خاطرة: ذكريات طفولة تنساب إلى وعيي مع نزيف دماء غزة
حضارات

بقلم: زينب عبد اللطيف أبو سفاقة


أذكر تلك اللحظة جيداً، عندما كنت وأبي نقف أمام شجرة الليمون المزروعة فيه ذلك الحوض الضخم فوق سطح منزلنا القديم، كان والدي يسقيها حينما استوقفته اسأله لماذا لا يمكننا زيارة شاطئ البحر، فأخبرني أنه بسبب "اليهود"، لم أفهم مقصده تماماً لكني أذكر شعوري بالبؤس جيداً، لا أدري كم كان عمري حينها، ولكنها الذكرى الأولى التي بدأت فيها استيعاب معنى كوني فلسطينية...


أذكر تلك الفتاة (هدى غالية) التي كانت تكرر قنوات الأخبار بث مشهد صراخها باكية على رمال الشاطئ أمام جثة والدها الذي قتله الاحتلال بقصف قفز فوق رأسه من مكان مكان، كنت في الرابعة حينها، كلما رأيت المشهد أفرغت سلة ألعابي منها وجلست داخلها أبكي، مشهد تلك الفتاة تكرر ويتكرر الآن في غزة ولربما بصورة أشد قبحاً، ولكن هيئتها الباكية على الرمال أضحت رمزاً محفوراً ذاكرتي.


أذكر أناشيد فرقة الوعد للفن الإسلامي التي كبرت على صداها، أذكر كيف كنا نتحمس لشراء أشرطة الكاسيت الجديدة، كيف كنت أركب الدراجة الصغيرة ذات الثلاثة عجلات وأقودها في الصالة أثناء استماعي لأناشيدهم في محاكاة غريبة للرقص.


أذكر الرحلات الطويلة المضنية إلى معبر قلنديا التي كنا نشدها خلال شهر رمضان للصلاة في المسجد الأقصى، أذكر تلك المرة التي انفصلت أنا وأختي فيها عن والديّ على المعبر، لربما كنت في الثامنة، بدأت أختي بالبكاء فرآنا أحد الجنود، فأخرج من جيب زيه العسكري قطعة حلوى وقدمها لأختي، لكني منعتها من أكلها ورميتها، كنت قد ظننت أن بها سمّاً ولا زلت أظن ذلك، فإن لم يكن سمّ الطعام فهو سمّ اللطف المزيف.. فكيف لذاكرة الطفلة داخلي أن تقفز على صور هدى غالية؟ كيف لها أن تنسى المجرم الذي يزرع الموت والدمار أينما أدار وجهه؟


أقف على أطلال الذكريات أحياناً كثيرة، تفاصيل حياتي التي لا انفصال لوصف "فلسطينية" عنها، أمعِنُ وأتسائل إن كان كتب لي العيش لأشهد تلك اللحظة التي تقت إليها منذ نعومة أظفاري، ولكني الآن أدرك جيداً أن هذا ليس مهماً، فهي لحظة آتية لا محالة، لكن السؤال إن كنت جزءاً في رسم ظلالها أم كنت مجرد هامش موجود هناك دون هدف على خلفية الإطار..


أعلم أني لا أملك القدرة على الدفاع بدمي، وأدرك جيداً مدى عجزي وفقر كلماتي، ولكن قلبي المجبول من تربة هذه الأرض يأبى أن أقف متفرجةً على سكب الدماء، يشدني دوماً للعمل مهما تواضع واقتصر، ويستصرخني إن ركنت لحظةً وسمحت لنار الحق أن تنخمد، فما أنا دون القضية، فأنا لست أنا دون وصفي بأني فلسطينية.


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023