طوفان الأقصى ... معارك الاستنزاف الفرص والتهديدات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

ورقة تقدير
لما كان الحكم على شيء فرعٌ من تصوره ؛ ولما اقترن مصطلح " حرب الاستنزاف " بالمناوشات التي كان الجيش المصري يشنها على قوات العدو الإسرائيلي المتمركزة على الحافة الشرقية من قناة السويس بعد احتلاله لشبه جزيرة سيناء بعد حرب الأيام ( إقرأ الساعات ) الستة عام 1967 ، والتي ـ مناوشات الاستنزاف ـ استمرت حتى عام 1970 ، حيث تكبد العدو الإسرائيلي في هذه المواجهات خسائر بشرية ومادية (معقولة) من حيث الكم النوع ، وحيث أن هذا المصطلح ـ حرب الاستنزاف ـ  ارتبط بهذه الأحداث ، وتلك النجاحات ، والتي مهدت لحرب أكتوبر 1973 التي بدأت بنصر عسكري ميداني ، وانتهت بـ (مصيبة) سياسية ، لما كان الموقف على ما قيل سابقاً من حيث اقتران المصطلح بإنجازات ؛ ظن البعض أن طريقة العمل هذه تصلح لكل مكان ، وفي أي زمان ، متناسيين أنه لا يمكن أن تتشابه معركتان أو حربان مع بعضهما البعض ؛ حتى ولو اشتركتا في بعض المتشابهات ، وتقاطعتا في بعض المحطات . وحيث أن معركة طوفان الأقصى طالت واستطالت ، وجرى من تحت جسرها مياه كثيرة ، واستخدم في توصيفها أسماء ومصطلحات دون النظر في مدلولاتها أو مقتضياتها ، وكان آخرها ما بدأ يطرق سمعنا في الآونة الأخيرة من أنها ـ معركة طوفان الأقصى ـ دخلت مرحلة الاستنزاف ، أو أنها حرب استنزاف تشنها قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتاب الشهيد عز الدين القسام على عدوها الصائل الذي يفسد الدين والدنيا . ولما كان هذا المصطلح بحاجة إلى ضبط وتعريف وتفصيل في المقتضى والمدلول ، كانت هذه الورقة التي ستناقش هذه المسألة ـ حرب الاستنزاف ـ عبر مجموعة من العناوين والمفاصل ، علّنا نسهم بشيء بسيط في توسيع الفهم ، وتعميقالمعرفة ، في معركة أقعدتنا الذنوب عن أن نكون منخرطين فيها حقاً وحقيقة ، وإلى الله المشتكى .

​في هذه الورقة لن نُعرّف الحرب ، فكلنا بات يدرك أن الحرب هي استمرار للسياسية بوسائل خشنة . ولن نأتي علىأنواعها ونفصل فيها ، فهذا النشاط الإنساني الأعقد قد يكون ؛ خاطفاً أو متدحرجاً أو ناعماً ، فضلاً عن إمكانية تحوله إلى مستنزفاً . كما أننا لن نخوض في أنواع مناورتها وطرق عملها التعبوية والتي قد تكون على شكل عمل جبهي ، أو خرق لخطوط العدو ، أو تطويق وإحاطة له من جهة أو جهتين . كما أننا لن نكثر الحديث في أهداف العمل العسكري التعبوية والتي لا تتجاوز ؛ الاحتلال ، أو السيطرة ، أو التأمين ، أو التعزيز . وكل هذه المصطلحات يعرف أهل الفن و ( الكار ) مدلولاتها ، وما ينبني عليها ، ومتطلبات كل واحدة منها ، فيكفي أن يقول القائد ، المهمة هي تأمين الهدف الفلاني ؛ ليشتق ضباطه المحترفين من هذه المهمة عشرات المهام والإجراءات التي تفضي إلى التأمين .

تعرف معارك الاستنزاف وطرق عملها :

بناء على ما تقدم ، وحتى لا تختلف بنا السبل ، لا بد في البداية من تعريف معارك الاستنزاف ، مذكرين أننا لا نعتقد أنهيوجد شيء أسمه " حرب استنزاف " ؛ إنما هناك معارك استنزاف هي جزء من طرق عمل وخطط لحرب شاملة ـ المعارك جزء من كل هو الحرب ـ تتسع ساحاتها ، وتتعدد طرق عملها ، هذا من حيث الشكل ، أما من حيث التعريف ؛ فمعارك الاستنزاف هي طريقة من طرق العمل العسكريةوالتعبوية التي تهدف إلى إبقاء العدو في حالة استنفار ولا أمن ، معبئ كل طاقته لمواجهة ما يمكن أن يصدر عن عدوه من إجراءات أو تهديدات مستقبلية ، مع الأخذ بعين الاعتبار محاولة الحاق أكبر كم من الخسائر البشرية والمادية في العدو أثناء القيام بالتعرض عليه ،لإنهاكه واستنزاف قدراته ، في كل مرة يتم التعرض فيها عليه .

وتحقيقاً لهذا الهدف فإن طرق العمل الممكنة لاستنزاف العدو كثيرة ومتعددة ، وفيها من الابتكار والتجدد ، ما يجعل العدو غير قادر على تخيل الضربة القادمة بعد الضربة الحالية ؛ لا زماناً ولا مكاناً ولا شكلاً . وقد يعمد العدو لاستنزاف عدوه عبر كثير  من طرق العمل والتي منها : القصف بمختلف وسائط النار ؛ البرية والجوية والبحرية ، أو من خلال الغارات والإغارات ، أو من خلال الكمائن وعمليات التسلل والعبوات ، أو عبر الأعمال الأمنية والعمليات الاستخبارية خلف خطوط العدو ، إنزالاً جوياً ، أو إبراراً بحرياً .

هدف معارك الاستنزاف :

وحيث أن أي عمل عسكرياً لا بد له من هدف معين يحققه في سياق الأهداف الكلية الموضوعة للحرب ؛ فإن معارك الاستنزاف تهدف إلى تحقيق أهداف ، من أهمها :

1. إبقاء العدو في حالة من التعبئة واللا أمن مما ينعكس سلباً على الروح المعنوية لقواته العسكرية .

2. منع العدو من تجديد تنظيمه القتالي .

3. تكبيد العدو أكبر كم من الخسائر المادية والبشرية .

4. التأثير سلباً على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للعدو ، بما ينعكس سلباً على قدراته القتالية .

5. إطالة المدى الزمني للحرب ، كمتطلب تعبوي لترميم قدرات تضررت ، أو بناء قدرات تدمرت ، استعداداً لمعركة فاصلة ، يُعد لها مستقبلاً .

المتطلبات الموضوعية لنجاح حرب الاستنزاف :

وحتى ينجح الطرف المُستَنزِف في استنزاف الطرف المُستنزَف ، لا بد من توفر مجموعة من الشروط  والحيثيات التي تمكن الأول من تحقيق استنزاف دم الثاني ، ومن أهم هذه الشروط والظروف ما يأتي :

1. قدرات قتالية ؛ بشرية ومادية أكبر من قدرات الخصم الحاضرة على الخط ؛ قادرة على تحقيق خسائر ذات مغزى في العدو.  

2. معنويات وروح قتالية تعرضية ، تذلل الصعاب ، وتفتح ما أغلق من أبواب .

3. مساحات أرضية تساعد في إبعاد مراكز الثقل السياسية والعسكرية والاقتصادية ، والأصول البشرية والمادية عن مصادر تهديد العدو. 

4. قدرات قتالية قادرة على تأمين الأصول البشرية والمادية من رد فعل العدو الانتقامي .

5. خطوط إمداد مفتوحة قادرة على تأمين النقص ، وتعويض الخاسر الناتجة عن الأعمال التعرضية ؛ البشرية أو النارية .يجب العمل على تأمين سلاسل التوريد العسكرية والمدنية قبل التفكير في خوض معارك استنزاف قد تطول أيمها ، وتتعدد أشكالها .  

6. قاعدة صناعية وإنتاجية قادرة على تعويض الخسائر الناتجة عن ردات فعل العدو .

7. الثبات والوضوح النسبي لخطوط التماس بين القوات المتحاربة .

8. حاضنة شعبية قادرة على تحمل ضغط العدو ، ورد فعله الانتقامي .

9. عدم تحول هذا الموقف القتالي إلى موقف دائم تطول أيامه ، وتتعدد سنونه .

فرص وتهديدات معارك الاستنزاف في غزة :

أولاً : الفرص :

1. توضيح خطوط التماس وبقع القتال ومربعاته .  

2. تظهير قواعد الاشتباك والتفاهم الضمني عليها .

3. إمكانية إدامة الحياة المدنية ولو بحدها الأدنى ، كنتيجة للنقطتين الأولى والثانية .

4. إمكانية ترميم بعض البنى التحتية الحيوية المطلوبة لإدامة حياة السكان والمدنيين . 

5. اراحة الجهاز العسكري وإمكانية إعادة التنظيم القتالي للقوات .

6. توفير ظروف ـ ولو بالحد الأدنى ـ من أجل استقطاب واستيعاب قدرات بشرية جديدة تعويضاً عما فقد في المعارك السابقة .

ثانياً : التهديدات :

1. انخفاض القدرات القتالية البشرية والمادية مع الأيام ، كنتيجة لحالة الحصار التي يعيشها مسرح العمليات في غزة .

2. الحؤول دون ترميم القدرات وإعادة بناء الذات .

3. تململ الحاضنة الشعبية وخروجها عن السيطرة .

4. تنشيط العمل الأمني المعادي ، وتحييد القدرات النوعية البشرية والمادية للمقاومة .

التقدير :

نعتقد أن معارك الاستنزاف في غزة ، وإن كانت تحمل في صفحاتها فرصاً قد تمكن المقاومة من تسجيل نقاط لصالحها على حساب العدو ، إلّا أنها أيضاً تتضمن مجموعة من التهديدات التي قد تفضي إلى تحول الموقف القتالي لصالح العدو ، على اعتبار أنه يخوض المعارك على أرضنا ، وأن عقبته ومؤخرة قواته في حالة من الأمن النسبي ، كما أن خطوط إمداده وتعويض قواته مفتوحة لا يحدها حد ، ولا يسدها سد ، على العكس من قدرات المقاومة ، وحاضنتها الشعبية . الأمر الذي يتطلب التفكير بجدية قبل الركون أو الاستسلام إلى مفهوم أننا نريد أن نُحوّل معركتنا مع العدو إلى معركة استنزاف .

التوصيات :

1. الاقتصاد بالقوات والقدرات إلى الحد الأدنى أثناء الاشتباكات .

2. عدم استدعاء العدو للقتال في مربعات ذات أهمية للمقاومة .

3. ضرب مؤخرة قوات العدو وخطوط  إمداده ونقاط حشده وتجمعه .

4. ضرب مراكز ثقل العدو السياسية والبشرية والاقتصادية بما يؤثر على صانع وصاحب القرار عنده .

5. محاولة صنع معادلات تفضي إلى فرض قواعد اشتباك تريح الموقف العسكري والمدني للمقاومة

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023