لقد كان محقّاً سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، الخميس الماضي، عندما وصف القادة الصهاينة بالغباء، فهم وإن كانوا يمتلكون أحدث ما توصّل إليه العقل البشري من تكنولوجيا وتقنيات، إلى جانب أدوات وإمكانيات المجهول منها أكثر من المعلوم، فإنهم على الدوام كانوا يفتقدون إلى خاصيّة الذكاء، والمقصود هنا ليس الذكاء البشري الذي يجعلهم قادرين على حبك المؤامرات، وتصيّد الهفوات، أو حتى الذكاء الاصطناعي الذي يضعهم في مرتبة متقدّمة على مستوى العالم في هذا المجال، وإنما الذكاء الذي يمكّنهم من تجيير إمكانياتهم وتحالفاتهم الضخمة والهائلة من أجل تحقيق الأهداف التي يسعون نحوها، أو يحاولون الوصول إليها.
قبل شهرين تقريباً، توعّد وزير حرب الاحتلال يؤاف غالانت لبنان ومقاومته، كما جرت العادة منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر من العام الفائت، أي منذ اللحظة التي دشّن فيها حزب الله جبهته المساندة لقطاع غزة، توعّد بأن الدبابات الإسرائيلية التي ستخرج من رفح -بعد تحقيق الانتصار الحاسم طبعاً – ستصل إلى نهر الليطاني جنوب لبنان، في إشارة واضحة إلى رغبة العدو في تنفيذ هجوم واسع على لبنان، لا سيّما على المنطقة الجنوبية منه، وإجبار مقاتلي حزب الله، وخصوصاً فرقة "الرضوان" على الانكفاء إلى شمال النهر، وتمكين ما يزيد على مئة ألف من المستوطنين الصهاينة من العودة إلى مناطق سكناهم في مستوطنات شمال فلسطين المحتلة.
بيد أنه حتى هذه اللحظة ما زالت دبابات غالانت تتعرّض لانتكاسة كبيرة في رفح، كما جرى سابقاً في كل مناطق القطاع، وخلال يومين فقط، تم تدمير أكثر من سبع منها، إلى جانب قتل أربعة جنود وضباط حسب اعتراف العدو نفسه، وهو الذي اعتاد على إخفاء الجزء الأكبر من خسائره؛ حفاظاً على معنويات الجنود.
قبل يومين، عاد غالانت المهدّد بالطرد من وظيفته، رغم معارضة سارة نتنياهو وابنها يائير، ليهدّد من جديد، قائلاً إن هناك مرحلة جديدة على صعيد المواجهة مع لبنان، وأن هذه المرحلة تشمل من جهة فرصاً، لكنّها من جهة أخرى، تحتوي على مخاطر كبيرة، وهو في هذا يريد إرسال إشارة واضحة لا تقبل التأويل بأن هناك قراراً إسرائيلياً بزيادة الهجمات على لبنان كمّاً وحجماً، وأنه سيعمل بمقتضى التفويض الذي منحه إياه الكابينت العسكري والسياسي المصغّر إلى جانب نتنياهو لاتخاذ القرار بخصوص المواجهة على الجبهة الشمالية.
التهديد الأخير لغالانت والذي صدر مثله من نتنياهو ووزراء آخرين، جاء بعد يومين فقط من الهجومين الداميين اللذين استهدفا الآلاف من حاملي أجهزة الاتصالات اللاسلكية في لبنان، وهو ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء من المواطنين اللبنانيين، وإصابة نحو ثلاثة آلاف آخرين، وتوعّد الأمين العام لحزب الله بالرد عليهما من حيث يحتسب العدو ومن حيث لا يحتسب، وترافق أيضاً مع نقل "جيش" الاحتلال "الفرقة-98 " من قطاع غزة إلى الحدود الشمالية، بعد أن قام، كما هي العادة، بأسطرة هذه الفرقة، ونسب كل ما تحقّق من "إنجازات " في المنطقة الجنوبية من القطاع بشكل خاص إليها، وأنها فرقة نخبوية مقتدرة، وسبق لها القتال في الأراضي اللبنانية على حد زعمه، مع العلم أن هذه الفرقة كأخواتها من الفرق الأخرى تعرّضت لخسائر فادحة في معركتي خان يونس ورفح تحديداً، وفقدت العشرات من ضبّاطها وجنودها، لا سيّما من لواء المظليّين، وجل ما نُسب إليها من نجاحات تمحور حول قدرتها على تدمير بيوت المدنيين الآمنين، وقتل أكبر عدد منهم، واستهداف المناطق المصنّفة إسرائيلياً بأنها آمنة، إلى جانب التفنّن في تهجير المواطنين من مناطق سكناهم ومطاردتهم والتضييق عليهم.
هذه الفرقة مضافاً إليها "الفرقة-99 "التي سبقتها إلى الجبهة الشمالية ستعملان تحت إمرة القيادة الشمالية لـ"جيش" الاحتلال، والتي تضم أربع فرق أخرى، بحيث تصبح هناك ست فرق قتالية تضم أكثر من خمسين ألف مقاتل من مختلف التخصّصات مهمتها، كما يزعم الاحتلال، توسيع دائرة القتال في جبهة الشمال المحتدمة، والمساهمة في ردع حزب الله وهزيمته، ودفعه إلى فك الارتباط مع جبهة المقاومة في قطاع غزة.
على كل حال، يبدو المشهد العام في ما يخص جبهة الجنوب اللبناني مع شمال فلسطين المحتلة، لا سيّما بعد التطوّرات التي جرت خلال الأيام الأخيرة، والتي صاحبها ارتفاع ملحوظ في نسق الهجمات الصاروخية وبواسطة الطيران المسيّر التي يشنّها حزب الله، وما قابله من قصف جوي صهيوني واسع على قرى ومناطق حدودية، بالإضافة إلى عملية الاغتيال في ضاحية بيروت الجنوبية، عصر الجمعة، يبدو أنه يسير باتجاه انفجار واسع على تلك الجبهة، قد يؤدي في إحدى مراحله إلى اشتباك إقليمي تشارك فيه العديد من الأطراف، سواء بشكل مباشر وصريح، أو من خلال الدعم العسكري والاستخباري والسياسي، كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية مع حليفتها الأهم في المنطقة "إسرائيل". > النشر والتحرير 2: إلا أن هذا الاحتمال لا يبدو حتى الآن على الأقل حتمي الحدوث، رغم كل ما جرى ويجري من أحداث، ورغم ارتفاع سخونة الأجواء إلى درجة أعلى بكثير من ذي قبل، إذ إن هناك الكثير من الكوابح التي ما زالت تمنع الوصول إلى تلك الدرجة من الانفجار، وهي في الأساس كوابح إسرائيلية، تتعلّق بشكل المعركة وحجمها، والخسائر المترتّبة عليها، إلى جانب القدرات التي تحتاجها "الدولة "العبرية للبدء فيها، إضافة إلى الموقف الدولي الذي يتخوّف من احتمال وصول الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد.
من الكوابح التي تمنع العدو من خوض حرب واسعة مع حزب الله -حتى الآن- هي عدم وجود ضمانات عملية تشير إلى إمكانية تحقيق "الجيش" الإسرائيلي الانتصار في هذه المعركة، والانتصار هنا يعني تحقيق أهداف الحرب، إذ إن أي عملية عسكرية يجب أن تتوّج بتحقيق الأهداف المرجوّة من ورائها وإلا عدّت عملية فاشلة، والأهداف هنا كما عبّر عنها القادة الصهاينة وذكرناها أعلاه تبدو أكثر تعقيداً من تلك التي وُضعت للحرب على غزة، والأسباب في ذلك كثيرة، منها قوة الخصم الذي تصفه المراكز المختصّة بتقييم الجيوش العسكرية والجماعات المسلحة بأنه أقوى مجموعة عسكرية غير نظامية على مستوى العالم، ولديه من الإمكانيات العسكرية والقدرات البشرية ما يستطيع من خلالها التسبّب بأذى كبير وهائل على صعيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بالإضافة إلى حجم الضرر غير المسبوق الذي يمكن له أن يصيب كل البنى التحتية في الكيان العبري، لا سيّما المنشآت الحيوية والحسّاسة، إلى جانب ذلك، هناك الجغرافيا التي تفرض نفسها على المعركة في حال اشتعالها، إذ إن خطوط الدعم والتواصل الجغرافي لحزب الله مع حلفائه تبدو متوفّرة بشكل واضح وجلي، وهو ما قد يجعل الإسرائيلي يخوض مواجهة مع محور كامل وليس مع الحزب فقط، وهذه المسألة يُنظر إليها في الكيان العبري ببالغ الحسّاسة، وهناك خطط عملانية كما ذكر الإعلام الإسرائيلي، وإن كانت صعبة ومعقدة، لمحاولة قطع الطريق من سوريا إلى لبنان قبل مهاجمة منطقة الجنوب، من خلال عملية عسكرية باتجاه الأراضي السورية والقيام بعملية التفاف وتطويق.
كابح آخر نرى أنه يمنع أو يؤخّر بالحد الأدنى الذهاب باتجاه توسيع دائرة الحرب في الشمال هو النقص الواضح في القدرات البشرية لـ"جيش" الاحتلال، لا سيّما في ما يتعلّق بسلاح البر، إلى جانب العجز في سلاح المدرعات والذي يعد رأس الحربة التي كانت على الدوام تمنح "الجيش" الإسرائيلي أفضلية ميدانية وعملانية على كل خصومه.
في ما يخص القوات البرية في "جيش" الاحتلال تسببت الحرب على غزة، إضافة إلى مشكلات قديمة تمت الإشارة إليها في العديد من التقارير الإسرائيلية، في عدم توفّر البنية البشرية اللازمة لخوض حرب على جبهة معقّدة وصعبة وقاسية، لا سيّما أن جبهة بعرض نحو 120كلم، وتشمل تضاريس أقل ما يُقال عنها بأنها تشكّل موانع اصطناعية بالغة الأهمية تحتاج إلى عدد كبير من الجنود النظاميين، والقادرين على القتال في ظل ظروف شديدة التعقيد، وفي مواجهة مقاتلين أشدّاء ومتمرسين، وهؤلاء المقاتلون يعتمدون بدرجة أساسية على أشكال قتالية أقرب إلى حرب العصابات، والحرب غير المتماثلة منها إلى الحرب الكلاسيكية، وعلى الرغم، كما ذكرنا سابقاً، من حشد ست فرق قتالية على هذه الجبهة، ونقل الثقل العسكري لـ"الجيش" الإسرائيلي وفرقه "النخبوية" من جبهة الجنوب إلى جبهة الشمال، فإن هذا لا يبدو كافياً، خصوصاً أن الفرقتين اللتين نقلتا من غزة لم تحظيا بفترة راحة مناسبة، ولا بإعادة تأهيل يبدو ضرورياً في مثل هذه الأوضاع بعد ما تعرّضتا له من انتكاسات وخسائر في معارك القطاع.
أما على صعيد سلاح المدرعات، والذي تعرّض حسب اعتراف إسرائيلي سابق لخسائر كبيرة أثناء القتال في قطاع غزة تسبّبت، حسب بعض التقارير الإعلامية، في خسارته لأكثر من 30% من دبّاباته ومدرعاته وناقلات جنده، والتي من دونها لا يمكن لـ"الجيش" الصهيوني القتال حتى ليوم واحد، إذ إنه يعتمد عليها بشكل كامل سواء في نقل الجنود وتأمين تحركاتهم، أو في ما يتعلّق باستهداف قوات الخصم وفتح الطرق وتدمير بناه التحتية، وغير ذلك من مهمّات.
ثالث الكوابح حتى لا نطيل، هو الموقف الدولي والإقليمي الذي لا يبدو بأنه يشجّع "دولة" الاحتلال على الذهاب باتجاه حرب واسعة، إذ إن هذه الحرب في حال اندلاعها قد تؤثّر بشكل كبير في مصالح العديد من الدول الغربية تحديداً في المنطقة، وهي التي لا تهتم، حسب ما كشفت الحرب على غزة، إلا بمصالحها فقط، من دون أن تقيم وزناً لحياة الشعوب، وحقّها في العيش الكريم كما تنص المواثيق الدولية والأممية. > النشر والتحرير 2: لذلك، نرى العديد من الدعوات من دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وحتى الولايات المتحدة الأميركية ضرورة تهدئة الأجواء على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، إلى جانب الكثير من الاتصالات التي تتم سواء من فوق الطاولة أو من تحتها، والتي تسعى لتجنيب المنطقة والإقليم حرباً طاحنة ومدمّرة، لا سيّما أن الجميع يعرف أن حرباً كهذه يمكن أن تمتد إلى مناطق أخرى من الإقليم، وهو ما يعني تهديد ممرّات مائية حيوية، وجغرافيا واسعة ذات بعد استراتيجي، بالإضافة إلى مصالح اقتصادية وسياسية للعديد من دول العالم.
كل ما أشرنا إليه أعلاه من كوابح، إضافة إلى أخرى من قبيل الانقسام الداخلي الإسرائيلي والذي يشكّل عقبة إضافية في وجه طموحات نتنياهو الشخصية، إلى جانب الخشية من تأثير ذلك في الانتخابات الأميركية المقبلة، لا سيّما الحزب الديمقراطي ومرشحته كامالا هاريس، لا يشير بأي حال من الأحوال إلى إمكانية ذهاب المنطقة إلى حرب شاملة أو مفتوحة، ولا إلى اقترابنا بشكل حاسم وأكيد من توسيع دائرة القتال على الجبهة اللبنانية تحديداً، على الرغم من أن الكثير من المؤشّرات تفيد بذلك، خصوصاً تصاعد العمليات العدوانية الإسرائيلية على قلب العاصمة اللبنانية بيروت، وهو ما يمكن أن يحوّل ردود أفعال حزب الله التي اتّسمت خلال الأشهر الأحد عشر الماضية بالانضباط والاتزان إلى ردود خارج الصندوق، كما يتوقّع الكثيرون، وخصوصاً بعد تجاوز العدو لكل الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك التي كان معمولاً بها سابقاً، بل وإسقاط كل هذه الخطوط، كما صرّح مصدر إسرائيلي، أمس.
ختاماً، يمكن لنا الاعتقاد أنه، وعلى الرغم من كل ما جرى، وما يمكن أن يجري خلال الأيام القليلة القادمة، بأنه ما زال هناك متّسع لمنع حرب شاملة في الإقليم، ولخفض مستوى التصعيد على الجبهة الشمالية تحديداً، لكن كل ذلك يعتمد في الأساس على النيّات الإسرائيلية التي لا نرى أنها صادقة كما جرت العادة، وعلى الموقف الأميركي الذي، وعلى الرغم من تساوقه مع جرائم الاحتلال، واشتراكه المباشر في ارتكاب الكثير منها، ولو بالحد الأدنى على صعيد تقديم المعلومات الاستخبارية إلى جانب الدعم العسكري المفتوح، فإنه يبقى حاسماً في حال أراد القيام بذلك.
ما دون ذلك، فإن المنطقة مقبلة على خريف ملتهب، قد يكتوي بنيرانه الجميع من دون استثناء، وفي المقدمة منهم الكيان الصهيوني المجرم، والذي ارتكب حتى الآن في مختلف الجبهات جرائم ومذابح تستحق بلا ريب جزاء عسيراً وقاسياً، سيرى بعضه كما تقول الصحافة الإسرائيلية خلال أي معركة كبيرة، معركة لن تكون كسابقاتها من المعارك، إذ لن تقتصر إمكانيات خصوم "إسرائيل " فيها على قذائف مضادة للدروع محلية الصنع، ولا على صواريخ قصيرة المدى ومنخفضة التدمير، بل ستواجه "الدولة "العبرية جيشاً من المقاتلين المحترفين في صنوف القتال كافة، ويملكون ما يحيل دبابات العدو وبوارجه وربما طائراته إلى ركام"، بالإضافة إلى أن شرر المعركة سيصل إلى كل بيت في الكيان العبري، وهو ما سيدفع المستوطنين الإسرائيليين إلى الهروب إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.