لا تبدو "الدولة" العبرية في وضع يسمح لها بإملاء شروطها على المقاومة الفلسطينية أو المقاومة في لبنان وسائر المنطقة بعد ثمانية أشهر ونصف من عمر الحرب، إذ إن هذه "الدولة" التي تفتقد إلى العمق الاستراتيجي الذي يحميها من الانكشاف أمام أعدائها تعاني مشكلات عديدة وصعوبات جمّة في كل جبهات القتال بدءاً من رفح حيث عدّاد الخسائر البشرية يرتفع صعوداً بشكل كبير، على الرغم من المحاولات الحثيثة التي تقوم بها الرقابة العسكرية في "جيش" الاحتلال لإخفاء القسم الأكبر من تلك الخسائر، والتي تفضحها بيانات المشافي الإسرائيلية ووسائل التواصل الاجتماعي الصهيونية، وليس انتهاءً بالجبهة الشمالية مع جنوب لبنان حيث ارتفاع وتيرة القتال إلى مستويات قد تبدو معها إمكانية انفجار واسع لتلك الجبهة واردة جداً.
ويُضاف إلى ذلك التفكّك الواضح على مستوى الجبهة الداخلية في "دولة" الكيان والذي كانت أحدث فصوله انسحاب وزيري الحرب والأركان السابقين: غانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب، إضافة إلى رفض كل من جدعون ساعر وأفيغدور ليبرمان الحلول مكانهما، بل ومطالبتهما نتنياهو بالاستقالة فوراً وتحميله سبب الفشل في منع أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام المنصرم، إضافة إلى إخفاقه في التعامل مع تداعيات تلك الأحداث وفشله في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة ضد قطاع غزة.
أحدث المؤشرات التي تشير إلى تفاقم الأزمة التي تعاني منها "دولة" الاحتلال هو ما أعلنته هيئة البث في الكيان الصهيوني قبل يومين، وكشفت من خلاله أن "جيش" الاحتلال يدرس إنهاء هجومه العسكري على مدينة رفح بعد أسبوعين من الآن، حيث يكون قد مر على انطلاق هذا الهجوم أقل من شهرين، في حين أن مصادر إسرائيلية عديدة من بينها قيادات عسكرية وازنة كانت قد أشارت في بداية الهجوم إلى أنه سيستمر لمدة أربعة أشهر على أقل تقدير، في ظل حاجة "إسرائيل"، حسب وصفهم، إلى تحقيق إنجاز لافت في المدينة الحدودية، لا سيما على صعيد تدمير الأنفاق الممتدة من القطاع في اتجاه الأراضي المصرية، أو استعادة بعض من الأسرى الصهاينة الذين ادعت أجهزة استخبارات العدو أنهم موجودون في رفح، بالإضافة إلى السيطرة على معبر رفح البري ومحور صلاح الدين "فيلادلفيا" بين قطاع غزة ومصر.
في العملية العسكرية المتواصلة في رفح اضطر "جيش" الاحتلال إلى تغيير تكتيكاته القتالية أكثر من مرة، إذ نفّذ عملية التقدّم البري الأولى قبل شهر ونصف تقريباً، انطلاقاً من الحدود الشرقية للمحافظة، مهاجماً مناطق الشوكة والجنينة والسلام ومحيطها، وهي مناطق لا تملك كثافة سكانية مثل مناطق الوسط على سبيل المثال، إضافة إلى شمولها على مناطق زراعية واسعة، وهو الأمر الذي ساعد قوات الاحتلال في التوغل إلى داخلها بعد حملة من القصف الجوي والمدفعي العنيف الذي أدى إلى سقوط مئات الشهداء، وإلى دمار واسع في المنازل والمنشآت.
بيد أن حجم الخسائر التي تكبّدها "جيش" العدو عندما اقترب من وسط مدينة رفح، حيث أحياء البرازيل وتل زعرب والشابورة، وصولاً إلى تل السلطان أكبر أحياء المدينة وأكثرها سكّاناً دفعه إلى تغيير خطة الهجوم، إذ تراجعت قواته في اتجاه الجنوب الشرقي من المدينة حيث الشريط الحدودي مع مصر، والذي يشكّل محور صلاح الدين جزأه الأساسي وتقدّمت انطلاقاً منه بمحاذاة الحدود في اتجاه غرب رفح حيث التقاء نهاية شارع الرشيد بالحدود المصرية، من ثم اتجهت شمالاً إلى الحي السعودي والتفت مرة أخرى انطلاقاً منه في اتجاه الشرق على شكل "حدوة حصان " مهاجمة منطقة الحي السعودي بأقسامه الثلاثة، وصولاً إلى النواحي الغربية من منطقة تل السلطان التي تجري فيها أعنف الاشتباكات خلال الأيام الأخيرة.
هذه المناورة التكتيكية التي جاءت بعد الإخفاق في التوغل إلى قلب رفح من الناحية الشرقية، والتي رافقها سقوط عدد كبير من الخسائر في صفوف قوات الاحتلال، نجحت بصورة نسبية في الوصول إلى قلب مدينة رفح، وإن كان ليس من خلال السيطرة المطلقة على مجمل المدينة، ويبدو أن الغرض منها هو الإعلان عن الوصول إلى كل أحياء رفح بصرف النظر عن إمكانية البقاء فيها، أو فرض سيطرة عملياتية أو مطلقة عليها بما يعني الاستفادة من اللحظة لغرض الدعاية الإعلامية فقط من دون الحصول على أي إنجازات ميدانية حاسمة أو تحقيق أيٍ من الأهداف التي تم الحديث عنها منذ أكثر من خمسة أشهر، حيث كانت التهديدات باحتلال رفح على أشدّها إذ تم تصويرها آنذاك بأنها ستشكّل صورة النصر الناجز لـ"جيش" الاحتلال.
اليوم، وبعد الإعلان الإسرائيلي عن إمكانية إنهاء العملية العسكرية في رفح في غضون أسبوعين من الآن مع بقاء القوات الغازية في معبر رفح ومحور صلاح الدين، إضافة إلى محور "نتساريم" وسط القطاع في خطوة تهدف إلى الحفاظ على ماء وجه نتنياهو و"جيشه" فقط تبدو مهمة القيادة السياسية في الكيان الصهيوني في سوق
مبررات لاستمرار العدوان على غزة صعبة ومعقّدة، إذ إن أسباب استمرار الحرب باتت غير واقعية، خصوصاً بعد انخفاض سقف التوقعات في إمكانية تحقيقها لما عجزت عنه خلال الشهور الماضية، إضافة إلى حالة المراوحة التي باتت تعاني منها العمليات العسكرية وحالة الإحباط غير المسبوقة التي بدأت تسيطر على جنود الاحتلال الموجودين في القطاع، وهو ما دفع نسبة كبيرة منهم سواء الذين أنهوا فترة القتال، خصوصاً من جنود الاحتياط أو الذين ما زالوا في مواقعهم القتالية إلى التوجه إلى عيادات الإرشاد النفسي للحصول على استشارة نفسية، حسب إعلان الصحافة الإسرائيلية.
وهنا، يبرز السؤال الأساسي لماذا هذا التعجّل في إنهاء العملية العسكرية في رفح، رغم عدم تحقيق أي إنجاز لافت ومهم؟ ولماذا صدر هذا الإعلان عن "الجيش" وليس عن القيادة السياسية في الكيان الصهيوني؟ وهل هذا الإعلان حقيقي فعلاً؟ أم أنه مجرد بروباغندا إعلامية تهدف إلى لفت الأنظار عن تحرك إسرائيلي معيّن في منطقة أخرى من قطاع غزة.
من ناحية أخرى، هل لهذا الأمر علاقة بالتصعيد اللافت على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، والتي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في نسق العمليات الهجومية التي يشنّها حزب الله في اتجاه المواقع العسكرية الصهيونية، والتي بلغت ذروتها خلال الأيام الأخيرة بعد اغتيال القائد الجهادي الكبير "أبو طالب " في غارة على بلدة جويّا في الجنوب اللبناني؟ وهل يمكن اعتبار ذلك أحد إرهاصات قرب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين المقاومة و"دولة" الاحتلال، لا سيما بعد الرد الحاسم والواضح الذي قدمته المقاومة للوسطاء في مصر وقطر، والذي أكدت فيه مطالبها المحقّة والمشروعة التي تهدف إلى وقف العدوان ورفع الحصار والبدء في إعادة الإعمار، إضافة إلى الذهاب نحو إنجاز صفقة تبادل للأسرى يُفرج بموجبها عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، لا سيما من أصحاب المحكوميات العالية والمؤبدات، إضافة إلى الأسرى من النساء والأطفال والمرضي.
في اعتقادي أن أحد أهم الأسباب التي دفعت "دولة" الاحتلال إلى الذهاب في اتجاه هذا القرار في حال تنفيذه هو استمرار الإخفاق في الميدان، إذ إن كل المؤشرات ومن بينها ما تنشره وسائل إعلام إسرائيلية عن فشل عملياتي متواصل أدى إلى مزيد من السقوط للسردية الصهيونية التي تتحدث عن شدة بأس جنود هذا "الجيش" الذي قيل سابقاً إنه لا يُقهر وإلى انهيار ما تبقّى من قدرة الردع التي تغنّت بها خلال عشرات السنين وسائل الإعلام الإسرائيلية وأخواتها من وسائل الإعلام "المنبطحة "، إلى جانب العزلة الدولية التي باتت تعاني منها "دولة" الاحتلال وقيادتها العسكرية والسياسية والتوقعات بإصدار مذكرات اعتقال بحق كل من نتنياهو وغالانت قد أدت إلى الوصول إلى قناعة ثابتة بعبثية استمرار هذه الحرب، وإلى عدم نجاح الجهود العسكرية الرامية إلى تحقيق إنجازات حاسمة في الميدان بما يمكن استغلاله سياسياً في الوصول إلى اتفاق يضمن حصول "دولة" الكيان على صورة النصر التي تبحث عنها، ويعطي أيضاً حكومة نتنياهو المتطرّفة مزيداً من القوة والمنعة للاستمرار في الحكم، وهو الأمر الذي يمكن النظر إليه بأنه أحد أهم أسباب استمرار الحرب كل هذه المدة الطويلة. ومن هنا، يمكن لنا أن نلحظ أن تكفّل "الجيش" الصهيوني بالإعلان عن هذا المقترح أو التوصية يهدف في الأساس إلى رفع الحرج عن المستوى السياسي في "الدولة"، وخصوصاً عن رئيس الوزراء وباقي ائتلافه الحاكم، وهي أي هذه التوصية، تهدف إلى تمهيد الطريق لهذا الائتلاف للنزول عن الشجرة والقبول لاحقاً بما تم الإعلان عنه أكثر من مرة من مقترحات وصيغ لوقف إطلاق النار، والتي كان يُفشلها ويُسقطها في كل الأوقات نتنياهو المأزوم ومن وراءه الأحمقان بن غفير وسموتريتش اللذان يحاولان بمواقفهما المتشددة الحصول على مزيد من أصوات المتطرفين في "إسرائيل " في حال أجريت انتخابات برلمانية جديدة، كما هو متوقع بعد نهاية الحرب وسقوط حكومة نتنياهو.
السبب الآخر الذي يُلقي بظلال قاتمة على استمرارية العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة ويدفع حكومة الحرب المجرمة ومن قبلها الإدارة الأميركية المشغولة بملفات أخرى ربما تراها في بعض الأحيان أكثر أهمية مثل الانتخابات الرئاسية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، إضافة إلى الحرب في أوكرانيا والتي تشهد تقدّماً روسياً ملموساً خلال الشهور الأخيرة في العديد من محاور القتال، إلى جانب التحدّي الصيني والذي يشكّل هاجساً مرعباً لكل الساسة الأميركيين ومراكز الحكم في أقوى دولة في العالم، هو التصعيد اللافت الذي تشهده جبهة القتال في شمال فلسطين المحتلة، والتي باتت تؤرق بشكل غير مسبوق كل أجهزة اتخاذ القرار في "دولة" الاحتلال وهي، وعلى الرغم من إعلاناتها المتكررة عن حيازتها الجاهزية القتالية التي تسمح لها بشن حرب شاملة ضد لبنان تُعيده إلى العصر الحجري على حد توصيف وزير الحرب المحبط والمشتّت يؤاف غالانت، فهي تعرف أكثر من
غيرها أن هذه الحرب في حال اشتعالها ستكون مختلفة تماماً عما جرى في قطاع غزة أو حتى في حرب تموز 2006.
إذ إن التكلفة التي ستدفعها "دولة" الاحتلال على كامل الجغرافيا المحتلة من الشمال وحتى أقصى الجنوب ستكون هائلة وغير مسبوقة، وهي أي هذه الخسائر ستدفع حتماً مئات آلاف الإسرائيليين إلى الهرب من أماكن سكناهم في اتجاه أوروبا وأميركا، وهو الأمر الذي يشير إليه التهافت الواضح من قبل المستوطنين الصهاينة للحصول على جوازات سفر أجنبية، وقيام الكثير منهم بتحويلات بنكية نحو مصارف غربية وأميركية تحسباً لانهيار الاقتصاد في "إسرائيل "، والذي يُتوقع له حسب مراكز بحث متخصصة الدخول في حالة من الركود غير المسبوق، سواء بعد انتهاء الحرب على غزة نتيجة تكلفتها الباهظة، أو في حال انفجار حرب إقليمية واسعة في المنطقة، كما تتوقع الكثير من المصادر.
الحرب مع لبنان وتحديداً مع حزب الله بما يمثله من قوة عسكرية حديثة ومتطورة إلى جانب المشاركة المتوقعة من كل قوى محور المقاومة في الإقليم لن تكون نزهة، كما أطلق عليها رئيس وزراء العدو السابق إيهود باراك، وهو الذي خبر لبنان جيداً، ويعرف ما الذي يعنيه اشتعال حرب واسعة معه في هذا الوقت الذي يشهد تطوراً هائلاً في قدرات قوى المقاومة في الإقليم، والتي ظهر بعض جوانبها في الأشهر الأخيرة، وهي لم تعمل سوى بأقل من خمسة في المائة من قدرتها الكاملة، ولم تستخدم إلا النزر اليسير من إمكانياتها العسكرية، والتي ستكون كفيلة بوضع "دولة" الاحتلال، رغم ما تملكه من إمكانيات نوعية وحديثة في وضع لا تُحسد عليه، وهو الأمر الذي يمكن أن يدفع حليف "إسرائيل" الاستراتيجي إلى التدخل بشكل مباشر، إما لوقف الحرب من خلال الجهود السياسية كما هو مُتوقع، أو بالقوة العسكرية والتي تعني ذهاب المنطقة إلى المجهول، وهو ما لا ترغب فيه حتماً الإدارة الأميركية، وتحديداً في هذه الأوقات.
وبالتالي، نحن نعتقد أن "دولة" الاحتلال لن تذهب في اتجاه مواجهة واسعة مع حزب الله في لبنان، بل يمكن أن تستغل التصعيد اللافت على تلك الجبهة لتبرير ذهابها إلى اتفاق ينهي الحرب في غزة، ويُخرج نتنياهو وحليفه الأميركي من الحرج الذي وضعا نفسيهما فيه أمام كل العالم بصرف النظر عن مستقبل نتنياهو بعد انتهاء الحرب، والذي يمكن له أن يتحوّل في لحظة واحدة إلى كبش فداء يتحمّل أوزار الفشل، ويدفع هو وائتلافه الفاشي أثمان الإخفاق. وأنا أهمّ بكتابة خاتمة هذا المقال، سمعت بالأخبار الواردة من رفح والتي تتعلّق باستهداف ناقلة جند إسرائيلية من نوع النمر ما أدى إلى مقتل ثمانية جنود صهاينة، هذا الأمر بلا شك سيصبّ مزيداً من الوقود على نار الفشل الصهيوني، وسيخلط مزيداً من أوراقه أيضاً، وهو الأمر الذي يمكن أن يدفعه إلى إنهاء عمليته العدوانية في قلعة الجنوب قبل الأسبوعين المنصوص عليهما في توصيات قيادة "الجيش".
على كل حال، نحن نعتقد أننا بتنا قريبين جداً من انتهاء هذه الحرب الإجرامية التي تُشن ضد الشريط الساحلي الصغير في قطاع غزة، وأن المحاولات الصهيونية لإطالة أمد هذه الحرب من خلال التهديد بسيطرة ميدانية مستدامة على بعض المحاور فيها لن تفلح في جبر الضرر الذي أصاب كل مناحي الحياة في هذه "الدولة" المارقة، والذي ألقى بظلال قاتمة على مجمل المشروع الصهيوني في المنطقة، هذا المشروع الذي فقد أحد أهم عوامل القوة لديه وهو قدرة الردع وفتح الباب على مصراعيه لإمكانية تفكّك هذه "الدولة "في المستقبل القريب، على الرغم من حجم الدعم الذي تتلقّاه من كل قوى الشر في أرجاء المعمورة، والذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية أكبر رعاة الإرهاب في العالم.