أولاً : توطئة :
يحار المرء في ظل هذه الظروف الدولية والإقليمية والمحلية من أين يبدأ ، وأين يركز اهتمامه ويصرف جهده ، فالمواضيع متشابكة ، والهموم متشابهة ، وأثر الأواني المستطرقة يفرض نفسه عند قراءة أو تحليل أي من المشاهد والمواقف ، فلا تكاد تجد حدثاً أو حراكاً أوإجراءً لم يتأثر بسابقه ؛ كما لا يمكن أن تضمن أنه لن يؤثر في / أو على لاحقه ، وعلى هذا ـ التأثير المتبادل للأحداث ـ أدلة وشواهد لا تبدأ من غزة المقاومة ، ولا تنتهي في اليمن الثائر والمؤازر . وحيث أن الموقف على ما قيل من تعقيد وتشابك ؛ فإننا لن نُضيّع وقت القارئ الكريم في تقفي العناوين و ( سنغمس ) في أصل ( الصحن ) الفلسطيني في الضفة الغربية ؛ لا ربطاً بما سبق من أحداث محلية أو إقليمية أو دولية ، حتى لو كان ـ وهو كذلك ـ لها مكان في التحليل ومحاولة الفهم ؛ بل سنركز على ما أطلت علينا به سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية ، ومنذ ما يقارب الأسبوع وزيادة تحت مسمى عملية " حماية وطن " !! حيث وفي الوهلة الأولى لسماع اسم العملية يتبادر إلى الذهن أن الشباب قد شربوا ( حليب سباع ) أو ( غاروا ) من محيطهم القريب في غزة والذي يذيق العدو ألوان المهانة ـ مع ما في ذلك من تضحيات ـ ويلحق به خسائر بشرية ومادية وبشكل يومي ، أدمت جيشه ، وهشمت أسطورته ، أو أنهم ( الشباب إياهم ) تحمسوا لما حصل في سوريا القريبة منهم ؛ فشمروا عن ساعد الجد ، وامتشقوا سمراواتهم ( M16 ) أو شقراواتهم ( AK-47 ) وراحوا يطاردون قطعان المستوطنين الذين يفسدون حياة أهلنا في قرانا ومدننا الضفاوية ، أو أنهم ( الشباب إياهم ) تخندقوا في خنادق المقاومين في طولكرم وجنين ونابلس وطوباس وباقي مدننا الشريفة والمقاومة ؛ فصدوا وتصدوا للعدو الذي يفسد الدين والدنيا . لكن للأسف وبعد التدقيق في الموقف وتمحيصه ، ومتابعة المشهد ومكوناته ؛ تفاجأ أن ( الشباب إياهم ) يطاردون المجاهدين والمقاومين الثائرين في أزقة وحواري جنين وطولكرم ونابلس ، في فعل أسموه زوراً وبهتاناً ( حماية وطن ) !! وحيث أن الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره ؛ وحيث أن التحرك بمقتضى الشيء يستدعي فهماً دقيقاً له حتى لا يدعي كل وصلاً ( بليلى ) ؛ تأتي هذه المقالة لمناقشة ما أسمته سلطة الحكم الذاتي وأجهزتها الأمنية بـ (حماية وطن ) ، بحيث يتم تحرير مجموعة من المصطلحات والمفاهيم التي ترتكز عليها أجهزة السلطة الأمنية ، مصحوبة بأبواقها الإعلامية ووسائل تواصلها الاجتماعية في حملتها هذه ، لنترك في النهاية للقارئ الكريم الحكم على فعل السلطة هذا ؛ أحماية هو أم نكاية ؟
ثانياً : تحرير المصطلحات :
حيث أن سلطة الحكم الذاتي وأجهزتها الأمنية أطلقت على عمليتها الأمنية في مخميات شمال الضفة الغربية اسم ( حماية وطن ) ؛ كان لزاماً علينا ابتداءً أن نحرر هذين المفهومين ـ الحماية ، الوطن ـ ، لنساعد القارئ الكريم في إطلاق حكمه ، واختيار صفه .
أول المصطلحات المطلوب تحريره وبحثه مصطلح أو مفهوم الحماية ، وحتى يتم تحرير هذا المفهوم وفهمه بشكل دقيق ، وتلمس مقتضياته ؛ لابد ابتداءً من التوافق على أن الحماية تقتضي وجود تهديد ، لذلك قبل تعريف الأول ـ الحامية ـ ؛
يجب التطرق إلى الثاني ـ التهديد ـ ، وحتى لا نغوص في بحر لجيّ لا قعر له مرتبط بمعرفة وتعريف التهديد ؛ شكلاً ومضمومناً ومقتضاً ، وهو بحث تخصصي يطول بحثه ، وحتى لا نطيل الحديث والـ ( فلسفة ) نقول : أنه على أي أرض محتلة ؛ التهديد الجدي والمهم وذو الأولوية الذي يتطلب تجنيد وتعبئة كل القدرات والطاقات لمواجهته هو المحتل والاحتلال ، وما يتعلق بهما وما ينتسب لهما ؛ بشرياً ومادياً وفكرياً وسلوكياً وسياسياً ، وما دون ذلك تفصيل . وهنا يُطرح السؤال المحوري والأهم في هذه المقالة وهو : هل أن سلطة الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة في حملتها هذه ، نهضت لمواجهة هذا التهديد وما نتج وينتج عنه من مخاطر ؟ وهل جعلت من هذا التهديد ـ تهديد الاحتلال ـ شأناً ذا أولوية ـ حتى لو اختلفت مع بعض مكونات مجتمعها المحلي وشرائحه الاجتماعية والسياسية ـ هل فعلت هذا ؟ فكان نهوضها استجابة لكبح تهديد يطال بيئتها وشعبها وناسها ، فلا تقع في حرج الانتقاد ، وتحت طائلة المسائلة !!
وحيث أننا ربطنا الحماية بالتهديد الذي حددنا مصدره ومنشأه ـ المحتل الإسرائيلي ـ ومن ثم طرحنا حوله بعضاً من الأسئلة التي يجب أن يُجاب عليها ؛ نأتي الآن للحديث عن الحماية ، وهو المفهوم الأول في العنوان الإشكالي الذي اختارته سلطة الحكم الذاتي لعمليتها ؛ فإن كان التهديد المنطقي والمعقول والمتصور والمشاهد والمعاش يومياً في أرضنا المحتلة في الضفة الغربية خصوصاً ، وفي فلسطين عموماً ، إن كان التهديد هو الاحتلال وما نتج وينتج عنه ومنه ؛ فإن مقتضى العقل والمصلحة الوطنية والشرعية والسياسية ، وما يطلبه الأصيل ( المواطن الفلسطيني ) من الوكيل ( سلطة الحكم الذاتي ومؤسساتها ؛ وبغض النظر عن عدم اعترافنا بوضعها القانوني ) ، مقتضى العقل والمصلحة أن تتم حماية الوكيل عبر الأصيل مما يشكل عليه ـ على الأصيل ـ من تهديد أو خطر مادي أو معنوي أو نفسي . وهنا أيضاً تبرز مجموعة من الأسئلة التي يطول سردها وتسجيلها ، ليس أولها ولا أهمها هو : هل أن فعل أجهزة سلطة الحكم الذاتي الأمنية المتمثل في مواجهة المقاومين والمجاهدين في مخيمات الضفة الغربية ومدنها ، هل هذا الفعل يشكل حماية للمواطن الفلسطيني ؛ روحاً وممتلكات ومقدرات ؟ أم أن هذا الفعل ـ فعل السلطة ـ يشكل تدميراً وقضاء منهجياً على أسباب قوة تساعد السلطة ـ إن هي أرادت طبعاً ـ في تأدية واجبها تجاه أهلها وناسها ، فتكون هذه السلطة بهذا الفعل كمن يطلق النار على قدميه !! ألا يشكل فعل السلطة هذا تدميراً لأحد أسباب القوة والحماية المطلوبة لكبح جماح تغول هذا المحتل على أهلنا وناسنا ومواطنينا في مدن الضفة الغربية وقراها ؟ ألا يناقض الفعل هنا ، القول هناك ؟
أما فيما يخص المفهوم الثاني لعنوان حملة أجهزة أمن السلطة ؛ عنينا به ( الوطن ) ، أيضاً نحن بحاجة إلى تعريف هذا المفهوم ، وتحديد دلالاته ، ومن ثم التوافق عليها ، ففلسطين ؛ كل فلسطين من نهرها شرقاً إلى بحرها غرباً ، ومن أرزها شمالاً إلى نخلها جنوباً هي الوطن ، ولا يملك أحد ـ مطلق أحد ـ التنازل عن شبر منها ، أو ذرة تراب من ترابها ، مهما على شأن هذا الأحد ، ومهما قدم من ( مبررات ) و (مسوغات ) سياسية أو مرحلية ، ذاتية أو موضوعية ، فلا الوضع الداخلي ، ولا الموقف الدولي غير المساعد سابقاً وحالياً يجيز لنا أو لغيرنا أن نتخلى أو يتخلى عن أرضنا التاريخية . لذلك فمفهوم الوطن المطلوب حمايته من غدر ونهب وغارات المحتل وفساده هوفلسطين ؛ كل فلسطين ، والسلام .
وكما في السابق تتداعى الأسئلة المرتبطة بهذا المفهوم والمفترض أنه واضح وضوح الشمس عند من يدّعون الوطنية والثورية ، وأول هذه الأسئلة وليس آخرها هو : هل حركة التحرر الوطني الفلسطيني ( حتف / فتح ) عندما انطلقت في عام 1965 انطلقت لتحرير جنين وطولكرم ومدن الضفة الغربية التي لم تكن محتلة في حينه ؟ أم أنها قامت لتحرير ما اغتصب من حق ، وما فُرّط فيه من تراب في مناطقنا المحتلة عام الثمانية والأربعين ؟ ثم ما هو مفهوم الوطن عند صاحب عنوان ( حماية الوطن ) ؟ هل هو فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها ، ومن أرزها إلى نخلها ؟ أم أن الوطن هو مدن الضفة الغربية الحالية والتي لا تشكل سوى 21 % من أصل وطننا المحتل ؟ أم لعلها المناطق المصنفة A والتي لا تتجاوز مساحتها 3% من مساحة الضفة الغربية ؟ أم أن الوطن المطلوب حمايته من قبل ( الشباب إياهم ) هو المناطق الموسومة بالمناطق B والتي لا تزيد مساحتها عن 25 % من أصل مساحة ضفتنا المحتلة ؟ لعله ـ الوطن ـ هو المناطق المصنفة وفق أوسلوا سيء الذكر بالمناطق C والتي تبلغ مساحتها 72 % من أصل كل مساحة الضفة الغربية المحتلة ؟ أخيراً ؛ ما هو الوطن الذي شرب لأجله ( الشباب أياهم ) ( حليب السباع ) فنهضوا للدفاع عنه ؟ عرّفوه ابتداء لنتفق عليه أو نختلف حوله انتهاء ! عرّفوه لنقول : أحماية هي أم نكاية ؟ عرّفوه لنؤيدكم أو نختلف معكم على حمايته ؛ طرقاً ووسائل وإجراءات !! نختم بالقول أن الحماية تقتضي وجود تهديد ، وأن التهديد يقتضي وجود مُهدد هو الاحتلال ، ومُهدد هو الوطن ومقدراته ، والشعب ومصالحه ، وحاضر أبنائه ومستقبلهم . وما لم يتم تحرير هذه المفاهيم ليبنى على الشيء مقتضاه ، فسيدعي كلٌ وصلاً ( بليلي ) . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .