محور "نتساريم" الملتهب.. أيّ وقائع يحاول الاحتلال فرضها في قطاع غ

أحمد عبد الرحمن

كاتب في الشأن السياسي والعسكري



كان واضحاً منذ بداية العملية البريّة لـ "جيش" الاحتلال في قطاع غزة قبل ستة أشهر تقريباً، رغبته في خلق واقع ميداني جديد يساعده في تحقيق أهدافه المعلنة رداً على عملية "طوفان الأقصى" البطولية، أو على أقل تقدير جزء منها، تلك الأهداف التي حملت في طياتها رغبة في تغيير  الواقع العملياتي في القطاع الصغير، والذي شكّل خلال السنوات التي تلت الانسحاب الصهيوني منه في العام 2005 معضلة لم يتمكّن العدو من الإفلات منها، أو تلافي تأثيراتها التي أصابت كلّ مفاصل الحياة في الدولة العبرية، ولا سيما خلال الحروب متوسطة أو مرتفعة النسق التي جرت بينه وبين المقاومة الفلسطينية منذ العام 2008-2009، عندما وقعت أول معركة "كبيرة " بعيد الاندحار من القطاع. 

ولأنّ الاحتلال يحفظ جيداً جغرافيا القطاع عن ظهر قلب، وهو الذي يشرف استخباراتياً ومعلوماتياً على كل ما يجري فيه من أحداث نتيجة سيطرته على وسائل الاتصالات بمختلف أنواعها، وطيران استطلاعه وأقماره الاصطناعية لا تغادر سماءه سلماً أو حرباً، وترقب على مدار الساعة كلّ ما يجري فيه من تحوّلات حتى تلك المتعلّقة ببناء منزل هنا أو هناك، أو استصلاح أرض بغرض الزراعة، ولا نبالغ إذا قلنا إنه يتابع مجرد إقامة سياج شائك بين بعض قطع الأراضي التي يتمّ تقسيمها بين الورثة.

وبما أنه يعرف طبيعة الأرض، والطبوغرافيا، وكلّ ما يتعلّق بها من تفاصيل، ويعرف أيضاً أهمية كل جزء منها، فقد اختار بعناية فائقة المناطق التي يريد السيطرة عليها، سواء بشكل مباشر من خلال وجود قواته فيها، أو السيطرة بالنيران الرشاشة والمدفعية ونيران الطائرات، والتي يملك منها ما يمكّنه من فرض سيطرة كاملة ومحكمة على جغرافيا واسعة من أراضي القطاع بغض النظر عن حجم ومكان تلك الجغرافيا. 

من أهم المناطق التي سعى الاحتلال للسيطرة عليها، وفرض وقائع ميدانية جديدة فيها كان الممرّ الفاصل بين مدينة غزة من جهة، وبين المنطقة الوسطى من جهة أخرى، وهو ما بات يُعرف إعلامياً بـ "ممر نتساريم" نسبة لمستوطنة "نتساريم" التي كانت مُقامة على مساحة واسعة من أراضي المواطنين إلى الجنوب الغربي من مدينة غزة، أو "الطريق العسكري" كما يطلق عليه "جيش" الاحتلال. 

هذا الممر بات يشكّل حالياً بعد التطورات المهمة وحوله أهم نقاط الخلاف في المفاوضات الجارية للوصول إلى وقف إطلاق نار، بغض النظر إن كان مؤقتاً أو مستداماً، ويكاد يكون الإنجاز العملياتي الأهم الذي تمكّن "جيش" الاحتلال من تحقيقه، إذ إنه وعلى الرغم من وقوعه في منطقة شبه فارغة من السكّان، وهي في معظمها أراضٍ زراعية، ولم يكن يحوي قبل سنوات قليلة أي منشآت أو مؤسسات حيوية باستثناء ما تم إنشاؤه مؤخراً، مثل قصر العدل والمشفى التركي وبعض الجامعات، إلا أن سيطرة "جيش" الاحتلال عليه، وعلى مناطق واسعة في محيطه من الجهتين الجنوبية والشمالية، ومنعه بالقوة المفرطة أي حركة على جانبيه إلا تلك الخاصة بشاحنات المساعدات الإنسانية، أو بعض سيارات الإسعاف وسيارات الصليب الأحمر ووكالة الغوث، قد حوّل هذا الممر إلى منطقة تكاد تكون استراتيجية، أو على أقل تقدير بالغة الحساسية. 

هذه الممارسات ساهمت وما زالت في تنفيذ جزء مهم من خطة تهجير سكّان شمال القطاع، والتي كان الاحتلال يسعى من خلالها لإقامة منطقة عازلة تمتد من بيت حانون شمالاً وصولاً إلى حدود المنطقة الوسطى من القطاع، أي ما يقارب نصف مساحة قطاع غزة، وهو الأمر الذي فشل بدرجة كبيرة نتيجة تمسّك المواطنين بأرضهم، رغم ما لحق بهم من قتل وتشريد، ودمار هائل أصاب أكثر من ثلثي منازل المنطقة الشمالية من القطاع، والقضاء بشكل شبه كلّي على جميع مكوّنات البنى التحتية في هذه الجغرافيا الصغيرة والمحاصرة.

يمتد ممر "نتساريم " من الحدود الشرقية لمدينة غزة، وصولاً إلى شارع الرشيد غربي المدينة، حيث تجاوره من المنطقة الجنوبية الشرقية منطقة "جحر الديك" وصولاً إلى شارع صلاح الدين الذي يقطعه من المنتصف، ومن ثم منطقة المغراقة، ومدينتا الزهراء والأسرى، اللتان تُحدّانه من جنوبه الأوسط وجنوبه الغربي.

أما من الناحية الشمالية فيأتي حيّ الزيتون أكبر أحياء مدينة غزة وأكثرها سكاناً، والذي يشغل المساحة الأكبر من الحدود الشمالية لهذا الممر، إلى جانب منطقة الصبرة والشيخ عجلين، اللتين تقعان في الجهة الشمالية الغربية منه.

يصل طول ممر نتساريم من الشرق باتجاه الغرب إلى نحو ستة كيلومترات ونصف الكيلومتر، وهو مكوّن بحسب بعض الشهود من ثلاثة مسارات عريضة، أحدها مخصّص لعبور الآليات المجنزرة، فيما الثاني للجيبات والعربات ذات العجلات المطاطية، أما الثالث فمقام عليه بعض المواقع لمبيت الجنود، وتخزين السلاح، ومنشآت أخرى خاصة بالتحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين.

منذ الشهر الثالث من بدء الحرب قام العدو بتجريف مساحات واسعة في محيط هذا الممر، وصلت في بعض الأحيان إلى عمق ثلاثة كيلومترات على جانبه الشمالي باتجاه مدينة غزة، فيما كانت أقل من ذلك في جانبه الجنوبي، والذي سعى "جيش" الاحتلال خلال الشهر الأخير إلى زيادتها من خلال العملية العسكرية الواسعة في منطقتي المغراقة ومدينتي الأسرى والزهراء، وصولاً إلى المخيم الجديد شمال مخيم النصيرات، أي بعمق قد يصل في بعض المناطق من كيلومترين ونصف الكيلومتر إلى ثلاثة كيلومترات، وهو ما يعادل تقريباً تلك المسافة الواقعة شمال هذا الممر كما أشرنا أعلاه.

خلال الشهر الأخير، وفي إطار زيادة تأمين هذا الممر قام "جيش" الاحتلال بإحاطته بسواتر إسمنتية ضخمة، ووضع العديد من البوابات الحديدية ولا سيما في منطقتي الوسط والغرب، وأقام سواتر ترابية مرتفعة، إضافة إلى أجهزة رصد متطورة، وأبراج مراقبة حديدية عالية، إلى جانب تحليق طيران الاستطلاع فوقه على مدار الساعة، من دون أيّ انقطاع يُذكر، مع القيام بتمشيط مدفعي وناري في محيطه كل أربع ساعات تقريباً، وخصوصاً في فترتي الصباح والمساء، أو عند اقتراب بعض المواطنين منه للحصول على بعض المزروعات، أو انتظار المساعدات الإنسانية التي تمر عبره، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط مئات الشهداء خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة نتيجة استهدافات قوات العدو لهم.

على كل حال وبعيداً عن كثير من التفاصيل التي تحيط بهذا الممر، والتي يمكن الإشارة إليها في مرات مقبلة مثل عديد القوات التي تخدم فيه، والتي تمّ مؤخراً استبدالها بكتيبتي احتياط، عوضاً عن لواء الناحال الذي تمّ سحبه من المحور بعد خمسة أشهر تقريباً من وجوده فيه، أو مثل المهام التي قام بها "جيش" الاحتلال انطلاقاً منه، والتي تركّزت معظمها في الهجوم البري على مدينة غزة، وبعض مخيمات المنطقة الوسطى كالبريج والنصيرات على سبيل المثال. 

دعونا نُشِرْ إلى بعض الوقائع أو المتغيّرات العملياتية التي أوجدها هذا الممر، أو ما يمكن تسميته بحسب المصطلحات العسكرية بـ "المحور القتالي" المهم، والذي يمكن تصنيفه بحسب التموضعات الميدانية الحالية في قطاع غزة بأنه منطقة "سيطرة مطلقة لجيش الاحتلال"، إذ إنه يفرض سيطرة كاملة على كل أجزائه، بل يتعدّى ذلك إلى محيطه الواسع كما أسلفنا، بمساحة إجمالية قد تصل إلى نحو 35 كلم من مساحة القطاع.

من أهم تلك الوقائع والمتغيّرات أن "جيش" الاحتلال بات يسيطر فعلياً وبشكل مستدام على بعض أجزاء قطاع غزة، وهو الأمر الذي كان مستبعداً من وجهة نظر الكثيرين قبل بداية هذه الحرب نتيجة عوامل كثيرة لا يتسّع المجال لذكرها حالياً، وهو أي "جيش" الاحتلال ومن خلفه القيادة السياسية "للدولة" العبرية، والتي تبحث عن أي إنجاز واضح في معركتها ضد المقاومة الفلسطينية، تحاول استخدام هذا "المنجز" كورقة مساومة أساسية في مفاوضات التهدئة الجارية منذ عدة أشهر، والتي لم تحقّق أي اختراق يُذكر حتى الآن رغم حالة التفاؤل التي تسود مؤخراً.

ثاني الوقائع أن "جيش" الاحتلال أصبح بإمكانه استخدام هذا الممر كموطئ قدم ونقطة انطلاق لتنفيذ العديد من المهام العملانية داخل أراضي القطاع، وخصوصاً باتجاه مدينة غزة شمالاً، أو المنطقة الوسطى جنوباً، حيث يمكن له وفي غضون دقائق معدودة أن يصل إلى عمق مدينة غزة على سبيل المثال كما حدث في مجمع الشفاء الطبي مؤخراً، أو إلى أطراف مخيم النصيرات، بعد أن كان يحتاج سابقاً لأيام وربما أكثر للتقدّم لأمتار قليلة داخل حدود القطاع الشرقية.

ثالث الوقائع أن "جيش" الاحتلال أصبح بإمكانه التحكّم حالياً بحركة الدخول والخروج من منطقة شمال قطاع غزة إلى جنوبها وبالعكس، وهو يقوم منذ انتهاء التهدئة التي استمرت ثمانية أيام نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت بمنع حركة الأفراد والشاحنات والبضائع بين أجزاء القطاع، وقد فرض حصاراً مُطبقاً على مدينة غزة وشمالها بدأ يتفكّك مؤخّراً، ما أوصلها إلى حافة المجاعة التي ضربت بأطنابها كل نواحي الحياة فيها، وأدّت إلى استشهاد العشرات من المواطنين ولا سيما من فئة الأطفال نتيجة سوء التغذية.

رابع الوقائع وآخرها حتى لا نطيل هي إمكانية استخدام هذا الممر، أو المحور في مرحلة لاحقة لعودة الاستيطان إلى قطاع غزة، وهي فكرة ما زالت موجودة في أوساط قوى اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ويتردد صداها بقوة خلال الشهور الماضية، وخصوصاً إذا لم يتم التوصّل إلى صفقة شاملة تؤدي إلى خروج قوات الاحتلال من القطاع، أو استمرار فترة الحرب إلى أجل غير معلوم، على غرار ما يحدث في مدن الضفة الغربية المحتلة، أو تحوّل المعركة إلى ما يشبه حرب الاستنزاف كتلك التي كانت سائدة قبل الانسحاب الإسرائيلي من أراضي القطاع.

كلّ ما سبق من وقائع ومتغيّرات فرضتها السيطرة "الإسرائيلية" الحالية على محور نتساريم، والتي لا يمكن النظر إليها باستخفاف كما يفعل البعض، تشير إلى أنّ أمام المقاومة الفلسطينية استحقاقاً مهماً يجب أن تتعامل معه بكل جدّية، وهو اختبار مهم وحاسم لمدى تمكّنها من إفشال الخطط الإسرائيلية الهادفة لخلق وقائع ميدانية ذات أهداف سياسية في قطاع غزة، وهي أي المقاومة تدرك ذلك جيداً، وتحاول القيام بما يتوجّب عليها في هذا الإطار.

في هذا الجانب تحديداً يُلاحظ أن فصائل المقاومة الفلسطينية بدأت في الأسابيع الأخيرة، وبعد أن تولّدت لديها قناعة كما يبدو بأن الوجود العسكري الصهيوني في هذا المحور ليس طارئاً أو عابراً، وأن حجم الإمكانيات التي توجد فيه وفي محيطه تشير إلى أهداف عملياتية طويلة المدى ومستدامة، بدأت في زيادة وتيرة التصعيد العسكري تجاه القوات الموجودة في ذلك الممر، بعد أن امتنعت عن ذلك لفترة معيّنة نتيجة بعض الأسباب التي تحيط بعملها، أو في إطار تقدير موقف كان يشير إلى قرب التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يشمل انسحاباً كاملاً من أراضي القطاع.

هذا الاستهداف من قِبل المقاومة لـ "جيش" العدو الموجود في محور نتساريم، والذي بدأ يزداد كمّاً ونوعاً خلال الأسبوعين الأخيرين، وأدى إلى وقوع خسائر في صفوف جنود الاحتلال وضبّاطه، والذي تعتمد فيه المقاومة بالأساس على قذائف الهاون ذات العيارات المختلفة وخصوصاً عيار 120 ملم، والتي يصل مداها إلى نحو خمسة كيلومترات، يبدو أنه سيكون باكورة عملياتها المضادة لهذا الواقع الجديد الذي يحاول الاحتلال فرضه بقوة الحديد والنار، وأنه يمكن أن يتبعه العديد من التكتيكات الأخرى التي تملكها المقاومة مثل الصواريخ الموجّهة، والأنفاق الهجومية، والتي يمكن أن تلجأ إليها في مرحلة لاحقة بحسب تطوّر الأوضاع في الميدان، ولا سيما تلك الخاصة بمفاوضات وقف إطلاق النار الشامل والدائم.

ختاماً يمكن لنا أن نقول وبكل ثقة، ونحن نعيش الواقع بكل تفاصيله، ونراقب كل الأحداث صغيرها وكبيرها عن قرب، وبعيداً عن البروباغندا الهائلة التي تحاول إظهار الأمور على غير صورتها الحقيقية، أن ما حاول الاحتلال فرضه من وقائع ومتغيّرات في قطاع غزة، مستخدماً كل ما في جعبته، وجعبة حليفه الأميركي من إمكانيات عسكرية، وما قام به من مجازر يندى لها جبين الإنسانية الذي ما زال يغط في سبات عميق، وبالرغم من حجم الخذلان الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني المظلوم، من أمته العربية والإسلامية وأنظمتها الفاسدة، باستثناء الشرفاء في بلدان محور المقاومة والممانعة. 

بالرغم من كل ذلك لن ينجح العدو المأزوم داخليا، والمنبوذ خارجياً - تظاهرات الجامعات الأميركية كمثال – في تحقيق أي من الأهداف التي يسعى إليها، حتى لو استمرّت الحرب العدوانية التي يشنّها على القطاع المقاوم مئة عام، فهذا الشعب البطل الذي يملك شجاعة نادرة، وصموداً أسطورياً قلّ نظيره لن يقبل بعودة قوات العدو المجرمة إلى أراضيه، ولن يسمح ومعه مقاومته الباسلة والشريفة بتحكّم مجموعة مارقة من شذّاذ الآفاق بتفاصيل حياته وكرامته التي تحصّل عليها بعظيم التضحيات الجسام.

هذا الشعب ومعه كلّ قوى الأمة الحية سيواصل القتال إلى آخر المشوار، وصولاً إلى المعركة الكبرى والموعودة التي ينتظرها الجميع، والتي وعلى الرغم من حالة اليأس التي تضرب بعض النفوس، آتية لا محالة، كيف لا وهي وعد رباني للمؤمنين المخلصين، يقرأونه كلّ صباح ومساء في سورة الإسراء، ويؤمنون بتحقيقه مهما ادلهمّت الخطوب، وعظُمت التضحيات.    

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023