أن نقصاً في الكفاءة أو الخبرة لدى الفريق الذي وضعت بين يديه هذه المعلومات هو السبب في عدم ترجمة أو تسييل هذه المعلومات  كخطط وإجراءات؟ هل المشكلة في نقص القدرات البشرية أو المادية؟ ماذا عن مناسبة المدد الزمنية المطلوبة لتنفيذ الخطة بناءً وتجهيزاً؟ وأسئلة يطول ذكرها ونكتفي بما ذكرناه، كقوادح ذهن تساعد في مراجعة خطط  العمل التعبوية.  

4. تحديد نقاط القوة التي ساعدت على انجاز المهمة وتحقيق الهدف:  

وفي المراجعات يجب الانتباه إلى نقاط القوة التي ساعدت على تحقيق أهداف الخطة الدفاعية، أو بعض أهدافها، ما هي نقاط القوة تلك؟ وكيف ساعدت على تحقيق الأهداف؟ هل يمكن الاستفادة منها في خطط مستقبلية؟ أم هي من صنف نقاط القوة الظرفية التي لا يمكن استثمارها مستقبلاً؟ بما أن نقاط القوة هذه قد تم كشفها وتعرف عليها العدو عندما ذاق أثرها على جلده؛ هل يمكن الاستفادة منها في المستقبل؟ أم أنه يجب إدخال بعض التعديلات والتحسينات عليها حتى تؤتي أكلها في المستقبل، كما آتت أكلها في هذه المعركة؟ ما هو شكل التصدي المستقبلي المتوقع للعدو في مواجهة نقاط القوة هذه؟  

5. مراجعة  شكل التهديد المستقبلي والمخاطر الناتجة عنه ( تطور التهديد ) بناء على المعركة التي انتهت:  

لكن أهم ما يجب القيام به من إجراءات عقب أية عملية قتالية ـ خاصة الدفاعية منها ـ ما يعرف بشكل التهديد المستقبلي والمخاطر الناتجة عنه، حيث أن تعريف التهديد الجديد والمخاطر الناتجة عنه هو ما سيحكم مسار بناء وتطوير القدرات البشرية والمادية بعد الانتهاء من ترميمها الأولي. فليس متصوراً أن ما واجهنا من تهديد في المعركة التي انقضت، هو نفس التهديد الذي سنواجهه في المعركة القادمة، فالجهة التي قامت بالعدوان وصالت علينا، سوف تقوم بتطوير ذاتها وقدراتها للتمكن من مواجهة القدرات التي تصدت لها أثناء اعتدائها، وعليه؛ فإن هذا الإجراء ـ مراجعة تطور التهديد ـ هو أهم الإجراءات التي يجب أن لا تغيب عن الجهات المتصدية لبناء أنوية وخلايا ومجاميع المقاومة. وهذا الإجراء لا ينتهي إلا بعد أن تخاض المعركة المقبلة، أو الاشتباك التالي، بمعني أن قيادة المقاومة، وبعد أن تُعرّف التهديد الجديد والمخاطر الناتجة عنه؛ تُبقي هذا الملف مفتوحاً؛ تضيف عليه كل جديد، وتطور فيه المفاهيم، وتحذف منه ما ثبت عكسه أو خطؤه، وتبني على الأشياء مقتضياتها، إلى أن تُخاض معركة أو اشتباكٌ جديدٌ، فيُغلق ملف التهديد الحالي، ليُفتح ملف تهديد جديد ومخاطر أخرى، في حركة مستمرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.  

6. مراجعة الهياكل والأطر القيادية والقتالية الحالية وإجراء التعديلات المطلوبة عليها والتي تناسب تطور التهديد الجديد والمخاطر الناتجة عنه:  

ما يلي مراجعة تطور التهديد والمخاطر الناتجة عنه، مراجعة هياكل العمل الحالية، وبحث ملائمتها للنهوض بأعباء التصدي للتهديد الجديد، فكما أنه ليس من المتصور أن التهديد المستقبلي لن يكون مطابقاً للتهديد الحالي؛ فإن هياكل العمل القيادية والقتالية الحالية ـ حكماً ـ لن تكون مناسبة بالشكل المطلوب لمواجهة التهديد المستجد، لذلك فإن مراجعتها وإجراء التعديلات عليها يأخذ حكم الواجب الذي لا يتم الواجب ـ قتال العدو ـ إلا به. كما أن من تداعيات المعركة التي انقضت أنها كشفت هياكل عمل المقاومة، وكيفية إدارتها لذاتها؛ الأمر الذي يستدعي في ذاته مراجعة وضع هذه الهيكليات في ظل انكشاف أمرها و( انفضاح ) سرها، ليبنى على الشيء مقتضاه.  

7. وضع خطط وإجراءات الاستيعاب والدمج والتطوير للقدرات الجديدة  المطلوبة للتصدي للتهديد المتصور مستقبلاً:  

كانت معظم الإجراءات السابقة، إجراءات فيما يعرف بالأعمال الركنية، أي الأعمال التي تتم في المكاتب وخلف الطاولات وأجهزة الكمبيوترات والخرائط، ويتصدى لها قادة المقاومة بالتنسيق والتعاون مع جهات الاختصاص ـ السياسية والتنظيمية والعسكرية و... ـ، وهنا وفي هذه المرحلة  من العمل تبدأ قيادة المقاومة في تنفيذ الخطط والتوصيات والتدابير التي صيغت بشكل نظري، وتحويلها إلى إجراءات تنفيذية، تُعنى بكيفية استيعاب ودمج وتطوير القدرات الجديدة التي يجب أن تضم إلى القدرات الحالية، وكيف تصبح هذه القدرات الجديدة جزءاً رئيسياً وعضوياً فيها، حتى تتمكن المقاومة أو التشكيل العسكري من التصدي للتهديد المستجد في المعركة القادمة. وهنا لا بد أن نُذكّر بأن عمليات الضم والاستيعاب هذه هي عبارة عن مسار عمل لا يجب حرق مراحله حرقاً، كما يجب أن تكون الأهداف فيه واضحة قابلة للقياس، وتراجع أولاً بأول، ليُجرى عليها التعديل المطلوب إن اقتضى الموقف تعديلاً، أو تطلبه الأمر بناء على أي تغيير في شكل التهديد الموضوع تحت المراقبة من قبل قيادة المقاومة. كما يجب التذكير أن هذه المرحلة يجب أن يتم فيها ترتيب الأولويات بناء على رؤية واضحة ومتفق عليها بين كافة الأجهزة والأطر التي تدير شؤون المقاومة، ومن ثم تُخصص القدرات البشرية والمادية بناء على ترتيب الأولويات تلك.  

8. تطوير قدرات ووسائل القيادة والسيطرة بناء على الدروس المستفادة من المعركة الأخيرة:  

ومن الأمور واجبة المراجعة، موضوع منظومات القيادة والسيطرة، فتطور التهديد الذي اقتضى تطور هياكل العمل وأقسامه، يقتضي حكماً تطوراً في  منظومات القيادة والسيطرةC2 ، ففضلاً عن أن جزءاً منها قد يكون وقع في يد العدو، أو كشف سره، الأمر الذي يستدعي المراجعة والتطوير. والاتصالات الآمنة هي عصب المعركة، وعدونا (ملك ) في هذا المجال، لذلك يجب أن تجترح قيادة المقاومة من وسائل الاتصالات والتحكم ما يُمكّنها من إدارة معركتها خارج سيطرة العدو، وهنا لا بأس من التذكير ولو بشكل سريع بأننا نخوض معركتنا في الضفة الغربية وفي مدنها وقراها وهي مساحات صغيرة ومتقاربة، ولا تتطلب تكنولوجيا متطورة لتغطية شأن الاتصالات، ويمكن تشغيل وسائل اتصالات آمنة خارجة عن سيطرة العدو في قرانا ومدننا، يمكن للمقاومة من خلالها أن تدير شؤونها بشكل فاعل وأكثر أمناً، من ركونها إلى وسائل التواصل المتطورة والحديثة، حتى لو تأخرت بعض الإجراءات بسبب بطء الاتصالات، فالأمن هنا مقدم على السرعة.  

9. مراجعة الإجراءات السابقة بشكل دوري انطلاقاً من قاعدة امتلاك القدرات البشرية والمادية القادرة على التصدي للتهديد المتصور مستقبلاً:  

الإجراء الأخير الذي يجب التذكير به هو: مراجعة تلك الإجراءات أولاً بأول، وبقاؤها تحت البحث والمراقبة، خاصة تطور التهديد المستقبلي والمخاطر الناتجة عنه، فلا يجب أن يغفل عن هذا الأمر، فضلا عن سواه من الإجراءات،  ولا يجب أن يوضع السلاح، فيمال علينا ميلة واحدة. والعاقل لا ينام لعدوه ولو كان نملة.    

ثالثاً: الخلاصة:  

في خلاصة هذه الورقة؛ نعلم أننا لسنا جيشاً نظامياً ـ ولا يجب أن نكونه في هذه الفترة الزمنيةـ في الضفة الغربية يملك فصائلاً وسرايا وكتائباً وألوية. لكننا نعلم أن هنالك مجاميع مقاومة تقاتل، الأمر الذي يفرض عليها تنظيم إجراءاتها، وتحديد مسؤولياتها ومناطق عملها وأولوياتها. كما نعلم أننا يجب أن نضع السياسات والضوابط والتدابير الحاكمة لعمل هذه التشكيلات والمجاميع، التي تنظم عملها فيما بينها، وتضبط علاقتها مع حاضنتها الشعبية، حتى لا تخسرها أو تحملها ما لا تطيق. كما نعلم أن العمل المنظم يساعد على تحسين القدرات وتطوير الأداء، وتخصيص القدرات وصرف الإمكانيات. وهذا كله يأتي من باب الأخذ بالأسباب الذي أمرنا به رب الأرباب.  والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023