أولاً : توطئة
شُغل العالم ما بعد قصف العدو الإسرائيلي لمقر القنصلية الإيرانية في سوريا ، وشهادة مجموعة من ضباط الحرس الثوري الإيراني ، وعلى رأسهم العميدين " زاهدي " و "رحيمي " ، بطبيعة الرد الإيراني ، وهل سيقع أصلاً ، أم أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستكتفي بتصريح تقول فيه أنها ستحتفظ لنفسها بحق الرد في الزمان والمكان والطريقة المناسبة ، وتناسى الكثيرون أن المقار الدبلوماسية تتمتع بحصانة دولية تحميها من الاستهداف أثناء الحروب والنزاعات ، وأن استهداف المنشآت الدبلوماسية يعني استهدافاً لأراضي الدولة صاحبة المنشأة ، وأن التعاطي مع مثل هذه التعديات لا يستقيم معه الحديث الدبلوماسي ـ طبعاً هذا للدول التي تحترم نفسها ـ ، ولا ترديد ( الكليشهات ) المعتادة ؛ وإنما يتطلب الرد الفعلي وغير المتأخر ، حتى لا يتمادى المعتدي ، ويرعوي المتجاوز .
إن أخذ قرارات للتعدي على سيادات الدول والإضرار بمصالحها يقتضي توقع ردها على هذه الاعتداءات ، الأمر الذي يتطلب من صانعي القرار وأصحابه الكثير من العقلانية قبل الإقدام على صوغ القرار أو اتخاذه ، وهنا لا تُعد العقلانية ضرباً من ضروب الجبن ، أو انعداماً للجسارة وتهيّب من الرد على الإهانة ، وإنما هي ـ العقلانية ـ أمر لازمٌ أُمرنا به ؛ ديناً وعرفاً وعقلاً ، فليس من الدين أو العرف أو العقل أن تُلقى النفوس إلى التهلكة ، أو أن تُكلف فوق طاقتها ، هذا على الصعيد الشخصي ، فما ظننا إن كان القرار المُتخذ يتعدى خيره أو شره إلى باقي أفراد المجتمع وأحاده ، الأمر ـ القرار متعدي الأثر ـ الذي يتطلب مزيداً من الدين والعقل والالتصاق بالأعراف المجتمعية والسياسية والدينية .
إن هذه الورقة سوف تعالج مسألة أهمية العقلانية في اتخاذ القرارات القيادية عبر تطرقها إلى مجموعة من العناوين والمفردات التي تساعد في فهم وهضم مثل هذه الموضوعات ، ولكن قبل أن نبدأ في عرض هذه العناوين لا بد من الإشارة إلى أمرٍ مهم يجب التذكير به ، ألا وهو أنه في مجال تَحمل المسؤوليات ، وأخذ القرارات ؛ ليس هناك مصطلحٌ اسمه القيادة ! وإنما هناك ما يعرف بالقائد ـ بغض النظر عن كفاءته من عدمها فلسنا في صدد نقاش هذه المسألة ـ هو صاحب الصلاحيات ، وهو من يتخذ القرارات ويتحمل التبعات ، وفي التوصيف ؛ تَصنع القيادة بأطرها المختلفة القرارات ، ويتحمل القادة بشخوصهم مسؤولية اتخاذها والمصادقة عليها ، ويتحملون حكماً ما ينتج عنها من جرائر وتبعات.
ثانياً : في الأصول والمباني :
تعريف العقلانية :
يعد مفهوم العقلانية من المفاهيم الفلسفية التي تختلف فيها وجهات النظر ، وحيث أننا لسنا في صدد الغوص في لجج الفلسفة والفلاسفة ، فإننا سنعرف العقلانية بأبسط تعاريفها ، حيث تعرف العقلانية على أنها : المعقولية ـ معقولية الفعل أو القول ـ بحيث تتطلب هذه المعقولية ؛ معتقداتٍ تبرر الفعل أو القول ، أهدافاً يقصد منها الفعل أو القول ، وقراراتٍ حكيمة يستند لها القول أو الفعل ، هذا باختصار شديد ، إذا فلا عقلانية في فعل أو قول لا معتقد يبرره ، ولا هدف ينشده ، ولا قرار يسنده .
تعريف الحرب :
أما عن الحرب تعريفاً ، وتوصيفاً ، وهي النشاط الأعقد ، والأقسى ، والأكثر أثراً من مجمل النشاطات التي يقوم بها بنو البشر ، وهي التي تحمل الشيء ونقيضه ـ قساوة القلب مع العاطفة ـ في نفس الوقت ، فهي تُعّرف في أبسط تعاريفها على أنها استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى ، أي أنها فعل سياسي بوسائل عنفيه ، ولا يُلجأ لها إلّا إذا سدت كل الطرق ، وأغلقت كل المنافذ ، وهي تزرع ما سيحصده السياسي ؛ إن نصرٌ ؛ فخير ، وإن هزيمة ؛ فشر .
تعريف الردع :
ومما يوقف الحروب ويمنع وقوعها ، ردع الأعداء بعضهم لبعض ، فإن تحقق مبدأ الردع بين عدوين ، تعذر وقوع المعارك بينهما ، وإن اختل ميزان الردع هذا ؛ سولت نفس القوي له الاعتداء على الضعيف ، لذلك تحرص الدول والكيانات على إرساء معادلة ردع بينها وبين خصومها ، تحقن به ـ الردع ـ دماء أبناءها ، وتحمي به مقدراتها وأصولها البشرية والمادية ، والردع ليس كلمة تحكى أو مقال يقال ، وإنما هو : قدرات مثبتة الفاعلية ، وقرار حاضر للتشغيل ، وخطوط حمرٌ ظاهرة لا يساء فهمها ، ووسائل اتصال ورسائل بين الخصوم لشرح المبهم وغير المفهوم ، وغير هذا ؛ فكلام غير مفهوم ، وزعمٌ للردع غير مدعوم . إن مهمة الردع ووظيفته أن يقتنع العدو أن أكلاف عمله أكبر بمرات من جدواه ، فيرتدع ويمتنع ، وما لم يوجد الردع هذه القناعة ؛ فسمه ما شئت من الأسماء ، وأطلق عليه ما شئت من الصفات والنعوت ؛ إلّا مسمى الردع أو صفته .
مصفوفة العمل العسكري :
كما أن للمنتجات الاستهلاكية خطوط إنتاج ، ومسارات تَكَوّن وإعداد ، ومدخلات تفضي إلى مخرجات ، فإن العمل العسكري ، والذي قلنا أنه أعقد نشاط آدمي عرفته البشرية ، العمل العسكري له خط إنتاجه الخاص ، ومساراته التي تفضي إليه ، فليس هو أمرٌ يعتسف اعتسافاً ، ولا نزوة تقضى ، إنما هو مسيرٌ يبدأ بـ :
1. قرار سياسي من أجل تحقيق أهداف سياسية ، كتحصيل مصلحة أو الدفاع عنها ، أو رسم خطوط حمر ؛ يمنع الاقتراب منها .
2. مهام تعبوية تحقق هذه الأهداف السياسية ؛ تشتقها ـ المهام التعبوية ـ الجهات العسكرية وتضع لها الإجراءات التنفيذية .
3. قدرات قتالية ؛ بشرية ومادية ، قادرة على النهوض بالمهام التعبوية ، في سياق تحقيق الأهداف السياسية .
محددات القدرة :
وهنا مكمن الخطر ، وأم المصائب ، حيث يعتقد مالك القوة والتي هي مزيج من القدرة والإرادة ، يعتقد مالكها أن لا وجود لما يمكن أن يحد من استخدامها ، وأنه إن ملك أسبابها ، فهو يملك كامل الحرية في التصرف فيها ، فلا يحده حد ولا يردعه رادع ، وهنا لابد من الإشارة السريعة أن أية قوة مهما بلغت من شأن ، وبغض النظر عن مالكها والمتصرف فيها ، فإن لها قيود تقيدها ، وأغلالاً تمنع حرية التصرف فيها ، ومن أهم القيود التي تقيد استخدام القدرات وتشغيلها : الهدف أو المهمة ، المحددات الدينية أو الشرعية أو العقلية أو السياسية أو الجغرافية أو الفنية ، وفي هذا تفصيل تضيق أمامه هذه السطور المعدودة ، فليس صحيحاً أن مجرد امتلاك القدرة ، يعني حكماً القدرة على تشغيلها .
ثالثاً : أثر العقلانية وأهميتها في القرارات القيادية :
نختم ورقتنا هذه بأصل الهدف منها ، وهو تبيين أثر العقلانية وأهميتها في اتخاذ القرارات القيادية ، فرجال الدولة كما قال تشرتشل " لا يقتصر دورهم على تسوية الملفات السهلة ، فهذه غالباً ما تسوي نفسها بنفسها ، إن دور رجل الدولة ؛ حيث ينعدم التوازن ، وتلتبس النسب والاحتمالات " ، وحيث أن الحرب هي أم المجهولات ، ومنبع الغموض ، وفعلٌ ليس بالضرورة أن تتساوى آثاره الميدانية مع ما صيغ من خطط ورقية ، وهي عبارة عن صراع عقول وإرادات ، قبل أن تكون تصادم أسلحة وأدوات ، كما أنها صراع بين العقل والعاطفة ، ولما كانت كما وصفت ، كان للعقلانية أهمية تبرز في :
1. إيجاد القناعة بأن العنف وسيلة وليس غاية :
فلا يمارس القتل لمجرد القتل ، ولا القصف كهواية أو حباً به ، فالعنف في المعارك والحروب وسيلة تستخدم للوصول إلى هدف ، وما لم يكن هناك هدف واضح ، وغاية بينة ، من استخدام العنف وتبريراً له ، فإن المقاتل يصبح مجرماً ، أو قاطع طريق ، وهنا يبرز دول العقل والعقلانية .
2. تحديد أفضل الطرق لتحقيق الأهداف :
كما يحتاج إلى العقل والتفكير بعقلانية من أجل تحديد أفضل الطرق للوصول إلى الأهداف ، وتحقيقاً للغايات ، وإلا فإن اعتساف الحلول دون قياسها بقياس العقل ؛ مظنة هدر للطاقات ، وتضييع للفرص والأوقات ، ومن ثم خسارة البشر والإمكانات .
3. القدرة على معرفة شر الشرين ، وخير الخيرين :
فليس العاقل من عرف الشر من الخير ؛ ولكن العاقل من عرف شر الشرين ، وخير الخيرين ، فلا خير في خير يجلب شراً أكبر منه ، ولا خير في التمنع عن التوسل بــ (شر) منعاً لشر أكبر منه ، ورجاحة العقل تحضر هنا ، وألمعية التفكير تبرز في مثل هذه المواطن ؛ عند اختلاط الأمور ، وعدم القدرة على التمييز .
4. تحكيم العقل وليس العاطفة :
إن أسوأ موقف يمكن أن يجد القائد نفسه فيه هو الموقف الذي يشخصن فيه الأمور ، ويحاكم فيها المواقف انطلاقاً من الاعتبارات الشخصية ، وليس بناء على المصلحة العامة ، وعندها تبدأ العاطفة في التحكم في مجريات الاحداث ، ويغيب العقل عن رؤية مآلات الأوامر والإجراءات . وهنا تحضر أهمية العقلانية في التفكير والتحليل ، فبها تُكبح الشهوات ، ويسيطر فيها على النزوات ، وتقدر عبرها خواتيم الأمور .
5. تحقيق الأهداف بأقل الأكلاف :
وبالعقل والسلوك العقلاني يمكن تحقيق الأهداف بأقل الأكلاف ، ويوصل للغايات من أقصر الطرق والممرات ، وبالعقل الذي هو أداة العقلانية الرئيسي ؛ تخصص القدرات ، وتُسند للأفراد والهياكل المهمات .
نختم لنقول أن الرد الإيراني على قصف القنصلية الإيرانية في سوريا ، يعد نموذجاً لأخذ القرار بعقلانية ، وبرأس بارد قل نظيره ، فلم تُطِش الضربة الإسرائيلية عقول الساسة الإيرانيين وصناع القرار عندهم ، بل جعلوا من عقلهم حارساً على عواطفهم ، وعلموا أن مناط الفعل ليس فيما تملك من أدوات وقدرات ، وإنما فيما يمكن أن تسمح لك به الظروف الموضوعية والميدانية من تشغيل لهذه القدرات ، وبرأس بارد وعقلانية قل نظيرها حددوا أهدافهم ، وخصصوا قدراتهم ، بما يناسب تحقيق الأهداف بأقل الأكلاف ، ثم أطلقوا العنان للراجمات ، فأوصلت رسائلها ، ورسمت معادلتها ، فـ (بلع ) العدو إهانته ، وعض ـ على الأقل حتى الآن ـ على جرحه ، وادعى كظم غيظه . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
17 04 2024