معادلة أنت تعلم .. وأثرها في ردع العدو شمالاً

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً : مقدمة

إن المراقب لتطورات المشهد الإقليمي ، وما يشهده من توترات ناتجة عن تطور " معركة طوفان " الأقصى ، واستطالة زمنها ، وتعدد المشاركين فيها ، الأمر الذي أدى إلى حالة ( التهاب ) عالية المستوى في الإقليم والعالم ، وما يصاحب مثل هذه المواقف من كثرة الأسماء والمسميات ، وتعدد جهات المراقبة وطرح التحليلات والتقديرات ؛ فهذا خبير استراتيجي ، وذاك مختص في الشؤون العسكرية ، وثالث له باع في شؤون العدو الداخلية والخارجية ، ورابعٌ خريج معاهد وجامعات عسكرية ، وله من حصيلة الدورات ، ما ضاقت به جدران المكاتب من كثرة ما علق عليها من شهادات ، وكل يدلى بدلوه ، ويلقي بحججه ، ليثبت صحة فهمة ، وصواب رأيه . ومع كل التقدير لكل هذه المسميات وحامليها ، والاعتراف بأهمية ما يقومون به ويقدمونه من آراء ونظريات تساعد في فهم الواقع وفك ( طلاسمه ) ؛ إلّا أننا لا يجب أن يغيب عن بالنا أن جميع هؤلاء السادة المحترمين ، وأثناء مقاربتهم للمسائل التي يتحدثون عنها ، خاصة إذا ما كانت عسكرية أو أمنية ، فإنهم يتعاملون مع ظاهر النصوص التي يقرأون ، ومع القشرية الخارجية للمواقف الأمنية والعسكرية التي يراقبون ، حيث لا يُظنُ أن أحداً منهم حاز ـ وقد يكون ـتقريراً داخلياً مفصلاً من غرفة عمليات الجهات المتحاربة ، فهو يبني عليه تحليله أو تقديره للموقف ، وإنما خلاصة جهد هؤلاء الكرام هو محاولة قراءة ما بين سطور ما ينشر من بيانات رسمية ، أو يبث من أفلام ومقاطع تصويرية ، أو ما تصرح به الجهات الفنية ، في جهد أقرب ما يكون إلى محاولة تجميع (فتات ) الصورة ، وقطع ( البزل ) المتناثرة هنا وهناك . وهنا قد يخطئ بعضهم في قراءة المشهد ، وقد يصيب ( وانت وشطارتك ) وما تملكه من علاقات وخبرات وأدوات ، تمكنك من القراءة الصحيحة ، ومن ثم التحليل والتقدير الأصح .   

أما أهل الشأن على طرفي الحرب والنزاع ، فشأنهم آخر ، فهم لا يتعاملون مع ظواهر النصوص ؛ فهم من يكتبونها ، ولا يحتكون مع القشرة الخارجية للمواقف ؛ فهم من يصنعونها ، لذلك هم يتعاملون مع معلومات ومعطيات ، لذلك لا تراهم يخرجون محللين ، ولا معلقين ، وإنما يقفون أمام شاشات التلفزة وخلف الكمرات يدلون ببيانات ، ويصرحون بأرقام وحقائق ساطعات . لذلك فهم يعلمون ما يعلم العدو عنهم ، ويعلم عدوهم ما يعلمونه هم عنه ، فدأب الطرفين ( البحبشة والنكوشة ) كل خلف غريمه ، لا ينامون إذا نام الناس ، ولا يطمئنون إذا اطمئن المتفائلين . ويبني كلا الطرفين ( علاقة ) عمل وفهم متبادلة قائمة على معادلة تقول : أنت تعلم أننا نعلم أنك تعلم ، ونحن نعلم أنك تعلم أننا نعلم . إن هذه الورقة سوف تحاول شرح هذه المعادلة ، وفك هذا ( الطلسم ) ، حيث يعلم كاتب هذه السطور أن في فهم هذه المعادلة وما تقتضيه ، ما يساعد على فهم كيف يفكر ـ وليس ماذا سيقرر ـ المتخاصمون والمتحاربون ، الأمر الذي يريح من عناء المتابعة التفصيلية والجزئية ، التي لا تساعد كثيراً في الفهم ، إن غابت عن الذهن الصورة الإستراتيجية الكلية .   

ثانياً : جوهر المعادلة :

جوهر المعادلة باختصار ، أن ( رادارات ) المراقبين الخارجين غير المنخرطين فعلاً في الموقف المُراقب ، وإن بلغت من الحسن والدقة والحساسية ما بلغت ؛ فهي تبقى من النوع ( التجاري ) المتاح لكل من يريد الشراء من الأسواق المحلية ، لذلك فهي لا يمكن أن تلتقط كامل ما يمر عبر طيفها من إشارات وقرائن تحل المعضل وتشرح المُشكل . أما رادارات المتحاربين المخضرمين ؛ فهي من النوع (النظامي ) الذي صُنع من أجل التقاط كل ما يعبر طيفه ، بل أكثر من ذلك ؛ إنها قادرة على ( لَم ) وإحصاء الأنفاس وخلجات ( القلوب ) ولا يمكن أن يعبر شيء من تحتها دون أن تراه أو تحس به ، فضلاً عن توقع مروره ابتداء ،  خلوصاً إلى توقع النوايا ـ جوهر عمل ضابط الاستخبارات معرفة نوايا العدو ـ . لذلك هم ـ المتخاصمون ـ لا يجمعون أخباراً ؛ بل يراكمون معلومات صلبة ، ومعطيات حقيقية عما لدى الآخر ، وكيف يفكر ، وكيف يتخذ القرار ، وما هي محددات وضوابط عمله ، لذلك كل منهم يعرف عن الآخر ما يريد أن يعرف ، وهنا يكمن الفن ، ويظهر التوفيق الإلاهي في دقة بناء المعادلة المشار لها سابقا ً . 

ثالثاً : مقتضى المعادلة

بناء على ما تقدم ، فإن مقتضى هذه المعادلة ، وما يبنى عليها يمكن أن يُختصر بمعرفة الذات ؛ حقا ً وحقيقة ، ومعرفة العدو الدقيقة ، ومن ثم البناء على مقتضى هذه المعارف والحقائق ، تحقيقاً لردع العدو ، وإلّا فالصراع معه بما يقتضيه الموقف ، بحيث تحقق الأهداف ، وتنال الغايات ، بأقل الخسائر والأكلاف ، ولا ندخل في نفق لا نعرفه آخره ولا نرى نوراً في منتهاه . وهنا نشير بشكل سريع لمقتضى هذه المعادلة لدى المقاومة الإسلامية في لبنان " حزب الله " ، والعدو الغاصب في الكيان المؤقت ، مسقطين الفهم السابق ، على التحليل اللاحق ، مبتدئين الحديث بصفحة " حزب الله " وما يعلم أن عدو يعلمه عنه ،  ثم نختم الحديث عن العدو في الكيان المؤقت ، وما يعلم أن حزب الله يعلمه بدوره عنه . لكن قبل البدء في التفصيل ؛ لا بد من الإشارة بشكل سريع إلى أن العلم والمعرفة الذي نزعم أن كلا الطرفين يعرفه عن الآخر ، إنما هو علم نسبي ، وليس كلي تفصيلي ، فليس من المُتصور أن أي عدو يعرف عن عدوه علماً تفصيلياً ( ما بخرش المي ) ، حيث يبرز هنا دور أجهزة الأمن والحماية والوقاية ، لجعل منسوب المجهول عند العدو عنا ، أكثر بكثير من المعلوم .  

  1. أنت تعلم أننا نعلم أنك تعلم

في هذا الشق من المعادلة ؛ ماذا يعلم حزب الله أن عدوه اللدود في الكيان المؤقت يعلمه عنه ؟ إن طبيعة الأشياء ، والمعرفة في هذا العدو الصائل ، ومنطق الصراع وما يحكمه من ديناميات ، يجعلنا نُقدر أن " حزب الله " يعلم أن العدو يعلم ـ وبشكل نسبي ـ عنه الأمور ما يأتي : 

  1. ما لديه من قدرات

فهذا تفرضه طبيعة الأمور ، ومنطق ومنطلق الصراع ، فماذا يعرف العدو عن عدوه ، إن لم يعرف أولاً وقبل كل شيء ، ما لديه من قدرات ، وما راكمه من خبرات ، ولهذا تبني الدول المؤسسات الأمنية ، والوحدات والتشكيلات الاستخبارية ، لتجيب لها على سؤال : ماذا يملك عدونا من قدرات وخبرات ؛ كماً ونوعاً . 

  1. نقاط ضعفه وقوته

كما تنشغل أجهزة أمن العدو ، وهيئات تقديره ، من خلال ما تجمعه من معطيات ، وما تقوم به من تحليلات ، وما تزرعه في داخل جسم عدوها ، أو في محطيه ، تنشغل في البحث عن نقاط ضعف هذا العدو ، لتستهدفه منها ، كما تُعنى بمعرفة نقاط قوته لتتقيها ، ضمن سياقات عمل لا تنتهي ، حتى لو انتهى العداء ، وصمتت المدافع ، حيث تبقي هذه الحركة دون توقف ، وبلا كلل أو ملل . 

  1. حضور الإرادة في اتخاذ القرارات

ولا تكفي القدرات ، إن لم تصاحبها إرادات ، فـ " حزب الله " يعرف أن عدوه يعرف أن قراره لتشغيل قدراته حاضر ، وأن الأمر للميدان ، وأن ما يراكمه من قدرات ، وما ينميه من خبرات ، ما هو إلّا ليوم كريه وسداد ثغر ، وليست هذه القدرات للاستعراض في المناسبات والاحتفالات ، ولا هي للأعراس والعَراضات . 

  1. أثر ما يملكه من علاقات على تعزيز ما في حوزته من قدرات

كما يعلم " حزب الله " أن عدوه عندما يستحضر قدراته ـ قدرات الحزب ـ الذاتية ، الممكنة التشغيل عند الحاجة ، يستحضر معها شبكة علاقات هذه التنظيم المقاوم الممتدة على طول الإقليم وعرضه ، وأن كثيراً من هذه العلاقات لها ثأر مع هذا العدو ، أو تتشارك مع الحزب في غايات وأهداف ، لذلك فقدرات هذه الجهات قابلة للتجيير لصالح المقاومة في لبنان ، وهي رهن إشاراتها عند الضرورة . وهذا ما يعلم الحزب أن العدو يعرفه عنه وعن علاقته بهذا القوى ، وتلك التنظيمات .  

  1. قدرة تحمل حاضنته للألم والصدمات

إن " حزب الله " يخوض صراعاً أمنياً وعسكرياً مع هذا المحتل الصائل ، منذ سولت له نفسه اجتياح لبنان عام 1982 ـ حتى لو لم يكن الحزب قد أعلن عن نفسه في ذاك الوقت ـ ، لذلك فإن هذا العدو يعرف مدى صلابة ، وقدرة حاضنة الحزب الشعبية على تحمل الآلام ، وتجشم الصعاب ، وتلقى الصدمات ؛ لذلك هو ـ العدو ـ لا يراهن على انفضاضها عنه ـ عن الحزب ـ أو تخليها عن مساندته ، الوقوف إلى جانبه . 

  1. ما يملكه من أدوات لتهديد من يعاجل العدو في النجدات :

كما يعلم "حزب الله "  أن العدو يعلم أنه ـ الحزب ـ قد أعد عدته ، وخصص قدرات للتعامل مع أي (متمرجل ) سوف يهب لنجدته ، ولن يكون هناك سقوف ، ولا محددات للرد على من يصنف نفسه في خانة صديق العدو ؛ ليصبح عدواً . وهنا فإن العدو لا يراهن على الآخرين ، ولا يرهن أمنه بقرار يأتي من طرف أو أطراف ، قد يخذلونه في أي حين . 

  1. نحن نعلم أنك تعلم أننا نعلم

أما في شق ما يَعلم العدو الغاصب لفلسطين ، أن عدوه اللدود المرابط شمالاً يعرفهُ عنه ؛ وبدون استعراض أو استحضار للأدلة والبراهين ؛ فهي أكثر من أن تحصي ( شفتو الهدهد الأخير ) ، فإن العدو يعلم علم اليقين أن " حزب الله " يعرف عنه : 

  1. نقاط قوته  ، ومَقاتل في ضعفه

فيكفي أن يقول " حزب الله " في بياناته " غوش دان " ليقف العدو على ( رجل ونص ) كونه ـ العدو ـ يعرف حكماً أن هذه المنطقة في فلسطين المحتلة تحوي أكبر تجمع بشري له جمع في بلانا ، فالحزب لا تحتاج إلى كثير عناء ، أو دقيق سلاح ليدفع ، بهذا التكتل البشري نحو أقرب مطار جوي أو ميناء بحري ، فهذه المنطقة من الاكتظاظ بمكان بحيث يصدق فيها قول المثل ( وين ما تظرب لكرع بسيل دمه ) ، والعدو إن تحمل خسائر مادية، ووجد من يعوضه عنها ؛ فهو لا ولن يتحمل خسائر بشرية تفقده أهم ركيزة لمشروعه الاستيطاني الإحلالي . 

  1. مراكز ثقله القيادة والإدارية 

كما يعلم العدو أن الحزب يعلم عن مراكزه ثقله القيادة والإدارية ، ومن أقصى شمال فلسطين المحتلة وحتى " أم الرشراش " جنوباً ما يمكن الإضرار به بالنار الدقيقة وغير الدقيقة ، بحيث يهتز (ثبات ) و (استقرار ) هذا الكيان المؤقت ؛ بل تتصدع ، لينهار بما فيه ومن فيه على من فيه . 

  1. هشاشتة الداخلية وعدم قدرته على تحمل الصدمات :

فهم لا يشبه بعضهم بعضاً ، وما يفرقهم أكثر بكثير مما يجمعهم ، والضغط عليهم يظهر الشقوق بينهم ، وفي أي حرب حقيقية تتسع لتشمل كامل فلسطين المحتلة ، فإن هؤلاء القوم سأيكل بعضهم بعضاً على طوابير الموانئ والمطارات ، فها هم يسنون السكاكين لبعضهم بعضاً وهم في منتصف حرب لم تأتي على أخضرهم ويابسهم ، فماذا نظن أن فتحت عليهم أبواب ( جهنم ) من الشمال ! عندها ؛ ( سلمني وخذلك عباة ) . 

  1. ضآلة عمقه الاستراتيجي وأثره على نتائج المعركة

فليس هنا فائض جغرافيا يُلجئ له ، ولا مساحات خالية تستوعب الهاربين ، والبحر إن أمّن لهم عمقاً استراتيجياً صناعياً ، يضمن لهم توجيه الضربة الثانية كرد على للضربة الأولى ، إلّا أنه لن يوفر لهم موطئ قدم ، ولا ملجئ آمناً يقيهم لهيب النار وحمم القذائف ، ولا النقب بصحرائها القاحلة ستفرش لهم بساطها الأحمر استقبالاً ، فقد زرعت بأهداف ظن العدو أنها ستكون في مأمن من نار المقاومة ؛ وإذا بها تكتظ بالأهداف ( الدسمة ) التي بدل أن يُلجئ إلى محيطها للاحتماء  ، سَيُفر من أجوائها طلباً للبقاء . مرابط خيله ودوره في أخذ القرارات

أما آخر ما يعلم العدو أن " حزب الله " يعلمه عنه ؛ فهو منظومة اتخاذ قراره ، وكيف تقرر القرارات الكبيرة ، وهل هناك ما هو أكبر من قرار الحرب مع محور يمتد من بيروت إلى صنعاء ؟ لذلك فإن محور اتخاذ مثل هذا القرار ، ونقطة ارتكازه الأولى هي أمريكا التي تدعي أن لها في منطقتنا ( مصالح ) وأن لها أهداف ستدافع عنها ، فإن كانت قبرص باشتراكها ببعض المناورات مع العدو استحقت تنبيهاً من السيد حسن نصر الله ، فكيف بأمريكا الشريك الأول لهذا العدو بعدوانه ، أستسلم (مصالحها ) المدعاة في غرب آسيا من أن تشملها نار المقاومة إن فكر العدو بشن حرب على مركز ثقل هذا المحور في هذه المنطقة ؟ إن مثل هذه المعرفة لدى العدو ، تدفع باتجاه تبريد الرؤوس الحامية عنده ا، وجعلهم يفكرون بـ  ( عقلانية ) أكثر ، وواقعية أكبر . 

نختم لنقول ، أمام معادلة المعرفة هذه ، وتَعلم ونَعلم ، وأمام ما تلتقطه الرادارات النظامية  للحزب وعدوه عن بعضهما البعض ، فإننا نعتقد أن مستوى الردع والرعب واللا اطمئنان لحسم أي مواجهة للعدو مع المقاومة الإسلامية في لبنان " حزب الله " ، تجعل هذا العدو يعد للمليون قبل أن يرتكب خطأ عمره ، فإن فعل ؛ (فالخير فيما وقع ) و ( كله خير ) و ( وجع ساعة ولا وجع كل ساعة ) . والله غالب على مره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . 


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023