مفهوم الواقعية للحركات الثورية

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني



بقلم:
الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين

توطئة:  

تُعد العلوم الاجتماعية من أعقد العلوم التي يتعاطى معها طلاب العلم وبنو البشر؛ كيف لا وهي ـ العلوم الاجتماعية ـ قائمة على دراسة سلوك الانسان؛ منشأً وتحليلاً وتعليلاً، فإن كان منشأ الفعل من الكائنات التي تنتج أعمالها  ـ فعلاً أو رد فعل ـ انطلاقاً من كثير من الدوافع وكثير من المحددات والمنطلقات؛ إن كانت أفعاله كذلك ـ وهي كذلك ـ  فإنه يبنى عليها كثير من التفسيرات والتأويلات والتحليلات؛ بناء على جهة التحليل أو التعليل، والأدوات التي استخدمتها تلك الجهة عند قيامها بدراسة هذا السلوك البشري. ومن أكثر المصطلحات التي تطرق أذن السائل عندما يسأل عن تعليل فعل أو تحليل سلوك، مصطلح "الواقع " ومشتقاته، من " واقعية " أو "بواقعية " أو " واقعيًا "، ولما كانت الحركات الثورية إنما جاءت لتتعامل مع،  "واقع موجود " بهدف تغييره إلى أو سوقه باتجاه " واقع منشود "، كان لا بد للثورة والثوريين أن يكون لهم فهمهم الخاص لهذا المصطلح السياسي، الأمر الذي ستحاول هذه الورقة أن تجيب عليه من خلال طرقها لعناوين ذات صلة، بدءاً من تحرير المصطلحات، ثم التعريج السريع على مدارس العمل السياسي في العلاقات الدولية، ثم ستقترح الورقة مفهوماً خاصاً للواقعية، نزعم أنه يمكن أن يكون صالحاً للحركات الثورية، لتختم ـ الورقة ـ بما يقتضيه هذا التعريف المقترح من مقتضيات، وما ينبني عليه من مخرجات. فنكون بذلك قد أسهمنا في ضبط المصطلحات، ليبنى على الشيء مقتضاه.  

تحرير المصطلحات:  

تعريف الواقعية:  

يصطدم الباحث عند يدقق في مصدر كلمة " واقعية " لضبطه عبر معاجم اللغة، يصطدم بكم هائل من المعاني والمشتقات، ما بين ما هو اسم، وما هو فعل أو صفة، ولن ندخل في هذا الباب من البحث، فله أهله وأصحابه، ولكن ما يعنينا في هذا المجال هو تعريف الواقعية والتي تكاد تجمع عليه كل التفاسير على أنها عكس الخيال، أو هي: وجهة النظر التي تتطابق مع الأشياء المعروفة، أو المدركة وجودياً.

 أي أنها تتحدث عما هو قائم ومشاهد وملموس فعلاً في الحاضر، وليس لها علاقة بما هو متصور في المستقبل، أو ليس هناك شواهد على إمكانية حدوثه، هذا باختصار.  

تعريف الثورة:

أما عن الثورة فنكتفي بما تكاد تجمع عليه المعاجم أيضاً من أن : ثار الشيء ثورا، وثؤورا وثورانا. «وأرض مثارة»، إذا أثيرت بالسن، وهي الحديدة التي تُحرث بها الأرض، أي قلبها على الحب بعدما فتحت أول مرة، وقال عز وجل «وأثاروا الأرض»، أي حرثوها وزرعوها واستخرجوا بركاتها. إنها فعل قلبٍ على واقع غير مرغوب، أملاً في تحقيق واقع منشود، مع وجود أمل في أحداث هذا التغيير، باختصار.  

بهذا المختصر الموجز؛ نكون قد حررنا هذين المصطلحين، لذلك نستطيع أن نقول وبكل ثقة أن الثورة نقيضٌ للواقع، ولا يجتمعان  إلا بمقدار تعامل الأولى ـ الثورة ـ ، مع الثانية  ـ الواقع ـ، أملاً وإصراراً على تغييره، وعليه فإن من أهم صفات الثورة والثوار أنها وهُم، حركة وأناس غير واقعيين بالمعنى المتبادر ابتداءً إلى الذهن أو الفهم، إنهم ـ الثورة والثوار ـ مكون يتعاطى مع الواقع ليغيره، ولا يستسلم له عاجزاً، مسلياً النفس بأن الواقع يتطلب التعامل معه بواقع، وفقط، وفي هذا سنفصل لاحقاً.    

تعريف نظريات العمل في العلاقات الدولية:  

واستكمالاً لمفردات الورقة، وحتى نأتي على أبجديات هذا البحث الأولية، لابد لنا من الإشارة ولو سريعاً إلى المدارس والنظريات الحاكمة في العلاقات الدولية، من باب أن العلم بالشيء خير من الجهل به، وهنا نُذكّر بأن سلوك الوحدات السياسية أثناء عملها الدبلوماسي تحكمه ثلاث نظريات هي:  

1. النظرية الواقعية:

وهنا يطول البحث والتفصيل، وذكر المدارس الفرعية ـ الكلاسيكية، الكلاسيكية الحديثة، الواقعية الجديدة، الواقعية الهجومية، والواقعية الدفاعية ـ  داخل هذه المدرسة الكلية. 

وخلاصة الرأي في هذه المدرسة أن دراسة العلاقات الدولية يجب أن تبنى على ما هو قائم فعلاً، وليس على ما يجب أن تكون عليه الأمور. 

وتنطلق هذه النظرية في تعاطيها مع الشأن السياسي من منطلقات عدة أهمها: أن لا أخلاق ولا مبادئ في السياسة، وأنه يجب أن ( تنقى) السياسة من المعايير الأخلاقية والمبدئية !! وأن معيار الحكم على أي فعل سياسي هو ما ينتج عنه من نتائج فقط ! وتفترض هذه النظرية أن الدول تتصرف في شؤونها وشؤون غيرها بشكل عقلاني ! وتعرّف مصلحة الدولة في هذه النظرية بأمنها القومي، كما أن بقاء الدولة هو المحدد الأساسي لسلوكها، وفقاً لما تقوله هذه النظرية وأتباع مدرستها .  

2. النظرية الليبرالية :

هي مدرسة سياسية تقوم على احترام حرية المعاملات، مبرزة الفوائد المتبادلة بين المكونات المجتمعية والسياسية، وأن حرية الفرد مقدسة ولا يحدها حدود؛ ما لم يكن في ممارستها ـ الحرية الفردية ـ تعدٍ على حرية الآخرين، أو ألحقت ضرراً بأحد مكونات المجتمع.  

3. النظرية الثورية:  

تهدف النظرية الثورية في إدارة العلاقات الدولية إلى تغيير النظام وليس إصلاحه، وهي تعلي من قيمة العدالة، وترى أن سبب الحروب الرئيسي هو استغلال دول الشمال الغني لدول الجنوب الفقير، ونهب خيراته، كما أنها ـ النظرية الثورية ـ ترى في تغيير العلاقات الاقتصادية مفتاحاً لحل المشاكل والحروب.  

قبل أن ننهي هذا العنوان؛ لا بد من الإشارة إلى أن لكل من هذه المدراس مؤيدين ومخالفين، ولدى كل منهم ما يسوقه من ملاحظات أو شبهات لدعم  ولتدعيم رأيه ـ سلباً أو إيجاباً ـ، كما يشتقون من هذه النظريات أدوات تحليلهم ودراستهم لمواقف وسلوكيات الأفراد والوحدات السياسية.  



تعريف الواقع والواقعية للحركات الثورية:  

إذا كانت الواقعية كما جاءت في مدارس العلاقات الدولية تتطلب التصرف والتحرك بناء على ما يقتضيه الواقع، وتفرضه الظروف، وإن كانت الثورة في المصطلح والإجراء إنما هي فعل قَلب؛ فنحن أمام ضدان لا يجتمعان، إنهما كالليل والنهار، أو الجوع والعطش، إنهما ـ الواقعية والثورية ـ خصمان يتصارعان في معادلة صفرية، فلا يمكن اجتماع أحدهما بوجود الآخر ! لكن هل يعني هذا أن يُغفل الثائرون الواقع الذي يتحركون فيه، فلا يرون مفرداته، ولا يتلمسون جزئياته، فينطحوا رؤوسهم في صخر واقعهم الحالي، فتتكسر قرونهم عليه؟ أم أن الواقعية تتطلب منهم التعايش مع هذا الواقع وممالأته، ومسايرته؟ رائده في ذلك " الإيد اللي ما بتقدر تقطعها بوسها " أو " حط راسك بين هالروس وقول يا قطاعين الروس " أو أن " العين ما بتقاوم المخرز ". 

إن كاتب هذه السطور يزعم أن موقف التعامي عن الواقع وإغفاله غير مستساغ، كما أن الركون له ـ للواقع ـ والاستسلام له غير مقبول، فهو ـ القبول بالواقع ـ ليس من صفات الثورة أو الثوار، لذلك فإن الواقعية في العمل الثوري تتطلب فهماً حقيقياً للواقع وتحدياته، لاشتقاق طرق واجتراح إجراءات عملٍ تقلبه رأساً على عقب، وصولاً إلى الغاية المنشودة. وفيما يلي صور ومصاديق " للواقعية " في أهم مفاصل العمل الثوري ففي:  

1.  تحديد الأهداف والغايات والتعامل معها:  

 تحددها  بناء على القدرات وليس الرغبات.  

 من الواقعية، والأمانة الثورية أن يتصرف الثوريون بناء على قاعدة : ما لم أستطعه أنا بحكم الواقع الآن، قد يقدر عليه غيري في قابل الأيام، فلا يكبلون ـ الثوريون ـ من سيأتي بعدهم بنصوص أو متون فرضَها الواقع.  

 يُتفاهم عليها من المجموع العامل، ولا تترك فريسة الأفهام والاجتهادات، انطلاقاً من مقولة أن الواقع كفيل بتفهيم وإفهام من لم يفهم.  

 ومن الواقعية أن لا يُحاد عن الأهداف الكلية والغايات العليّة، حتى لو اقتضى الواقع الحالي كموناً  أو وقوفاً.

 ومن الواقعية أن يفهم العاملون أن ما لا أو لم  يستطيعوا تغييره الآن، لا يُبرر لهم التنازل عنه، وأنه يجب أن يُترك للأجيال التالية أن تحاول تحقيقه.  

 وقمة الواقعية أن يقتنع العاملون بأنهم حلقة في سلسلة؛ لها ما قبلها من حلقات، ومرتبطة بما بعدها من أجزاء، لذلك فضعفهم يفتّ في عضد اللاحقين، ويقطع صلتهم بالسابقين.  

2. بناء العلاقات والصداقات :  

 من الواقعية أن يتصرف الثائرون على قاعدة أن العلاقات والصداقات هي وسيلة من أدوات الفعل وعدة الشغل، وليست هدفاً بذاتها، أو لِذاتها.  

 ومن قمة الواقعية أن يدرك الثائر أن  الدول أو الهيئات، ليست جمعيات خيرية، أو مبرّات إنسانية، وإنما جهات تُتبادل معها المصالح، ويُتقاطع معها على مشاريع واستراتيجيات.  

 والواقعية تقول أن الذي أعطاك لن يلبث أن يقول لك هات ـ لو ابتسامة ـ ، فهيّء لهذا الموقف الممكن من متطلبات.  

 ومن الواقعية أن نقبل أن لا أن نلتقي نحن والآخرون على 100 % خيارات ومسارات، بل يكفي أن نتقاطع في الاستراتيجيات والكليات، فنتشارك دون مُكبلات أو معوقات.

 ومن فهم الواقع والواقعية أننا ــ شئنا أو أبينا ــ سنكون جزءاً من المشاكل الداخلية لحلفائنا وأصدقائنا، أو قد يطلب منا مشاركة في معاركهم الجانبية ! فماذا أعددنا لمثل هذه المواقف السياسية.  

 قد يتطلب واقع الموقف حسماً ـ مع أو ضد ـ  للخيارات في تبني المواقف والاتجاهات، فكن مستعداً إذا اقتضى الموقف مثل هذه الوقفات.  

 ومن واقعيات عصر السوشال ميديا وثورة المعلومات، أن مبدأ العلاقات القائم على قاعدة " رجل في البور ورجل في الفلاحة " قد ولّى إلى غير رجعة!

3. بناء وإدارية وتشغيل القدرات:  

 من الواقعية أن يقتنع الثائرون أنهم لن يبلغوا مرتبة العدو في امتلاك القدرات، فلا يهدر الوقت والمقدرات، لتنصب على تأمين ما يعين على منع المعتدين من أن يبقوا مرتاحين ومستقرين.  

 قمة الواقعية أن يفهم ويتصرف الثائرون على قاعدة أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد و " لكنكم تستعجلون".  

 ومن الواقعية أن تخصص القدرات بناء على ترتيب الأولويات، فالعدل لا يعني المساواة.  

 ليس من الواقع ولا الواقعية أن تبدأ في تشغيل القدرات من (سقفها )، فالواقعية تقول لك إن بدأت من هنا  فبماذا ستنهي وتختم؟  

 ومن الواقعية الانتباه من الوقوع في (أسر) المزود أو الممهد للحصول على هذه القدرات، شخصا ً كان أو هيئات !!  

4. التعامل مع الأهل والحاضنات الشعبية:  

 عين الواقعية أن يفهم الثائرون أن حاضنتهم الاجتماعية هي الأصيل، وهم الوكيل، فلا يتصرف الوكيل بما يفقده ثقة الأصيل؛ فيبحث له عن بديل.  

 ومن المسؤولية والواقعية أن يقتنع الوكيل بمحدودية  طاقة الأصيل ، فلا يحمّله حملاً ثقيلًا.

 والواقعية تقول : أنه كما للثائر الوكيل أولويات واهتمامات، فإن للمواطن الأصيل أولويات واهتمامات، والسلوك الواقعي يتطلب تفاهماً على المتطلبات وترتيباً للأولويات، فلا تتضارب المصالح، وتتشعب الدروب الموصلات.  

 ومن الواقعية أن يؤمن الثائرون أن ما يسعهم من سلوك وضوابط وإجراءات، قد لا يسع حاضنتهم، والعكس في بعض هذا الأمر صحيح.  

 ومن الواقعية أن يفهم الثائرون أن هذه الحواضن هي مادة عمل للعدو، يبحث عن ضعفها، ومكامن الخلل فيها، فيضغط عليها ليستثمرها، الواقع يقول أننا وهم بشر، يعترينا النقص، ونضعف، لذلك لا يجب أن يُعان العدو عليهم ـ على الحاضنة ـ  بسوء الطوية أو بأخطاء مسلكية، يزعم أنها من صلب الطباع الثورية!

الخلاصة:  

في الختام، يزعم كاتب هذه الورقة أن الثورة نقيض الواقع، ما جاءت لتسكت عليه، أو تستكين له، إنها ـ الثورة ـ فعل قلب وتغيير جذري، وليس فعل كشط وتبديل سطحي، والثائر في أصل تركيبه إنسان متمرد على الواقع، غير مسلم له، يرى في السكون مفسدة، وفي الاستكانة ضعف، هو ـ الثائر ـ أكثر الناس فهماً للواقع لما يتركه عليه من أثر، ويسببه له من كدمات، وهو عندما يتعامل مع واقع مُعاش، إنما يتعامل معه كزمان مستقطع، وظرف زائل، يحتك به ـ بالواقع ـ ليفهم كنهه، ويحلل أبعاده، ويتقي شره، ويستثمر خيره، ثم يتحرك لتغييره، فإن سكن ـ الثائر ـ؛ فالسكون الذي يسبق العاصفة، وإن هدأ؛ فهدأة هزبر متربص في كمين.
 وغير هذا الفهم " للواقع " و" الواقعية "؛ مقدَرٌ صاحبُه، محترمٌ القائل به، ولكنه ليس من سلوك " الثورة "  ولا " الثائرين".
 والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  




جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023