طوفان الأقصى .. المعاني التعبوية لإصرار العدو على اجتياح رفح الغزية

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً : أرضية البحث والمدخل :

لا ينفك العدو الإسرائيلي من تكرار لازمة أنه ذاهب إلى رفح ، وأنه سيجتاحها ، وأنه أعد الخطط وأصدر التدابير العملياتية لإنجاز هذه المهمة التعبوية ، وأن عدم دخوله إلى رفح يعني بقاء جزء لا يستهان به من القدرات القتالية لدى المقاومة الفلسطينية ، وعلى رأسها حركة " حماس " يمكن من خلاله ـ القدرات ـ إعادة بناء ما فقد ، وترميم ما تضرر من هذه القوات والأصول قتالية . كما أن العدو الأمريكي ( فلق راسنا ) وهو يقول أنه هو من يحول بين العدو الإسرائيلي وبين الخروج في هذه المهمة ، وأنه ـ العدو الأمريكي ـ لن يسمح بمثل هذه العملية ما لم تكن هناك ( ضمانات ) وترتيبات يُتحقق من خلالها من عدم الحاق أضرار كبيرة في المدنيين الذين بات عددهم في مدنية رفح يصل إلى ما يقارب المليون والمئتين ألف نازح . إن هذه الورقة ستحاول البحث في المعاني التعبوية خلف إصرار العدو الصهيوني ، وكذلك تفهم العدو الأمريكي لمثل هذه العملية ، من خلال التطرق إلى مجموعة عناوين ومفاصل ، وبما يسعف به الوقت ومساحة الكتابة .

1. بداية الحرب وأهدافها

لقد بدأ العدو حربه في السابع من أكتوبر 2023 كرد فعل على عملية " طوفان الأقصى " التي فاجأت بها حركة " حماس " وفصائل المقاومة الفلسطينية جنود العدو المرابطين على غلاف غزة ، فصبحتهم قوى المقاومة على حين غرة فـ ( نعفتهم ) ودمرت مواقعهم ، وأسرت منهم ما أسرت ، وقتلت ما قتلت . ثم استجمع العدو شتاته ، وما تبقى من قواته ، مستوعباً موجة هجوم المقاومة الأولى ، ثم حشد قدراته القتالية ومن مختلف الصنوف ، معلناً حربه التي أسمها " السيوف الحديدية " محدداً لها مجموعة من الأهداف ، اختصرها بــ " القضاء على مصادر التهديد الحالية والمستقبلية ، واسترجاع الأسرى ، من خلالتفكيك قدرات حركة " حماس " السلطوية والقتالية " .

2.مراحل الحرب :

بعد أن حشد العدو قدراته ، وجند حلفائه ، خاض معاركه في طول القطاع وعرضه عبر مراحل عمل ، تكاد تشبه بعضها البعض ، حيث استهل العدو قتاله بعمليات قصف وتمهيد ناري من مختلف صنوف النار ؛ الجوية والبرية والبحرية ، شمل جميع مناطق مسرح عمليات قطاع غزة ، مُثبّتاً ومشاغلاً جبهات قتال ، وخطوط مواجهة ، ومناطق عمليات ، على حساب حشد وتشغيل قدرات قتالية على محاور جهد رئيسية أخرى ، فقطّع القطاع إلى مناطق عمليات ؛ شمالية ووسطى وجنوبية ، ثم بدأ بالتعامل معهذه المناطق واحدة تلو أخرى ؛ فارتقى من أهلنا وشعبنا آلاف الشهداء ، ودمرت البنى التحتية والمقرات الخدمية ، من مستشفيات ومراكز صحية ، ومحطات تحلية مائية ، و( حرث ) العدو الشوارع والطرقات ، وأعلن في أكثر من مرة أنه أنهى قتاله في المكان الفلاني ، وأنه يستعد للقتال في مكان آخر ! ليعود فيقاتل في نفس المكان الذي زعم أنه ( طهره ) من المقاومين ، وقضى على ما فيه من قدرات ومعدات ومجاهدين .

3. القتال في الشهر السادس للحرب:

وبعد مضي خمسة أشهر على القتال ، ودخول الحرب في شهرها السادس ، عاد العدو ليقاتل في مربعات قتالية ، قيل أنه أنها عملياته فيها ؛ فقد عاد ليقاتل في حي الزيتون وتل الإسلام ، وخاض قتالاً هو الأشرس ـ على حد زعمه ـ في مدينة " حمد " في خان يونس ، ثم هو اليوم يقاتل في المنطقة الوسطى ، وما زالت المقاومة تصليه نارها و ( تشويه ) بمتفجراتها المعيارية ، متى وأين وكيف شاءت ، فعلا صراخ قادته ، إلى الدرجة التي قال فيها حامي الرأس " غالنت " ورئيس أركان جيشه " هاليفي " أننا نتكبد خسائر كبيرة ( وين ) في مدينة حمد ! وهي ـ مدينة حمد ـ جزء بسيط من جهاز دفاعي أعدتهالمقاومة في طول القطاع وعرضه . ثم تأتي ثالثة الأثافي الصهيونية والتي عبر عنها رئيس وزرائه بالقول : أن عدم دخول رفح يعني الهزيمة وعدم تحقيق أهداف الحرب !!

4. المنطق المهني في الترتيب القدراتي :

إن أهل الاختصاص وأصحاب الفن يعلمون أن هناك منطقمهني في بناء ونشر وموضعة القدرات القتالية ؛ البشرية منهاوالمادية ، يحكم مسار بنائها ومراكمتها ، وهوـ المنطق المهني ـ ما يفسر ويشرح: الكم ، والنوع ، أو ما يعبر عنه بلغة الاختصاص الصنف ، والتنظيم ، والتسليح و ... باقي منظومة بناء القدرات . إن هذا المنطق المهني يقول أن مسار بناء القوات ـ القوة = قدرة+ إرادة ـ ونشرها جغرافياً يراعي التالي :

▪ حيث مركز التهديد وثقله تكون عمدة القوات وأغلبها .

▪ حيث الأهداف الحيوية ومراكز ثقل الدولة السيادية تكون أهم التشكيلات وأقواها .

▪ حيث مراكز الثقل البشرية ، تكون منظومات الدفاع ووسائطه .

▪ كلما بعدت المسافة عن المركز ـ العاصمة ـ قل التركيز القدراتي ، ما لم يكن في ناحية التهديد الأصلي ذو الأولوية .

وفي هذا المبحث تفصيل كثير يطول الحديث فيه وحوله وعنه ، وهي أمور تخصصية يعرفها كل ذي فن ، وصاحب اختصاص ، نعفي القارئ الكريم منها ، فكل ميسر لما خلق له ، وما استحضرناها هنا إلّا نقول : كيف يستقيم قول العدو أن رفح فيها مراكز ثقل بشرية ومادية للمقاومة ؟ وهي المدينة الحدودية البعيدة عن مصدر التهديد الرئيسي والأهم لها ـ للمقاومة ـ .

ثانياً : ماذا يعني الإصرار على اجتياح رفح بعد ستة أشهر من القتال :

نصل إلى أصل الهدف من هذه الورقة ، وهو تفسير ، ومحاولة فهم ما يقوله العدو من أن عدم دخوله إلى مدينة رفح واجتياحها يعني الهزيمة وعدم تحقيق الأهداف ؟ إن المتفحص لهذا القول ، والقارئ بين سطوره ، يسعه فهم كثير من الأسباب التي تقف خلفه ، ولكننا إيجازاً ، سنقتصر على أهم ما نعتقد أنه السبب خلف ما يقوله ويستند له العدو في إصراره على تنفيذ هذه العملية ، وعدّها " أم المعارك " ، وهو كالآتي :

1. فشل الحرب ومعاركها في تحقيق الهدف السياسي :

إن ما يطيل زمن المعارك والحروب ، ويوسع من رقعة انتشارها ، ويدفع على تحمل خسائرها البشرية والمادية ، هو عدم تحقيقها للأهداف السياسية التي شُنت من أجلها ، فالحرب ليست لمجرد الحرب ، والقتال ليس لمجرد القتال ، وهي ـ الحروب والقتال ـ ليست أهدفاً بذاتها ولذاتها ، إنما هي وسيلة لتحقيق أهداف تعبوية تمثل ما استخلصه واستنتجه القادة العسكرين من التوجيهات السياسية والاستراتيجية التي صدرت لهم من قادتهم السياسيين ، فإن هم ـ العسكريون ـ أنجزوا المهمة ، وحققوا أهدافاً يمكن أن تستثمر و (تقرش) سياسياً ؛ وقفت الحرب ، وانتهت المعارك ، وإن هم أخفقوا في تأمين المطلوب ، طالت الحرب واتسعت رقعتها ، وهذا ما نراه الآن في غزة . 

2. فشل المعارك في تحقيق الأهداف التعبوية المتمثلة في تدمير قدرات حماس السلطوية والعسكرية :

يصوغ القادة السياسيين أهدافاً وغايات عليا للحرب ، تتمثل في دفع تهديد ، أو تأمين مصلحة حيوية لشعوبهم وأوطانهم ، ثم يُترك للقادة العسكريين ، وأهل الاختصاص تحويل هذه الأهداف إلى مهام تعبوية ، فإن كانت الغاية العليا التي وضعها المستوى السياسي للعدو هي القضاء على تهديد حركة " حماس " وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية ، والذي ـ التهديد ـ كان يقض مضجع العدو ، فإن بقاء الحرب إلى الآن وتصوير عدم الدخول إلى رفح على أنه هزيمة ، يعني فيما يعنيه ؛ فشل العدوفي تدمير قدرات حركة "حماس " السلطوية والعسكرية ، وبقائها ـ حماس ـ مع باقي فصائل المقاومة تهديداً ذا مصداقية على أمن العدو وأصوله البشرية والمادية .

3. التدمير كوسيلة للتثوير :

إن هذا العدو معروفٌ بحقده ودمويته ، وتاريخه يشهد على ذلك ؛ فمنذ احتلاله لبلادنا وحتى اليوم قام بمئات المجازر ، من دير ياسين إلى بحر البقر ، إلى قبية ، فصبرا وشاتيلا ، ثم قانا ، فالمعمداني ، كما دمر ويدمر هذا العدو النازي بأسلحة العدو الأمريكي بنانا التحتية ، ومؤسساتنا الخدمية ، حارماً أهلنا من أبسط مقومات الحياة الآدمية ، وهو في هذا السلوك ؛ وإن كان يريد تدمير كل ما يمكن أن يساعد في المجهود الحربي وصمود الجبهة الداخلية للمقاومة ، إلّا أنه يرمي من وراء هذا الإجرام المنظم والمكرر ؛ محاولة تثوير الحاضنة الشعبية في وجهة المقاومة ، لتصبح طابواً خامساً يطعنها في ظهرها ، ويفت في عضدها ، وهو نفس السلوك الذي يمارسه هذا العدو النازي في مدن وقرى الضفة الغربية ، ولكن فأله خاب وسيخيب ، وسهممكره طاش وسيطيش .

4. إطالة زمن الحرب هرباً من تحمل المسؤوليات والنتائج:


ومن أسباب الإصرار هذا ؛ ارتباط المصير السياسي والمهني لطبقة كبيرة من ساسة وعسكري العدو بهذه الحرب ، فكلما طالت ؛ طال زمن بقائهم ، وكلما امتدت أيامها ؛ مُد في عمرهم المهني ، بل أكثر من ذلك ، إن هؤلاء القادة ، من ساسة وعسكريين ، يعلمون علم اليقين أن لجان التحقيق ومحاكم المسالة تنتظرهم على الأبواب ، وأن السكاكين تشحذ لحفلة الطعان التي ستبدأ مباشرة بعد انتهاء هذه الحرب ، لذلك هم معنيون بدوامها ، واستمرارها .

5. السعي إلى ترتيب أوضاع أمنية مع ( الجارة ) المصرية لمنع سبل إعادة ترميم وبناء قدرات المقاومة العسكرية:


كما يمكن الظن ـ وليس كل الظن إثم ـ أن العدو يسعى من خلف هذا الإصرار إلى ترتيب أوضاع أمنية مع الشقيقة ـ ليس المقصود بالشقيقة صداع الرأس المزمن ـ الكبرى مصر ، من شأنه أن يوجد حقائق سياسية وميدانية ؛ سلماً أو حرباً ، تحرم المقاومة من سبل ووسائل إعادة ترميم القدرات وبناء الذات ، بعد انتهاء الحرب وما فيها من معارك وجولات .

6. استخدام ما تبقى من قدرات عسكرية في صناعة روافع سياسية تخدم العملية التفاوضية :


أخيراً فإن بقاء التهديد بالحرب والاجتياح من شأنه أن يولّد روافع ضغط يعتقد العدو أنه قادر على استخدامها في عمليات التفاوض الجارية ، علّه يُحصّل في السياسية ما لم يحصّله في الميدان ، وهذا أمر مطلوب لذاته عند أي سياسي أو عسكري، فشكل جلوسهم على طاولة المفاوضات ، مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً بما يحققونه في الحرب من إنجازات .

كانت هذه بعض الأفكار التي نعتقد أنها تساعد في فهم سلوك العدو من إصراره على دخول إلى رفح ، ولكن نقول له ما قاله قادة المقاومة ، من أنه هُزم ولو دخل رفح ، فمن يقاتل في الشهر السادس في حي الزيتون ، لن يفلح في تحقيق أهدافحربه من دخوله إلى رفح ؛ دخلها أو بقي على أعتابها . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

عبد الله أمين

16 03 2024


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023