خطاب الذبيحة في محكمة العدل الدولية

عيسى قراقع

سياسي فلسطيني ووزير شؤون الأسرى والمحررين السابق


السيد رئيس محكمة العدل الدولية: أنا غزة الذبيحة الشهيدة، أشكر دولة جنوب افريقيا التي حملت جثتي لأكون شاهداً في الدعوة المرفوعة من قبلها على حكومة الاحتلال الصهيوني بتهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي ستعقد جلساتها يومي 11-12 كانون الثاني 2024، أقف أمام هيئة المحكمة لأدلي بمرافعتي الطويلة، وأتمنى أن تتحملوا حديث النار والحريق الذي يلتهم جسدي، آلاف الشهداء والجرحى والمعاقين والمفقودين والمعتقلين والجوعى لا يستطيعون الكلام، كلام الموت والدم والرصاص والغبار والجحيم والفناء والصدى.  

شكراً لدولة جنوب افريقيا التي أخرجتني من القبر الهائل المفتوح لأقف أمام أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة بعد أكثر من ثلاثة شهور من الصمت والعجز والتفرج على القبح والبشاعة والانحطاط والفاجعة التي تطحن أبناء شعبي دماراً وهولاً وبراكيناً من البشر تزداد اشتعالاً تحت القصف والقنابل والهدم والقنص والتهجير والإعدامات، وتحوّل الزمان والمكان والطبيعة والمفاهيم والمستقبل إلى رماد، إنه العار التاريخي والإنساني عندما تصهر مبادئ العدالة وكرامة الإنسان في أفران الموت المصبوب فوق رؤوس الناس في غزة، تلتهم الجميع: الأرض والسماء والقوانين والحياة.  

السيد رئيس محكمة العدل الدولية: هل كان على الموت المستمر في قطاع غزة أن يكون إبادياً ليشغل ضمير العالم؟ وأن لا تمر الجرائم دون احتجاج، فكم مرة على الفلسطيني أن يموت ليكون له صوت بعد الغياب؟ وكم مرة سنولد من تحت الركام حتى يستيقظ الموت الحي وتصدر لائحة اتهام ضد المجرمين، وتتحرك مواد ونصوص القانون الدولي بين أكوام اللحم البشري المحروق في مدن ومخيمات وحارات وأحياء غزة، هل رأيتمونا أخيراً قتلى ومبادين نبحث عن ضوء وقبر ومكان آمن وقطرة ماء؟ ربما تأخرتم كثيراً وأنتم تفتشون عن هدنة بين الحياة والموت، وتركضون بين الغارات والانفجارات والتحليل والتدقيق في صياغة النصوص وتجميع الأجساد الممزقة للتعرف على وجه الضحية والحقيقة المدفونة في الخراب.  

أنا غزة الذبيحة الشهيدة المطاردة والمطرودة والملاحقة من الفاشية الصهيونية والأمريكية والتي تبحث عن حياتها وتبحث عن نجاتها بأيديها العارية، القتل أمامنا وتحتنا وفوقنا ومن كل الجهات، في المنازل وفي أماكن اللجوء وفي المستشفيات وفي المدارس وفي الكنائس وفي المساجد، وخلال محاولتنا العثور على الماء والغذاء، القتل في السجون والمعسكرات، والقتل بعد القتل في المقابر وهرس الجثث بالدبابات والجرافات، إنها حرب على الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى والصحفيين والأطباء والمعلمين والأكاديميين والكتاب والفنانين ورجال الإسعاف، والأجنة والرضع والمصابين في انتظار الموت الذين يموتون ببطء، لا مكان للفرار تقتل وأنت تحمل الراية البيضاء، الناس صاروا كرات بشرية تتدحرج بين الشظايا والرصاص.  

أنا غزة الذبيحة الشهيدة، أقف أمام محكمة العدل الدولية، قادم من المقابر الجماعية، ومن تحت المنازل المدمرة، أحمل صوت الضحايا والدمار والجثث المتحللة، الرعب والتهديد والخوف والأمراض المعدية، مجزرة تتلوها مجزرة، غزة التي تفيض بالدماء، محو الحياة الإنسانية والتاريخ والمستقبل الفلسطيني والذاكرة، وحوش صهيونية في كل مكان، منفلتون بلا حساب أو عقاب، كل شيء مدمر، يستمتعون ويحتفلون بارتكاب الإبادة الجماعية والانتقام، القتل في غزة لعبة وتسلية ومتعة، خطابات وتحريضات إبادية من كل المستويات الصهيونية وحلفائها، حولوا غزة إلى أرض بور لا يصلح للعيش، محو غزة من الوجود، مزيداً من إسقاط القنابل والعمليات العسكرية، مزيداً من الاعتقالات والإهانات والنهب والسرقات والمداهمة، الجميع يستحق القتل، يجب تحويل الجميع إلى غبار، وتنظيف غزة من سكانها، حولوا غزة إلى مسلخ، خطابات الكراهية والسادية والعنصرية، تدمير الشعب الفلسطيني، قصف بلا رحمة، نكبة تطغى على نكبة، لا يوجد أبرياء في غزة، هيروشيما القرن الواحد والعشرين، غوانتنامو واوشفيتس، الإخفاء القسري والتعذيب والاغتصاب. الرئيس الإسرائيلي يكتب بخط يده رسائل على القنابل التي ستلقى على غزة، الهمجيون الصهاينة هنا، الإرهاب المنظم، القدس لم تتمكن من الصلاة في عيد الميلاد هذه السنة، القدس والعدالة تصلب.  

السيد رئيس محكمة العدل الدولية: أنا غزة الذبيحة والشهيدة، هناك من يسعى لتجريدكم من اختصاصكم في ملاحقة مجرمي الحرب، وهناك من يسعى لإبقائنا في المنافي والزنازين والهاوية، القرارات الدولية تتكرر مثلما تتكرر المذابح بحق شعبي منذ 76 عاماً، طوابير الموت تتسع وتتشابه، إنه فائض الموت الذي يجب أن يضع دولة المجرمين الصهاينة في قفص الاتهام، ولأني أعرف أنه ليس للمحكمة صلاحيات تنفيذية، ولكني أراهن على الشرعية الأخلاقية والقانونية للقرارات الصادرة عن المحكمة، أراهن أن يعود جسدي المحمول إلى بيته أو إلى قبره وإلى أحلامه غداً، فاستعادة الحق وإن تأخر قليلاً فإنه لن يتأخر أبداً.  

السيد رئيس محكمة العدل الدولية: أنا غزة الذبيحة الشهيدة، لا زلت أعيش في رعب مطلق، بينما يستمر البرابرة الصهاينة في قصف غزة بلا هوادة وبلا قيود، الناس تعاني الموت والحصار والحرمان من كل شيء، لقد نفذت كل الكلمات، يموت طفل كل عشرة دقائق، غزة مقبرة للأطفال، إنه فشل قانوني وأخلاقي لكل مؤسسات المجتمع الدولي، لم تستطع أن توقف هذه الحرب الجهنمية، الظلام يعم العالم، وأنا في جلسة استماع في هذه المحكمة، أحتاج إلى من يسمعني، وأحتاج إلى قرار يعيدني إلى الحياة سيداً حراً كاملاً على أرضي، أريد أن أعود إلى غزة غير المشوهة والمحترقة، إلى عائلتي المتكاملة وليست المبادة، إلى هويتي ووطني وحقي في المقاومة وتقرير المصير والحرية والاستقلال، أريد أطفالي غير معاقين أو مصدومين أو ضائعين، وأتمنى أن لا تفشل مرة أخرى كل القرارات والتشريعات الدولية في إلقاء القبض على المجرمين ومحاسبتهم دولياً.  

أيها القضاة:  

دافعوا عن وطن الإنسان والسلام والعدل المفقود، حرروا الأرض من الطغاة، لقد مللنا اللغات والمعايير المزدوجة، الجريمة ضد الإنسانية واضحة، أنا هنا في قاعة المحكمة، ولكن روحي في القدس وجنين وغزة باقية.  

السيد رئيس محكمة العدل الدولية: أنا غزة الذبيحة الشهيدة، شكراً لدولة جنوب افريقيا، وأختم كلمتي بما قاله المناضل الكبير نيلسون مانديلا: نحن نعلم جيداً بأن حريتنا لا تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023