تقرير سري صادر من غرفة التشريح
حضارات



الحد الأدنى هو كشف التقرير السري الصادر عن غرفة التشريح لجسد فلسطيني يسمى غزة، لا اقف مجرد متفرج والعيش على شكل متفرج، فأن تعيش مجرد شاهد هذا ليس عيشا، فالمجتمع الآلي الغربي لا يعطي بني الانسان الا مكان المتفرجين، ولأني لست كذلك، قررت ان اضع بين ايديكم فحوى التقرير الذي صدر عن غرفة التشريح في معهد أبو كبير الإسرائيلي، والذي احيط بسرية تامة، وتحولت غرفة التشريح الى غرفة عمليات عسكرية محاطة بالحراسة المشددة.

استدعى الكيان الصهيوني كل العلماء والخبراء في مختلف المجالات لإعانته على تشريح جسد غزة، وفك كل الطلاسم والغموض الذي يتشكل منه هذا الجسد للوصول الى نتائج عسكرية او سياسية حاسمة تساعده على حسم المعركة الدائرة بوحشية ودموية في غزة.

الإشكالية التي واجهت هؤلاء العباقرة من العلماء خلال عملية التشريح هو لماذا لا يموت جسد غزة بالرغم انه احترق تماما بوابل النيران والقذائف المتفجرة وتمزق جسده الى أشلاء؟ هناك نبض وحرارة واسرار في هذا الجسد يتطلب معرفتها بأقصى سرعة حتى تعلن الوفاة وتحقيق الانتصار.

وقبل بدء عملية التشريح وضع تقرير تمهيدي مفصل عن الحالة موضوع البحث والدراسة والاكتشاف، فقال التقرير: ان غزة تعرضت لاربع حروب طاحنات ساحقات، ونزلت فوق رأسها آلاف الاطنان من القنابل، وحوصرت اكثر من 20 عاما لكي تختنق وتختفي جوعا وفقرا من الوجود، وهي منذ زمن طويل تحولت الى ساحة تجارب وتدريبات عسكرية وعلمية حول موت البشر الجماعي وتحويل أجسادهم الى شظايا، ومع كل ذلك لا زالت غزة تنهض من رمادها وتقاوم، تحيا بعد كل موت وتزداد بأسا في الحياة، فلا بد من الوصول الى نظرية في سبيل التجريد والتشخيص والخطة، نسميها نظرية غزة.

استدعت إسرائيل الى غرفة التشريح كبار علماء التشريح في العالم، وعلماء الاعصاب والدماغ والانسجة، علماء الآثار والأطباء في مختلف التخصصات، علماء النفس، علماء التصوير العياني، وعلماء الدراسات الفنية والمجهرية والبيولوجية، خبراء عسكريون وفلاسفة، علماء اللاهوت والحاخاميون ومهندسون، وحتى علماء الأرواح والمشعوذين، واستعانوا بما كتبه أبو قراط الذي لقب باسم أبو الطب ومؤسس علم التشريح البشري، وبكل نظريات وخبرات علماء التشريح في العصر الحديث، واستعانوا في عملهم وتقنياتهم بكتاب التشريح النازي الذي يعود تاريخه الى منتصف القرن الماضي، والذي يظهر الجسد طبقة اثر طبقة والذي يسمى الأطلس او الدليل للتشريح الطوبغرافي والجراحي للوصول الى حقائق الموت، فهو يصور التفاصيل الدقيقة للجلد والعضلات والاوتار والاعصاب والاحشاء والعظام، وتكمن أهميته في انه يميز أجساد المحروقين والمعدومين والجرائم الإنسانية الكبيرة، واصبح مرجعا لأغراض الأبحاث والتدريس، وحتى اصبح ملهما للفنانين لما يحتويه من رسوم لاجساد البشر بحيث تحولت الى قطع فنية رائعة في المجتمع الأوروبي، واستفاد من هذا الاطلس الخبراء العسكريون ومصانع الأسلحة والمتفجرات حيث ساهم في معرفة واختراع وسائل للقتل والفتك والابادة، واعتبارها جزءا من الاخلاق والتطور والنهضة والتنوير في العالم الاستعماري.

عملية التشريح لجسد غزة استغرقت وقتا طويلا مضنيا مقلقا ومرعبا في ذات الوقت، ووصل إلى نتائج تقول: أن جسد غزة لا زال حيا على الرغم من أنه مقطع وممزق، ممرات وفواصل وأسلاك، الوريد الأيمن لا يستطيع أن يتواصل مع الوريد الايسر، وفي داخل كل منطقة جسدية حواجز وكتل واورام تشبه المستوطنات، جسد مقسم الى اقسام وحجرات وزنازين، وحاولت غزة ان تتصرف بنصف جسد او ربع جسد، لكن هناك إشارات حمراء وبقع حيوية، تأتي الاشارات من أماكن قريبة، وبعد التتبع لها تبين انها قادمة من الضفة الغربية المحتلة ومن القدس، جسد يتواصل روحيا مع أجزاء أخرى، هوية روحية لا تموت بموت الجسد.

وقال التقرير: ان جسد غزة محطم ومدمر، كسور عميقة في الجمجمة ونزيف لا يتوقف في الأعضاء الداخلية، القلب توقف عدة مرات لكنه عاد للنبض مرة أخرى، الكفوف خشنة كأنها كانت تمسك فأسا او حجرا او بندقية، هناك دماء تضخ في جسد غزة، وهذا الجسد اكثر من جسد، دماء حارة نقية تأتي من جنين ونابلس واريحا والقدس والخليل واللد والرملة وأماكن أخرى، آثار قيود مشددة تظهر على اليدين والقدمين، وبقايا ثلج يذوب شيئا فشيئا كأنه كان محتجزا في ثلاجة باردة، جسد متيبس كأنه كان مطمورا تحت اكوام من الباطون والحجارة، وتظهر على الجلد اثار تعذيب وطفحات كثيرة من القهر تنفجر واحدة تلو الواحدة، ولوحظ علامات اختناق على الرقبة، انفاس متقطعة كأنه كان يحاول ان يعبر من جدار الى جدار، ومن سجن الى سجن، ومن حاجز الى حاجز، يقفز بين تجمعات ومعازل ضيقة، يتساقط جسده شيئا فشيئا فيحمل جثته ويحتمي بالمطلق والتاريخ والماهية المتحولة.

وقال التقرير: هذا الجسد الذي امامنا لا نستطيع الهيمنة عليه والتحكم به، تظهر عملية اتصالات في الخلايا العصبية، تتواصل مع بعضها البعض، وتبين ان هناك ناقلات عصبية لنقل الاشارات الصادرة الى الخلايا العصبية المجاورة، تولد نبضات وانتفاضات وهبات وحركات وهوية روحية غير مرئية ومقاومة، عيناه فيهما ضوء ولمعان كأنه يرانا ويراقبنا ويخترق ملامحنا، يرى السكاكين والمناشير والسيوف الحديدية وكل أدوات الذبح، يرى الفسفوري والكيماوي والانشطاري، عينان تعيشان في مجزرة، عينان مرعبتان لا تنطفئان ولا ترتجفان،  تبصران ابعد مما نبصر، وابعد مما تتصوره المخيلة.

واجه المشرحون مشاكل وغموض في تفسير الإشارات في دماغ غزة، يوجد في الدماغ مجموعة معقدة للغاية من الاتصالات والمطالب، وهناك أصوات تتطلب تفسيرا عن العلاقة بين الروح والجسد، الشعور، الوعي، الذاكرة الجماعية، الادراك، التفكير، جميعها لازالت موجودة وناشطة بالرغم من تدمير الجسد، وتكاد تكون روح غزة مصدر الصمود والعقل والحياة والإنسانية، روح غزة جعلت هذا الجسد حيويا مما يساعده على البقاء والحركة الدائمة، وعاد المشروحون الى كتاب افلاطون لتفسير هذا الغموض والذي قال: على الرغم من موت الأجساد فان الروح تولد من جديد باستمرار في أجساد جديدة ،أجيال أخرى تتناسخ في الأجساد الراحلة، وهذه هي الإرادة التي تصنع الشجاعة والمثابرة والرغبة والطموحات والسعي الى الكرامة والحرية، وهذا ما لم تستطيع الصواريخ والقنابل ان تقضي عليه.

التقرير كشف ان جسد غزة فيه صوت جماعي لشعب كبير، وانه ليس فردا او عينة يمكن السيطرة عليها، فالجسد له أجساد أخرى، فاستعان المشرحون مرة أخرى بما قاله ابيقور: لا علاقة للموت بنا عندما نكون موجودين، فلا زال هناك انفاس في هذا الجسد، انفاس طائرة، فلا يؤدي فناء الجسد الى فناء اليقين والايمان، قوة أخرى لا تموت هي قوة الحق، وهي قوة ساحقة لها صوت بشري، فلا يفيد هذه الغارات والضربات من الجو والبر والبحر، ولا تفيد عمليات الطمس والامحاء والاستبدال والاستئصال والتهجير، وكما قال الفيلسوف نيتشة ان إرادة القوة للجسد يحوله هو ذاته الى جسد اعلى ويخلق الانسان الأعلى، فالجسد هو الوجود المادي الظاهر، لكن هناك ما هو باطن ومختفي، فهذا الجسد هو الإفصاح عن الحياة القادمة، وسيظل في علاقة حميمة لانهما يشتركان في الصيرورة والمصير.

المشرحون في معهد الطب العدلي في أبو كبير وامام كل التعقيدات التي واجهوها حاولوا اجراء تشريح فلسفي فاستعانوا برواية الطاعون للفيلسوف الفرنسي البير كامو، والذي قال: ان ثنائية الحياة والموت ليست ثنائية قابلة للتجزيء على مستوى الوجود، بل وعلى مستوى التفكير، فالتفكير في الموت هو تفكير في الحياة أيضا، ولهذا فالتشريح الفيزيائي لجسد غزة لم يصل الى نتيجة، ربما نحتاج الى تشريح توراتي حتى نعطي موت الاخرين غطاء من القدسية، ولا بد في هذه الحالة ان نقرأ وصايا الرب اليهودي المحارب في العهد القديم وهو يقول: هكذا يقول رب الجنود الان اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم، بل اقتل رجل وامرأة طفلا ورضيعا، بقرا وغنما جملا وحمارا.

المشرحون لم يصلوا الى نتيجة، وفي نهاية التقرير قالوا نحن بحاجة الى تشريح سياسي، هناك حقوق قومية ووطنية لا نستطيع تشخصيها وتحليلها من خلال هذا الاجتياح الجراحي لجسد غزة، ولا تستطيع القوى العسكرية المميتة ان تقضي عليها، ولا تستطيع تقليص الفضاء الزماني والمكاني للوطن الى مدينة مغلقة، الحقوق السياسية والوطنية لا تقطع شقفة شقفة كما يحدث في غزة، انها عابرة للموت وللاحزمة النارية والحدود الجغرافية المصطنعة، وحتى نخرج بنتائج عملية وتحليل لهذا الجسد الذي لا يموت، لا بد من تحليل للاحياء الذين لم يموتوا لايجاد حل لهذه الثنائية المتبادلة.

بقلم: عيسى قراقع

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023