منذ اندلاعِ الأحداث والمجازرِ اليوميّة في غزةَ، فيما صاحب عملية (طوفان الأقصى)، والنقاشاتُ لا تتوقّف، تارةً ما بين السياسيّ، وتارة أخرى يغلَّف النقاش بمسحة الدين، أو الفتوى، وبعض هذه النقاشات يبدو في ثوب الشّفقة والخوف على أهل غزةَ، والمقاومة، لكن بطرحٍ مضمونه وهدفه التشكيكُ، وإلقاء اللوم والتبعة على المقاومة، بأنّها ورّطت أهل غزة في معركة غير متكافئة، وآذت المدنيين، وبسبب تسرعها فيما قامت به، فقد كلفت الشعب الفلسطيني ضريبة فادحة. فهل هذا الطرح صحيح؟
ربما يكون صحيحًا في حالة لا يختلف عليها أحد، وهي حالة: أن الكيان الصهيوني، يكفي خيره شره، ويجلس ساكتًا هادئًا، وقد أعدّ عدته للخروج من الأراضي المحتلة، وتم عقد هدنة بين الأطراف كلِّها، فقامت المقاومة بخرقها، وقد التزم بها العدوّ، وحافظ على التزامه وسطاءُ، ربما في مثل هذه الحالة، كان يمكن القول بأن هناك تسرعًا في أي خطوة تقوم بها المقاومة نحو العدوّ.
لكن العجيب في هذا المنطق الذي ظاهره العقلُ وباطنه الاستخفاف بالعقل والمنطق معًا، أنه في غالب كلامه يوجه اللوم للضحية ويترك الجلاد، ومضمون خطابه أنّ على الضعيف أن يظل ضعيفًا طَوال عمره، والمحتل المتجبر يظل متجبرًا، وعلى الناس التسليم له، وكأن المحتل جاء بسلام، ودخل البلاد بالورود، وسيخرج بالطريقة نفسها، بعد أن ينهي رسالته!
ومثل هذا الكلام ينطوي على مغالطات تحتاج للوقوف معها، منها مغالطات شرعية، ومنها مغالطات سياسية وواقعية؛ لأنَّ من يطرح مثل هذه الشبهة، أو المغالطة في ثوب النصيحة والشفقة، يغلّفها بالنصوص الشرعية التي نهت الإنسان عن أن يلقيَ بنفسه إلى التهلكة، وأن السياسة هي فنّ الممكن، ومن غير الممكن تحرير مثل هذه الأراضي من محتلّ يؤيده الشرق والغرب، والشمال والجنوب، من شتى أصقاع الأرض.
وأوّل ما ينبغي طرحه هنا: من البادئ بالعدوان هل المقاومة والشعب الفلسطيني أم العدو الصهيوني؟ إنّ الحقيقة التي لا تخفى على متابع للشأن الفلسطيني، أنَّ عدوان المحتل لم يتوقف يومًا، مهما تبدَّل المسؤولون فيه، فإن جاء الليكود أو العمل أو أي حزب آخر لسُدة الحكم، فهناك رؤية واستراتيجية لا يختلف عليه أحد، الاختلاف في تفاصيل التنفيذ، أمّا الرؤية فلا خلاف عليها لديهم، وفي القلب منها: تهويد القدس، وبناء المستوطنات، وطرد أصحاب الأرض.
فهل توقف ذلك يومًا؟ لم يتوقف، بل إن الإحصاءات تقول: من شهر مايو 2023م حتى يوليو من العام نفسه، أي قبل الأحداث بقليل، عددُ الشهداء في فلسطين أكثرُ من (450) منهم: (67) طفلًا، وهي إحصائية استشهد بها تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودي السابق؛ أي في أقلّ من ثلاثة أشهر نجد هذا العدد، ولم يكن هناك (طوفان الأقصى)، ولا أي تصعيد من المقاومة.
ثم قبل (طوفان الأقصى) بشهور، إلى قُبيله بأيام قلائل، والاعتداءات المتكررة على الأقصى ليلَ نهار، والاعتداء على النساء، والرجال الكبار، بشكل مستفزّ، يدمي قلوب الناس داخل فلسطين وخارجها، فما الحدث الذي دفع بالاحتلال أن يصعّد هذا التصعيد؟ لا يوجد، إنما كما يفهم كل من يدرس عقلية هذا المحتل، أنه احتلال استيطاني، سواء قاوم أهل البلد، أم صمتوا، أم سلّموا، فلا يفرق معه سوى في طريقة تكملته خُطته ورؤيته.
أمّا الاستدلال بالنصوص الدينية، كقوله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) البقرة: 195، فإنَّ الآية لا تتحدث عمّن يضحّي بنفسه في سبيل الله، بل عمّن يبخل بالمال عن الجهاد في سبيل الله، فضلًا عن التضحية بالنفس، والتي دائمًا ما تقرن في القرآن الكريم بالمال، وتقدم في معظمها التضحية بالنفس على المال، ولذا تجد مَن يستدلّ بالآية، يبترها من سياقها فيقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، ولو جاءَ بما قبلها مباشرة، لوجدَها تأمر بالإنفاق في سبيل الله.
وما يفعله البعضُ في هذه النصوص، فهو ليٌّ لأعناقها، وإلا فهل كانت غزوات النبي- صلى الله عليه وسلم- ضد أعدائه المعتدين من المشركين واليهود والروم تهوراً! بل إن النبي- صلى الله عليه وسلم- من أول يوم جاء بدعوته، وأُخبر من ورقة بن نوفل بأن الباطل لن يتركه، حيث قال له ورقة: ليتني أكون فيها جذعًا إذ يخرجك قومك، فقال: أو هم مخرجي؟ قال: ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أُخرج وأُوذي.
فهل كانت مواجهة الباطل هنا تهورًا؟ أو معركة غير متكافئة اندفع إليها؟ إن معارك الحق والباطل، والتحرر والاحتلال، دائمًا ما تكون عنيفة ومتجبّرة من الباطل، مهما كانت أخلاقية المناضل عن الحقّ، والقائم بها يعلم أنه لا ينتظره سوى أمرَين: إما النصر، وإما الشهادة، مصداقًا لقوله تعالى: (قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) التوبة: 52.
ولذا ذكرَ القرآنُ الكريم لنا قصةَ أصحاب الأخدود، في سورة البروج، وهم قوم كانوا سلميين تمامًا، لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم آمنوا بالله وحده، فأمسك بهم الحاكم الظالم، وقام بقتلهم جميعًا، ولم يُبقِ منهم أحدًا حيًا، فهل تهور القوم لأنّهم آمنوا؟! وهل بإبادتهم جميعًا هُزمت قضيتهم؟ لا، بل كان نصرهم معنويًا، وإن كانوا ماديًا استشهدوا جميعًا، ومثل هذه القضايا تُوزن بهذا المعيار أولًا.
وما ذكرناه من قبلُ لا يعني عدم الإعداد والتخطيط السديد للمعارك، ولكن هنا مسألة مهمة أيضًا، وهي: ما الإعداد المطلوب من المقاومة وأهلها، حتى نقول: إنّها جاهزة ومستعدة لكي تتحمل حربًا تدخلها؟ إنها مسألة لو وقفت المقاومة في كل الشعوب عليها، لما تحرّكت بلدان لنَيل حريتها، فما من مقاومة لمحتل إلا وبدأت ضعيفة، ثم قويت شيئًا فشيئًا، ولا ننسى ما كان يقال عن صواريخ القسّام من قبل، مثلًا من أحد مشايخ السلفية في مصر، وهو الشيخ محمد حسين يعقوب، حين قال: إنها صواريخ لا تخرم حائطًا، وكلام أبو مازن محمود عباس عنها أيضًا، وقد أسماها: البمب، نكاية في السخرية من أثرها، والتشبيه بلعب الأطفال: بمب العيد!! ثم دارت الأيام، والآن أصبحت هذه الصواريخ متطورة، وتقوم بدور مقاوم لا يستهان به، بل يحسب العدو الصهيوني حسابها آلاف المرات.
وقد كفانا القرآن الكريم مؤونة النقاش في هذه القضايا، حين قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ) الأنفال: 60، والأوامر الشرعية من رحمة الله بالناس ولطفه بهم، مرهونة بالاستطاعة، فيقول تعالى عن الحج: (وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ) آل عمران: 97، فلم يأمر الله المجاهدين بالإعداد المكافئ تمامًا للعدو، بل طالبهم ببذل أقصى جهد يمكن، من حيث الإعداد والتدريب، والتضحية، وإلا فإنّه لن يكون هناك مقاومة، وسُنن الله في كونه، أنه لا شيء يبدأ كاملًا، سواء كان ماديًا أم معنويًا.
ما يغيب عن هؤلاء الذين ينظرون للمقاومة ولجمهورها بهذا الخطاب السلبي، أنّهم لا يتعلمون من العدو، فإن العدو الصهيوني بدأ مشواره الاحتلالي، وهو مبغوض من كل أطراف الدنيا، وبدا مشروُعه حُلمًا صعبَ التحقق، بل مستحيلًا، وهو ما كان يعبّر عنه اليهود أنفسهم لتيودور هرتزل، ولو عاد هؤلاء لأدبيات الغرب نفسه قبل قيام الكيان الصهيوني، ومن كان معه، ومن كان ضده، لعرَفوا أن طبيعة المعارك في هذه الحياة حساباتها مختلفة من زمن لآخر.
وإذا غامر هذا العدو مغامرات لا حدود لها، ليقيم كيانه المحتل، وليقيم كل هذه العلاقات من حوله، من مادي ومعنوي، بعد أن كان محارَبًا من الجميع، ومكروهًا من العالم بأسره، فصبر وتحمّل حتى يصل لهدفه، فالأولى بأصحاب الحق والأرض أن يكونوا كذلك، وهم كذلك بالفعل، ولا يفتّ في عضدهم مثل هذه الدعاية السلبية، وأن يكونوا إما مقاومين، أو عونًا للمقاوم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من جهّز غازيًا، فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير، فقد غزا".
د. عصام تليمة