أولاً : مقدمة :
أعلن وزيد الدفاع الإسرائيلي الجنرال " يواف غالانت " أمس عن مراحل الحرب التي يشنها كيانه المؤقت تحت اسم " السيوف الحديدية " ضد المقاومة الفلسطينية في غزة ،والتي ـ المقاومة ـ وعلى رأسها كتائب الشهيد " عز الدين القسام " فاجأت العدو في السابع من أكتوبر الحالي بعملية عسكرية واسعة تحت اسم " طوفان الأقصى " شنتها فصائل المقاومة ضد مواقع العدو العسكرية ، ومغتصباته الواقعة في غلاف غزة ، حيث قتلت فيها المقاومة من العدو ما يزيد عن 2000 قتيل بين عسكري ومستوطن ، وأسرت ما لا يقل عن 500 أسير ؛ اعترف العدو أن منهم ما لا يقل عن 200 عسكري من مختلف الرتب والمرتبات .
وما زالت الحرب إلى الآن دائرة رحاها بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ، والتي هبت لنجدتها قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية المنتشرة هناك ، وفي مقدمتها المقاومة الإسلامية "حزب الله " ، والذي ارتقى له إلى الآن ما يقارب 15 شهيداً ، فضلا عن شهداء الفصائل الأخرى التي شاركت في الاشتباك مع هذا العدو انطلاقاً من جنوب لبنان ، حيث ارتقى لحركة المقاومة الإسلامية "حماس " في لبنان 3 شهداء حتى كتابة هذه الورقة . لقد تحدث الوزير عن مراحل الحرب ، والغاية الكلية من كل مرحلة من مراحلها ، الأمر ـ مراحل الحرب ـ الذي تأتي هذه الورقة لمناقشته ، وتحليل كنهه ، وما يمكن أن ينبني عليه ، ليبنى على الشيء مقتضاه .
ثانياً: مراحل الحرب :
لقد تحدث الوزير عن مراحله للحرب ؛ عدّها ثلاثاً وهي على النحو الآتي :
المرحلة الأولى :حيث تجري حملة عسكرية بالنار، وبعد ذلك مناورة (حرب برية) بهدف تدمير النشطاء والإضرار بالبنية التحتية من أجل هزيمة حماس وتدميرها.
المرحلة الثانية : استمرار القتال، ولكن بكثافة أقل، حيث تعمل القوات على القضاء على جيوب المقاومة
المرحلة الثالثة : إنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة، وإزالة مسؤولية إسرائيل عن الحياة اليومية فيه ، وخلق واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل والمنطقة المحيطة بقطاع غزة.
ثالثاً : تحليل الموقف :
لا شك أن المراحل التي تحدث عنها الوزير ، لا يختلف فيها أو عليها أصحاب الاختصاص ، ولا أهل الفن عندما يتحدثون عن الحروب النظامية ، وكيفية مواجهة القوات العاملة فيها أو التشكيلات العسكرية التي تخوض غمارها لمواجهة التهديدات المتصورة التي يمكن أن تتعامل معها أثناء التقدم أو المناورة ؛ بصرف النظر أكان التقدم والمناورة في المناطق السكنية والمأهولة ، أو في المناطق المفتوحة ، وجبهات القتال الكلاسيكية التي تحوي دشماً ومتاريس وخنادق .
فأول ما تقوم به القوات المهاجمة هو العمل وفق أحد أنواع القتال الهجومي ـ التقدم لأخذ التماس ، الاستطلاع القتالي ، الهجوم المنسق ، المطاردة ، استثمار النصر ـ ، فإن تحقق للمهاجم النجاح والتفوق في المرحلة الأولى ؛ وحتى يستقر له المقام ، ويقضي على التهديد ؛ يقوم بعمليات التطهير والتنظيف بالنار القريبة والقتال الفردي ، لكل جيوب المقاومة المتبقية في منطقة العمليات بعد هزيمة عدوه ، أو أسره أو قتله أو فراره وانسحابه من الأماكن التي كان يحتلها المهزوم ، وهي المرحلة الثانية للقتال ، ثم تأتي المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة يتطلبها العمل في المناطق السكنية ، والتي لم يخرج أهلها منها ، حيث يتطلب الموقف بعد هزيمة العدو وتطهير المدينة أو القرية أو الحاضرة السُكّانية من جيوب المقاومة ، يتطلب الأمر تثبيت (نظام) سياسي أو منظومة إدارة محلية ، تشكل حلقة الوصل بين المحتل والمحتلة أرضه أو مدينته أو قريته ؛ حتى تستمر الحياة ، ويتفرغ المُحتل لشؤونه العسكرية ، ولا ينشغل بشؤون المواطنين الإنسانية والاجتماعية .
وعليه فإن ما قاله الوزير من حيث المنطق والعقل ؛ أمرٌ منطقي عقلي ، لا يختلف عليه اثنان ولا تنتطح فيه عنزان . ولكن ما قد يكون غاب عن ذهن هذا الوزير ذو الرأس (الحامي ) أن الحروب لا تجري بالضبط كما خُطط لها على الورق ، أو كما رُسمت على الخرائط ؛ فالحرب نشاط تفاعلي بين طرفين ، وهي فعل ورد فعل ، ولا تمارس في الفراغ ، إنه صراع بين إرادتين ، وكباش بين متخاصمين ، وليس بالضرورة أن ينتصر أو يفوز فيها من يملك قدرات أكثر ، وإنما الذي يفوز فيها حتماً ؛ من يملك قوة أكبر ، وشتان بين القدرة والقوة ، فالأولى محض أدوات تحصي وتُعد ، أما الثانية ـ القوة ـ فمزيج من قدرات وإرادات ، فلا قيمة لقدرات لا تسندها إرادات ومعنويات . لذلك سنتحدث في العنوان التالي عن متطلبات تنفيذ مراحل حرب هذا الوزير ، التي لا يمكن أن يُتصور نجاحه فيها ـ الحرب ـ ما لم يتم توفير هذه المتطلبات .
رابعاً : متطلبات الإجراء :
أما عن متطلبات تحقيق الهدف من مراحل حرب العدو التي جاء الوزير " غالانت " على ذكرها ، فإنها تنقسم إلى نوعين من المتطلبات :
- متطلبات معنوية :
- تحقيق عنصر المفاجأة : وهنا باختصار شديد ، لا يمكن للعدو أن يفاجئ المقاومة في غزة ، وهي التي بدأت الحرب واستعدت لها ، وجهزت لها من الخطط ما تَحسبت له لمواجهة رد فعل العدو ، حتى وإن جاء ـ رد فعل العدو ـ هذه المرة خارج المتوقع فيما يتعلق بحجم القتل والدمار للمدنيين وبئتهم .
- تحقيق عنصر الصدمة : كما لا يمكن أن يحقق العدو صدمة لقوى المقاومة التي تحصنت في غزة ، فما ألقاه هذا العدو من حمم النار والدمار لم يحقق صدمة إلّا لدى المدنيين والمراقبين ؛ أما من استعد للحرب ـ المقاومة ـ فالصدمة لا يمكن أن تكون ما لم تسبقها مفاجأة ، والمفاجأة منتفية في موقفنا القتالي هذا .
- قدرات قتالية بشرية متعافية : الأمر الآخر المطلوب ليحقق العدو مراحل حربه بنجاح ؛ امتلاكه لقدرات قتالية بشرية متعافية ، وهو أمرٌ لا نظنه يحوزه ، وللشاكّين نقول : اسألوا فرقة غزة قبل أن تنهار ، كيف كانت معنويات جنودها ؟ فما بالكم بعد ما رأى جنوده ما رأوا ، وذاقوا من بأس المقاومة على جلودهم ما ذاقوا ، ثم اسألوا جنود العدو الذين دخلوا "طولكرم " قبل يومين ، ينبئوك بالمزيد .
- إرادة سياسية متماسكة : وهنا بالذات فإن العدو يعيش أسوء أيام حياته على مستوى تماسك القرار السياسي ، وتعاضد الساسة والأحزاب ، والكل ينتظر انتهاء الحرب ، لتبدأ حرب السكاكين بين (الإخوة ) المتشاكسين، ومحاسبة المقصرين ، وسيغدو كثيراً منهم إما مستقيلاً أو سجين .
- قيادة عسكري جريئة : لا نريد أن نقلل من شأن أعدائنا ، فالعاقل لا يَنم لعدوه ولو كان نملة ، ولكن المراقب المنصف ، والمتفحص في وجوه قادة العدو وهم يتجولون بين جنودهم ، ويحدقون في شاشات أجهزتهم ، ويرى سلوكهم بعد ما حشدوا ما حشدوا ، وأعدوا ما أعدوا ؛ يرى أن أقل صفة يمكن أن تطلق عليهم أنهم فاقدون للجرأة غير مستعدين لتحمل المخاطر .
- جبهة داخلية داعمة : وجبهة العدو الداخلية أيضاً على شاكلة قادتها السياسيين ، فهي غير متماسكة ، وغير مستعدة لتحمل الخسائر ، واسألوا إن شئتم المظاهرات التي كانت تطالب باستقالة " نتنياهو " قبل الحرب ، وكيف تقسم هذا ( المجتمع ) المصطنع إلى قبائل وفرق ، هذا قبل الحرب ، فما بالكم الآن وشريحة واسعة من هذا التركيب غير المتجانس ترى أنها تدفع أخطاء مجموعة متطرفة من المسؤولين ، تريد مغانم الحكم دون أن تشارك في مغارمه .
- عدو خائف مصدوم : وهنا يمكن تسطير الكثير ، وكتابة المؤلفات ، فمن يملك جرأة أخذ قرار فتح النار على العدو الإسرائيلي ، مالك ( أقوى ) جيش في المنطقة ، والذي يحاصره ـ يحاصر آخذ القرار ـ منذ ما يقارب 17 سنة ، وقيل أنه يحصي أنفاس الناس في المنطقة ، فما بالكم بقطاع غزة الذي زنره بالنار ، وسيطر عليه بالأنظار ، واخترق أرضه وسماءه ، من ملك جرأة أخذ هذا القرار ، ليس بخائف ولا مرعوب ، بل مصدوم !! هل قلتَ مصدوم ؟ نعم مصدوم جداً من هشاشة هذا العدو ، ومن سرعة انهياره أماه ، وتحطم قدراته وأسر جنوده وضباطه .
- جبهة معادية متحللة أو غير متضامنة : وجبهة المقاومة الداخلية تنبؤك بالكثير ، فمنذ الأسبوعين وهي تتلقى النار والدمار من هذا العدو الغاشم ، فما سمعنا غير صوت الأطفال يئنون من الألم ، والنساء وهي تنتحب على أعزائها ، ولكن لم نسمع من يصوب سهام غضبه على المقاومة والمقاومين ، كيف يفعلون ـ الناس ـ وهم ـ المقاومون ـ أبناؤهم ، من بينهم خرجوا ، وعلى بسطهم وحصائر بيوتهم شبوا ، ومن صحون أكلهم أكلوا وتغذوا ، ومن أجلهم يستشهدون ويضحوا .
- معلومات صلبة عن الجبهة المعادية : إننا نكاد نجزم أن المعلومة الصلبة الوحيدة التي يملكها هذا العدو عن المقاومة المتحصنة في حواري غزة وشوارعها ، المعلومة الصلبة الوحيدة التي يملكها العدو هي : أننا لا نعرف ماذا أعدوا لنا هناك ، وإلا فما هو تفسير هذا التباطؤ والتردد في اتخاذ قرار المناورة البرية التي اكتمل حشد قدراتها منذ أكثر من الأسبوع ؟
- قدرة على تحمل طول زمن المعارك والحرب : وعدونا هنا ليس من أصحاب النَفس الطويل في تحمل الحروب ومرارتها ، وضنك العيش ورطوبة الملاجئ ، واسألوا من هبوا مسرعين إلى مطارات وموانئ فلسطين المحتلة ، لا يلوون على شيء ، فما لهذا جاؤوا ، ولا لهذا استوطنوا ، إنما جاؤوا ينشدون عسلاً لا لسع فيه ولا معه ، فإن لسعوا (فلسعوا).
- متطلبات مادية :
أما عن المتطلبات المادية لنجاح مراحل حرب " غالانت " التدميرية ، فلن نطيل الحديث في ذكر التفاصيل ، ونكتفي بثلاثة منها ، تعد الأم فيها ، ومركز ثقلها وهي :
- قدرات قتالية مثبتة الفاعلية : وهنا أيضاً لن نطيل ، فعدونا يملك قدرات قتل غاشمة ، وأدوات بطش مدمرة ، قرأنا عنها ، وشهدنا فعلها في بعض المواقع ، ولكنها عندما تواجه من يملكون إرادة القتال ؛ تغدوا منزوعة (الأسنان) ، عديمة الفائدة ، لا تحقق نصراً ، ولمن عنده أدنى شكل فليسأل عن آلة القتل هذه كل رجال المقاومة الذي احتكوا بها ، منذ اجتياح لبنان 1982 ، مروراً بفصول المقاومة في لبنان حتى تحريري 2000 ، فحرب 2006 ، وكل حروب غزة ، انتهاءً بحرب " طوفان الأقصى " ، يا كرام ، إنهم يقاتلوننا بأدوات يستخدمها رجال ، ونحن نقاتلهم برجال يستعينون بأدوات ، وشتان شتان بين هاتين المعادلتين .
- قدرة لوجستية ذات كفاءة عالية : اسألوا الجنرال " بريك " مفوض شؤون شكاوى جنود العدو المتقاعد ، يقص عليك قصصاً ، ويروي لكم روايات ، ثبت صدقه فيها ، عندما هبت أمريكا بقضها وقضيضها لتسد ما في هذه القدرات من ثغرات ، من تأمين معدات إلى شراء ستر وخوذات ، ثم إن إدامة الكفاءة اللوجستية يتطلب تضامناً وتأييداً من الجبهة الداخلية ، حيث يتقدم تأمين ما يتطلبه المجهود الحربي على ما سواه من متطلبات واحتياجات ، وهنا لا نشك أن مجتمع العدو إن تحمل شهراً ، فلن يتحمل شهرين ، وإن تحمل شهرين ؛ فسيصرخ في الثالث لا محالة ، والحرب سجال وعض على الأصابع .
- قدرات قتال معادية غير ذات كفاءة مثبتة الفاعلية : وهنا أثبتت المقاومة فعالية قدرتها ، وما تملكه من أدوات ، وليس بالضرورة أن تكون أكثر مما يملك عدوها أو يُعِدُ خصومها ؛ المهم في كيفية استثمار وتشغيل ما تملك من قدرات في ضرب نقاط ضعف عدوك ، وهذا ما برعت فيه المقاومة ، والدليل ما نرى لا ما نسمع ونقرأ ، فقد انهارت قدرات فرقة غزة النظامية والتي تضم قوات نظامية نخبوية ، انهارت في 3 ساعات ، يوم كان المقاومون يظنون أنها ستنهار في 3 أيام .
خامساً : سبل المواجهة :
نختم هذا الورقة بما نعتقد أن له دوراً مهماً ومركزياً في إفشال مراحل حملة الجنرال (حامي) الرأس " غالانت " ، وهي أدوارٌ لكل منا فيها سهم ، ولو بالكلمة ، ومن هذه الأمور ما يأتي :
- ضرب الجبهة الداخلية للعدو حتى تصرخ ويعلو صراخها : فإن ضربت بتركيز ، وفاعلية من كل الجهات المشتركة ـ في الخارج وفي الداخل ـ في هذه المعركة المفصلية ، فإنها ستنهار ، وستجبر ساستها وقادتها على مراجعة حساباتهم ، ولكتفاء بما تجرعوا من مرارة الهزيمة ، ( فيضبوا الطابق ) ويطووا بساط حربهم ، ويلملموا جراحهم ، ويحضروا قوائم أسراهم ، لنستعيد نحن أسرانا .
- منع العدو من إعادة تنظيمه القتالي في منطقة الحشد عبر ضربها باستمرار : ومن الأمور المهمة في هذا الصدد ، عدم ترك العدو يهنأ ويرتاح في مناطق حشده وتعبئة قواته ، يجب أن تبقى هذه القوات تحت النار ، حتى لا تستعيد تنظيم نفسها ، وتعبئ طاقتها ، وتبدأ بإجراء مناورتها .
- الضغط على العدو في كل الجبهات وكل الساحات : ومما يساعد بشكل فاعل على منع العدو من إجراء حملته العسكري وفقاً لمراحلها المشار لها ؛ الضغط عليه وعلى شركائه في الفعل القتالي الحالي ـ الأمريكان ـ من كل الجبهات ، وفي كل الساحات ، لتثبيتهم ، ومنعهم من القيام بتحريك قوات ، أو تعبئة قدرات هم بأمس الحاجة لها ، فما تفعله المقاومة في جنوب لبنان يؤتي أكله ، وما قامت به فصائل المقاومة في العراق أو اليمن يعيد لولي أمر هذا العدو رشده ، ويجبره على الضغط عليه ـ على العدو ـ ليعد حساباته ولا يتمادى في غيه ، وكلها ـ جهود مؤيدي المقاومة ـ جهود تصب بشكل أو بأخر في مجهود المقاومة الحربي ، وتساعد على صمودها ، وكسر عدوها .
- الضغوط الشعبية ومظاهرات الدعم والتأييد : وهي جهود تساعد في تكوين رأي عام داعم للمقاومة وشاجب لما يقوم به العدو من قتل ودمار ، يُضغط بها على الحكومات والدول حتى لا تبقى متفجرة ناظرة من بعيد على ما يقوم به هذا العدو من عدوان .
نختم بالقول، إن الموقف القتالي الحالي للعدو ، وما أعدته المقاومة له من مفاجآت ، وما راكمته على مدى السنين من قدرات ، ستحول دون العدو وتحقيق أهدافه ـ القضاء على المقاومة ، وصنع بديل لها في غزة أكثر أمناً له ـ ولن ينجح الجنرال " غالانت " ذو الرأس الـ ( حامي ) في تنفيذ مراحل حربه ، وسينفق ماله وقدراته ، ثم تكون عليه حسرة . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
عبد الله أمين
21/ 10/ 2023