حديث في المباني والأصول
أولاً : مقدمة :
يقال أن القِدر ( الطنجرة ) لا تجلس مستقرة إلّا على أثافي ثلاثة ؛ وفي غير هذه الصورة فإنها تبقى ( مكلكزة ) ؛ لا تستقر جالسة ، ولا يؤمن فيها على محتوى . وكذا الكيانات السياسية والدول ، فضلاً عن الحركات والمؤسسات ؛ فإنه لا يتصور أن تبنى وتتطور دون أن تجلس على نقاط ارتكاز ثلاثة مكونة من : رؤية سليمة منطلقة من الواقع الموجود ، وصولاً إلى المستقبل المنشود ، ومهنية محترفة تحقق حشداً للقدرات ، بناء على الكفاءات وليس الولاءات ، ورقابة حقيقية ؛ تحفظ المسير من الانحرافات والتجاوزات ، أو الخروج عن الأهداف والسياقات ، وهذا بحثٌ تفصيلٌ قد نرجع له في مقال مستقل لأهميته وخطورته . ولما لم يكن بمقدور كائن من كان أن يحقق كامل أهدافه والغايات إلا عبر مسير متدرج يراعي القدرات والإمكانات والبيئيات ، ولما كان ما يمكن أن تحوزه الكيانات السياسية ـ بغض النظر عن شكلها أو حجمها أو اسمها ـ من قدرات ، تحدها سقوف ، وتقيدها محددات ؛ اصطلح أهل الفن و(الكار) على تسمية حركة امتلاك القدرات ومراكمة الخبرات بمصطلح " مسار بناء القوات " ، وهذه التسمية لم تعتسف اعتسافاً ، ولا ( شلفت شلفاً ) ، إنما جاءت لتعبر عن واقع الحال ، وتوصف كيف يُمضى في هذا المسار ، الذي يبدأ متواضعاً بحجم التهديد المتصور ، أو المصلحة المطلوب تحقيقها أو حمايتها ، ثم يتطور وينمو بتطور ونمو التهديد أو الخطر ، أو تحصيل المصلحة من عدمه .
إذن فامتلاك القوة (قدرة + إرادة ) إنما هو مسار يبدأ من نقطة ولا ينتهي عند أخرى !! لاستحالة انتفاء التهديد ، أو تحقيق كل المصالح ، وما لم يكن الفهم لهذا الشأن ـ مسار بناء القوات ـ على ما قيل سالفاً ؛ فإننا نقع في المحذور ، ونبذر في أرض بور . لهذا تأتي هذه الورقة للحديث بشكل مقتضب عن أهم الأصول والمباني التي يجب أن تراعى عند أخذ قرار السير في مسار بناء القوات ومراكمة الخبرات ، علّنا نسد ثغرة في هذا المجال ، أو نصحح خطأ ، أو نجيب على سؤال . بيد أننا نلفت انتباه السادة القراء إلى أن مناط هذه الورقة هو الحديث في الشق العسكري ، وليس سواه من مرتكزات القوة والقدرة الأخرى كالسياسية ، أو الديموغرافيا ، أو الاقتصاد ، أو الجغرافيا ، حيث كلها من عناصر القوة ، وأسباب المنعة.
ثانياً : الأصول والمباني :
إن وجود هدف سياسي مطلوب العمل على تحقيقيه ؛ لازمة مهمة من لوازم مسار بناء القوات ومراكمة الخبرات ، ، قد يتمثل ـ الهدف ـ في دفع تهديد أو ردعه ، أو تحقيق مصلحة أو الدفاع عنها ، وحيث أن هذين الأمرين ـ التهديد ، والمصلحة ـ يتعدى نفعهما أو ضررهما على المجموع ؛ لذلك وجب التفاهم عليهما ، وتعريفهما بشكل دقيق ، ليتسنى حشد كامل قدرات الأمة ، أو الإطار السياسي خلفهما ، كون عدم التفاهم والتعريف الدقيق لهذه الأمور والمباني ، هو مظنة الاختلاف والافتراق ، المفضي إلى الفشل والشقاق .
إن الهدف السياسي المتمثل بدفع التهديد ، أو تحصيل المصلحة ، ما هو أمر تجريدي إنشائي ، وضعته أو تضعه المستويات العليا للإطار السياسي ، وتَعهد به إلى جهات اختصاص لتحوله إلى مفاهيم عملية ، وإجراءات تنفيذية ، وما لم تكن هذه الجهات صحابة اختصاص ، ومن أهل الفن و ( الكار ) فإنها لن تستطيع أن تحول ما عُهد لها به من تكليف سياسي ، إلى إجراءات عمل واضحة ، مفهومة ، قابلة للرؤية والقياس ، فضلاً عن القدرة على تنفيذها وتحقيقها عملياً .
فالمرء عدو ما يجهل ، والمعرفة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق ، أو اكتساب المعلومة عن طريق التجربة ، وحيث أننا نتحدث كما أسلفنا سابقاً عن مسار بناء القوات في شقه العسكري ، فالمعرفة هنا المقصود بها أولاً : معرفة المهمة التي أوكلت لنا ، وثانياً : العدو الذي سنواجهه ؛ نقاط ضعفه وقوته ، وثالثا : البيئة التي سنعمل فيها ، وما فيها من فرص وتهديدات وما سيشغل فيها من قدرات ، ورابعاً : معرفة الذات ؛ قوة وضعفاً . فبدون هذه المعرفة ؛ فلا مسار ولا قوات ! وإنما حاطب ليل قد يضم إلى حطبه كثيراً من الحيّات .
يلى التحديد والتعريف والاشتقاق والمعرفة ؛ مرحلة ترتيب الأوليات ، ووضع الضوابط والسياسيات ، فمصادر القدرة محدودة ، وأوليات المجتمع أو الحركة أو الحزب كثيرة ، وليس كل ما يُطلب يُنال ، والعمل بدون ضوابط وسياسيات ، قد يفضي إلى مفاسد أكثر مما يحقق من مصالح ، لذلك يجب أن تحدد الأوليات بناء على المُهم العاجل ، والذي يتوقف على إنجازه ، إنجاز ما بعده ، والمعيار الرئيسي في ترتيب هذه الأوليات ووضع السياسيات هو : ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب .
قلنا أن مصادر القدرات محدودة ، فليس هناك أحد مطلق القدرات ، غير محدود المصادر ، فالكل لديه من المحددات ما قد يحول دونه وتنفيذ ما لديه من رغبات ، لذلك فإن تخصيص القدرات له الأثر الكبير في مسار بناء القوات ، ومراكمة الخبرات ، فإن تم التخصيص بناء على أوليات مرتبة بشكل صحيح ؛ قُطع المسار بسلاسة ، وهدوء ، وبأقل الأكلاف والخسائر ؛ واعتساف الأوليات والسياسات ، يعني تضيعاً للقدرات والإمكانات .
ومن لوازم مسار بناء القوات ، تقسيمه إلى مراحل ، بحيث تنتهي كل مرحلة بهدف محدد دقيق ، يراعي أصل الهدف الذي من أجله وضع المسار ـ كبح تهديد أو تحقيق مصلحة ـ ، فتُسلم المرحلة السباقة الراية للمرحلة اللاحقة ، فــ ( يهضم ) ويستوعب في كل مرحلة ما حيز من قدرات ، وما حُصّل من إمكانات ، فيتجانس الخليط ، ويقوي بعضه بعضاً ، ثم يُنتقل إلى المرحلة التالية ، بعد أن قيمت المرحلة الخالية ، وهكذا إلى أن تُحصّل المصالح ، أو تدفع المخاطر .
إن مسار بناء القوات هو مزيج من قدرات بشرية ، وأخرى مادية ، ونقطة ارتكاز المسار ومناطه الأصلي هو العامل البشري ، وهو ـ العنصر البشري ـ مركز الثقل الذي سيحمل كل البناء المنوي بناؤه ، والمسار المطلوب السير فيه ، لذلك يجب إيلاء هذا العنصر الأهمية اللازمة ، وأن يقدم على ما سواه من مكونات ومتطلبات ، إن العنصر البشري هو رأس مال كل كيان سياسي أو اجتماعي مُتصور ، فبقدر ما تعطيه ؛ يعطيك ، وبقدر ما تستثمر فيه ؛ يُجزيك .
وحيث أننا نتحدث عن مسار ، فهذا يعني ضرورة وجود جداول ومدد زمنية يتعين أن تنجز فيها الأعمال ، وتقضي فيها المصالح ، وهنا لا يجب أن يقع متعهدي الأعمال تحت ضغط الوقت ؛ فيحرقوا المراحل ، فينتقلوا من مرحلة إلى أخرى قبل تحقيق الأهداف وتثبيتها وتقويتها للبناء عليها ، فإن (المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) ، وهذا لا يعني التسويف و( المطمطة ) غير اللازمة والضرورية ، وإنما المطلوب التأني والتحقق من تثبيت الإنجاز ـ تثبيت الإنجاز قد يكون أهم من الإنجاز ذاته ـ ، قبل الانتقال إلى الهدف التالي ، أو المرحلة التالية .
ومن الأمور واجبة الرعاية في مسار بناء القوات ؛ ما يعرف بـ " الغموض البناء " ، فالموقف ليس موقف ( فشخرة ) و ( شوفينا يا بنت عملي ) ، إنما الموقف ؛ موقف تربص وتكتم على ما يتم بناؤه ، ومراكمته من قدرات ، لتحقيق مفاجأة العدو ؛ وإن كان لابد من إرسال رسائل فيها معانٍ للقوة ، لردع العدو وإحباط مخططاته الاستباقية ؛ فالكشف يكون بقدر ما يتطلبه الموقف ، ومعيار العمل هنا والميزان الذي يوزن به الإجراء هو ميزان الجدوى والأكلاف .
وحتى يجدي مسار بناء القوات ، ويحقق ما من أجله صُمم ؛ وحتى لا ندخل مع العدو في سباق هو أطول منا نفساً فيه ؛ لا يجب دفع العدو لتغير إجراءاته بشكل سريع ، بحيث لا نصل معه ـ العدو ـ إلى موقف لا يجدي فيه مراكمة قدرات أو تحصيل خبرات ، فعندما يعلم العدو بدخول أداة قتال معينة ، أو تفعيل تكتيك خاص ؛ سيلجئ إلى تغيير إجراءاته ، وتحصين قدراته ، فإن كنا قد استخدمنا سقف قدراتنا ، وأهم إجراءاتنا ؛ فهذا يعني أن العدو سوف يعاود تقييم إجراءاته بناء على ما شاهد أو لمس أو أحس من تغيير في قدراتنا ، عندها سيذهب ما روكم من قدرات ، وتجمع من خبرات أدراج الرياح ، لذلك يجب المحافظة على أصل التمين الشامل ـ أمن الأفراد ، أمن المعلومات ، أمن المقرات والقدرات والإجراءاتـ .
إن مسار بناء القوات مرتبط ارتباطاً عضوياً بالهدف الذي يراد تحقيقه ، والبيئة التي تحتضنه وينمو فيها ، لذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار مصالح الحاضنة الشعبية التي ستقدم أهم عنصر من عناصر هذا المسار ، ألا وهو العامل البشري ، وهي ـ الحاضنة ـ التي ستوفر لمركبات القوة المادية عناصر الحماية والتأمين الذاتية ، وهي من سيحافظ عليها من عبث العابثين ، ونحن والعدو في صراع على من يستميلها إلى جانبه ، لذلك يجب رعاية ملاحظاتها ورأيها ، وبما يسمح به الموقف ، ولا يخرق أصل التأمين والشامل المشار له سابقاً ، كما يجب أن يخصص لها من الإمكانيات ما يساعد في صمودها ويدعم بقائها .
ومما يساعد على إنجاز وطي هذا المسير بحيث يحقق أصل الهدف منه ؛ عدم وضع الجهاز التنفيذي تحت ضغط الإنجاز ، فالقدرات حتى تستخدم على أفضل وجه صممت له ؛ يجب أن يتم ( هضمها ) ومعرفتها بشكل دقيق وحِرَفي ، والخبرات حتى يُطمأن لها ويركن عليها ؛ يجب أن تأخذ بعدها ، وتتجذر في البناء ، وهذا كله بحاجة إلى عامل الوقت الذي يزيد من معرفة القدرات ، والثقة بالذات .
كما أن رعاية أمن ( سلاسل ) التوريد والتزويد والإدامة لهذا المسار ، من الأمور التي تساعد على طيه بنجاح وبأقل الأكلاف ، فالعدو سيجلس لنا في الطريق ، وسيقطع علينا المسارات ، وسيُكثر من مصائد (المغفلين) التي سينثرها يمنة ويسرى ، وستكثر حقول الألغام ، لذلك فأصل التامين الشامل ـ لن نمل من ترديده ـ هو أبو الأصول وأمها في مسار بناء القوات ، وإلّا ؛ فمصائد وعثار وعوائق ، تنهك السائر ، وتبدد المصائر ، وتستنفد القدرات ، في غير جدوى أو ( منفعات ) .
ومما يحافظ على السائر أن لا تضل به السبل ، ويحافظ على الموارد فلا تبدد في غير مكانها ، وعلى الأوقات فلا تستنفد في غير إنجاز ؛ حُسن الرقابة المهنية على السائر والمسير ، فالمنخرط في الأعمال اليومية التنفيذية لا يلتفت إلى ما يعترض طريقه أو يتربص به من مخاطر ، وقد يبدأ بالانحراف عن مساره الأصلي ، فلا يصل إلى هدفه المنشود ، وما لم يُنبّه ويُحذّر ؛ فسيجد نفسه شرقاً حيث كان القصد غرباً . والرقابة ليست باباً لتصيد الأخطاء ، ولا لـ ( تعليم ) على أحد ، وإنما هي إجراءٌ الهدف منها تجويد الأداء ، والإضاءة على التقصير ليتلافى مستقبلاً ، فلا تهدر الطاقات ، ولا تبدد القدرات في غير فائدة ترجى ، ولا غاية تنال .
نختم بلازمة أي عمل ، وضرورة أي شُغل ، ألا وهي لازمة تقييم الأعمال ، واستخلاص الدروس والعبر ، حتى لا تتكرر الأخطاء ، ويستفاد من عناصر القوة والفاعلية التي أفضت إلى النجاح ، فتُعمم حيث يقتضي الموقف أن تعمم ؛ فتختصر المسافات ، ويحافظ على القدرات والإمكانات ، وتنجز المهام على أكمل الوجوه وأحسنها .
كانت هذه بعض أهم الأصول والمباني في مسار بناء القوات ومراكمة الخبرات ، قد يضاف عليها مثلها ، وبما يتناسب مع المواقف المتغيرة . والحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق الناس بها . والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون .
عبد الله أمين
11 06 2024