عوفر شيلح
القناة ١٢ العبرية
منذ عدة أسابيع، يبدو كأن النشاط في مختلف الساحات العسكرية يتراجع، والأنظار تتجه نحو المكائد السياسية، وقانون التجنيد، والضجيج المستمر الذي يحيط برئيس الوزراء وعائلته ومحاكمته. وفي ظل وضع غير مستقر، وبغياب عملية سياسية مكمّلة يمكن أن تخلق مثل هذا الوضع، فإن القتال لن يتوقف من تلقاء نفسه قط، والجيش لن يقف ساكناً قط. إن الحركة التي تظهر في هذه الأيام على كافة الجبهات، وعلى رأسها جبهة غزة، تحمل في طياتها خطراً كبيراً على مصالح إسرائيل، وعلى الجيش الإسرائيلي نفسه.
إن الفيديوهات التي نشرها الجيش الإسرائيلي بشأن القضاء على "الإرهابيين" لا تحجب حقيقة أنه حتى وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي تميل بشكل طبيعي إلى تجاهُل أهمية ما يحدث في قطاع غزة، من الصعب أن تتجاهل ذلك. خطوة بعد خطوة، ومنطقة بعد منطقة، تسير إسرائيل نحو احتلال كامل لقطاع غزة، شمال نهر غزة، وترحيل السكان ومنع عودتهم، وإحداث دمار بأحجام تقترب من التعريف القانوني لجرائم الحرب.
ولا يستطيع الجيش، الذي يتوق إلى صفقة رهائن تنتهي بها المعارك بشكلها الحالي، أن يقول بصوت عالٍ، أو في غرف النقاش أمام المستوى السياسي، إنه لا فائدة فعلية من مواصلة العملية. وهو غير قادر على التوصية بما يفكر فيه قادته حقاً: العودة إلى خطوط دفاعية، وفي المقابل، القيام بتحرك سياسي يخلق بديلاً حقيقياً من "حماس"، ويمنع نموّها من جديد كقوة مهمة في القطاع. وبما أن الجيش الإسرائيلي لا يستطيع العودة إلى الوراء، وغير قادر على الوقوف ساكناً، فهو يفعل ما يعرفه - عمليات تبدو محدودة ظاهرياً، لكنها تخلق واقعاً على الأرض لا عودة عنه.
يترافق هذا الوضع الموقت مع تداعيات أنه بعد مرور عام وربع العام على 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم تُنشر التحقيقات بشأن التقصير، ولم يتم تحديد مسؤولية القيادة. وإلى جانب تآكل القتال الذي طال أمده، يسود جوّ من التحرر من القيود، وغياب الصلاحيات القيادية، مع تآكل القيَم القتالية الأساسية. دخل إلى هذا الفراغ مسؤولون ميدانيون من الرتب المتوسطة والعالية، وبعضهم لديه صلة مباشرة بالأجنحة المتطرفة في الحكومة. وهؤلاء هم الذين يدفعون نحو عملية احتلال شمال القطاع، بطريقة من الصعب للغاية التراجع عنها. ما بدأ في جباليا، مع توسيع ممر نتساريم، بحيث أصبح مساوياً لمساحة منطقة تل أبيب تقريباً، وإنشاء محور موازٍ إلى الشمال منه، ومع تحويل ثلث القطاع تقريباً إلى مساحة من الخراب، وإلى منطقة إطلاق نار، فإن هذه العملية قد تتوسع في المستقبل القريب إلى مدينة غزة نفسها، ولا سيما مع وجود أطراف في المستوى السياسي، وفي الميدان، يدفعون بقوة إلى تحويل مدينة غزة إلى جباليا رقم 2.
وعندما طُرحت المسألة أمام القيادة العليا، كان الجواب: "نحن لا نجوّع السكان عمداً، مثلما ورد في "خطة الجنرالات"، و"نحن لا نجهز المنطقة للاستيطان". والواقع أن القيادة العليا ليس لديها مثل هذه النيات. لكن بمرور الوقت، تصبح النية أقلّ أهميةً كثيراً. إن العالم، الذي يرى مئات الآلاف من اللاجئين يتجمعون في البرد، وحالات قتل المدنيين الكثيرة، حتى لو كانت غير مقصودة، وهو لا يهمه حقاً ما إذا أُطلق عليها اسم "خطة الجنرالات"، أم لا. والأمر نفسه ينطبق على القوات الميدانية التي تعرف جيداً ما تفعله كلّ يوم. إن المتآمرين من أجل إعادة المستوطنات يعملون بقوة فعلاً. لكن حتى من دون التطهير العرقي المتعمد من دون المستوطنات، فإن الواقع في غزة يقترب كل يوم من وضعٍ لا عودة عنه، وهذا الأمر ستكون له عواقب وخيمة على إسرائيل والجيش الإسرائيلي.
يجري العمل في الجبهة الشمالية بالعقلية نفسها. وبغياب تحرُّك إقليمي شامل، أضحت التسوية في لبنان هشة، وبالتالي، فإن الجيش الإسرائيلي يتحدث فعلاً عن البقاء في "منطقة أمنية" طويلة الأمد في شمال الحدود. أمّا في سورية، فالوضع غير واضح، لذلك، فإن النية هي البقاء هناك أيضاً، وتدل التجربة التاريخية على أنه خلال وقت قصير، ستتحول القوات الإسرائيلية الموجودة وراء الحدود إلى هدف للهجمات "الإرهابية" وعمليات حرب العصابات، لأن هذا ما سيحدث عندما نحتكّ بالسكان في منطقة من دون حُكم. تهبّ في هذه الأماكن من الميدان روح "الجياد الراكضة" التي يعززها تآكل الانضباط والسلطة القيادية، والتي تترافق مع ارتباط بعض الضباط، من الرتب المتوسطة والعليا، بأحزاب سياسية خارج الجيش.
لا يمكن توقُّع الكثير من المستوى السياسي. إذ يحتاج رئيس الوزراء إلى استمرار القتال لأغراض البقاء السياسي، وسيواصل ترويج شعار "النصر المطلق"، أي الحرب التي لا نهاية لها. وزير الدفاع مشغول بالصراع على السلطة مع قادة الجيش، ولا يتظاهر حتى بصوغ رؤيته الخاصة لمستقبل قطاع غزة، أو الجيش الإسرائيلي. والمهمة ملقاة على عاتق القيادة العسكرية التي عليها ألّا تتأخر عن القيام بالأمر الصائب.
على رئيس الأركان وجنرالاته وقف التحركات التوسعية التي ليس لها أيّ فائدة عسكرية، وإعادة القوات إلى خط ثابت، والبدء بإعادة تأهيل الجيش المنهك في القوات النظامية والاحتياط، وعليهم وقف تدهوُر القيم، من خلال خطوط عريضة وصارمة مستمدة من روح الجيش الإسرائيلي، والإصرار على تنفيذها ومعاقبة كلّ من ينحرف عنها. وعليهم استعادة الثقة، داخل الجيش الإسرائيلي وخارجه. من هنا، فإن عرض التحقيقات العسكرية على الجمهور بشفافية وبشكل مفصل، والتوضيح بشأن مَن يتحمل المسؤولية على الأقل، وما هي الاستنتاجات، سيكون الخطوة الأولى والإلزامية.