ترجمة حضارات
الكاتبة: شيرا إفرون
في 21 و22 سبتمبر، اعترفت أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة وست دول أخرى بدولة فلسطين، ما أثار ردًا واضحًا من إسرائيل. ففي بيان مصوّر باللغة العبرية نُشر يوم الأحد، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: «لن يحدث ذلك. لن تُقام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن». وعلى الرغم من أن نتنياهو سيتخذ القرار النهائي بشأن الرد الإسرائيلي الكامل بعد عودته إلى المنطقة عقب لقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن ائتلافه هدّد مرارًا بضم أراضٍ في الضفة الغربية وإسقاط السلطة الفلسطينية بالكامل.
هذه المواجهة المتبادلة لا تخدم مصالح أي طرف. فالإسرائيليون سيخسرون، إذ إن الدينامية المتصاعدة للاعترافات ورد الحكومة العدواني ستسهم في زيادة عزلة بلادهم دبلوماسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. والفلسطينيون سيخسرون أيضًا، لأن اعتراف هذه الدول، بمفرده، لا يمنح الشعب الفلسطيني فوائد ملموسة وحقيقية، ولا يساعد السلطة الفلسطينية المتعثرة على الخروج من أزمتها. بل يمنح ذلك العناصر المتشددة في الحكومة الإسرائيلية مبررًا إضافيًا لقمع حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإضعاف السلطة الفلسطينية أكثر.
وحتى قبل الإعلان الرسمي عن هذه الاعترافات، بدأت الحكومة الإسرائيلية باستخدامها كمبرر لاتخاذ خطوات جديدة لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. ففي 20 أغسطس، أقرّت (إسرائيل) بناء مستوطنة "إي1" المثيرة للجدل، التي تقسم الضفة الغربية فعليًا. وقد وصف وزير المالية بيتسلئيل سموتريتش هذه الخطوة صراحة بأنها رد على الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، قائلاً: «هذه الحقيقة تدفن أخيرًا فكرة الدولة الفلسطينية، لأنه لا يوجد شيء يمكن الاعتراف به، ولا أحد يمكن الاعتراف به».
ومع ذلك، يمكن أن يثمر الزخم نحو الاعتراف بنتائج إيجابية إذا تجاوزت القيادتان الإسرائيلية والفلسطينية الرمزية، وإذا عملت الجهات الدولية على تقديم الاعتراف ليس كخطوة أحادية، بل كجزء من جهد متعدد الأطراف طويل ومعقد لتحقيق الاعتراف المتبادل بين (إسرائيل) وفلسطين، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين (إسرائيل) وجيرانها، وتعزيز التكامل الإقليمي.
ويجب على الدول التي أعلنت الاعتراف أن توضح كيف ينسجم قرارها مع ما يُعرف بـ "إعلان نيويورك" (الذي أيده الجمع العام للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة في 12 سبتمبر)، ومؤتمر الأمم المتحدة في يوليو حول حل الدولتين، الذي ترأسته فرنسا والسعودية. كلا المبادرتين تقترحان سبلًا عملية للمضي قدمًا، ويجب على (إسرائيل)أن تستفيد من الفرص التي تقدمها هذه المبادرات.
يضع إعلان نيويورك إطارًا شاملًا لإنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وإعادة الرهائن الباقين، وتفكيك حركة حماس، وإعادة إعمار القطاع، ويدعم هذه الخطوات بضمانات أمنية ومبادرات لتعزيز التكامل الإقليمي.
كل هذه الإجراءات تتوافق مع الأهداف العسكرية والسياسية(لإسرائيل). ويجب على القادة الإسرائيليين تجاوز الجمود الأيديولوجي الذي يدفعهم إلى معارضة أي فكرة تتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. عليهم استغلال هذه اللحظة للتعاون مع فرنسا والسعودية بشأن كيفية تنفيذ إعلان نيويورك، وطلب الاعتراف من الفلسطينيين والجهات الإقليمية الأخرى (بإسرائيل) كوطن للشعب اليهودي (كما فعلت اتفاقيات أبراهام عام 2020)، والمطالبة بمحاسبة القادة الفلسطينيين على التزامهم بموجب القانون الدولي بمنع استخدام أراضيهم كقاعدة للهجوم على (إسرائيل). وإذا فعلوا ذلك، فقد يكتشفون أن الزخم نحو الاعتراف يحمل مزايا( لإسرائيل). كما ستضطر الدول المعلنة للاعتراف إلى القيام بدورها أيضًا، من خلال تحويل ضماناتها الأمنية إلى خطوات ملموسة، والمساعدة في تشكيل دولة فلسطينية لا تهدد جيرانها، وتكرّم شعبها عبر توفير مؤسسات عاملة وخدمات مناسبة.
رد فعل مكتسب
تأسست دولة (إسرائيل) بموجب قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، ما يعني نظريًا أن (إسرائيل) لا يمكنها قبول الشرعية التي أنشأتها بشكل انتقائي بينما ترفض دولة فلسطينية تشكّلت ضمن الإطار ذاته. ومع ذلك، فإن معارضة (إسرائيل) لفكرة الدولة الفلسطينية قد تشدّدت منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة "بيو" في يونيو 2025 أن 21٪ فقط من الإسرائيليين وافقوا على أن «التعايش السلمي مع دولة فلسطينية ممكن»، وهي النسبة الأدنى منذ أن طرحت المؤسسة هذا السؤال لأول مرة في عام 2013. كما أظهر استطلاع مشترك في سبتمبر 2024، أجرته المركز الفلسطيني للسياسات وأبحاث الرأي العام (PCPSR) وبرنامج جامعة تل أبيب الدولي لحل النزاعات والوساطة، أن غالبية الإسرائيليين يعتقدون أنه إذا أُنشئت دولة فلسطينية، فإن الهجمات الإرهابية على (إسرائيل) ستستمر أو تتصاعد.
بعد 7 أكتوبر، أصبح الإسرائيليون شديدي الحذر ومترددين في تقديم تنازلات إقليمية، خاصةً في ظل استمرار التهديدات الإرهابية من الأراضي الفلسطينية وضعف أداء السلطة الفلسطينية. حتى القادة المعتدلون الذين يعارضون نتنياهو باستمرار أعلنوا موقفًا قويًا ضد الاعتراف. فبيني غانتس، الجنرال المتقاعد المعتدل الذي خدم في مجلس الحرب الخاص بنتنياهو، أعرب عن أسفه لأن الاعتراف في هذا التوقيت «يعطي حماس جرعة من الثقة، ويطيل أمد الحرب، ويبعد فرص صفقة لتبادل الرهائن، ويرسل رسالة واضحة بالدعم لإيران ووكلائها». وفي 21 سبتمبر، قال يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، إن «الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية من قِبَل بريطانيا وأستراليا وكندا كارثة دبلوماسية، وخطوة ضارة، ومكافأة للإرهاب».
يشترك العديد من الإسرائيليين، ولهم بعض المبررات، في شعور بأن توقيت الاعترافات الأخيرة يكافئ حماس—وهي وجهة نظر شجّع عليها مسؤولو الحركة. ففي 2 أغسطس، قال غازي حمد، المسؤول الكبير في حماس، لقناة الجزيرة: «مبادرة عدة دول للاعتراف بدولة فلسطينية هي إحدى ثمار 7 أكتوبر. لقد أثبتنا أن الانتصار على إسرائيل ليس مستحيلًا، وأسلحتنا رمز للكرامة الفلسطينية».
بعيدًا عن المشكلات التي تثيرها هذه الرواية، لدى الإسرائيليين مخاوف أخرى مشروعة. فالاعتراف سيغيّر أساسًا الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة بموجب القانون الدولي، ويلزم الدول المعلنة بمراجعة اتفاقياتها مع إسرائيل لضمان عدم انتهاك التزاماتها تجاه دولة فلسطين. ويمكن إعادة تفسير مجموعة واسعة من العمليات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك آلاف الغارات السنوية لاعتقال إرهابيين أو تدمير أسلحة في الأراضي الفلسطينية، من عمليات مكافحة الإرهاب إلى انتهاك سيادة عضو في الأمم المتحدة.
قبل سبتمبر، كانت نحو 150 دولة عضو في الأمم المتحدة قد اعترفت بالفعل بدولة فلسطين. لكن إضافة فرنسا والمملكة المتحدة—وهما عضوان دائمين في مجلس الأمن—إلى هذه القائمة، بالإضافة إلى دول مجموعة السبع مثل أستراليا وكندا، قد تعرض (إسرائيل )لمزيد من التدقيق والضغط من قبل المشرعين ومنظمات المجتمع المدني، بما في ذلك تحديات قانونية كبيرة في المحاكم الدولية. وقد تشعر ألمانيا وإيطاليا وحتى الولايات المتحدة في نهاية المطاف بأنه ليس أمامها خيار سوى اتباع قيادة نظرائها في مجلس الأمن.
كما سيعزز هذا الاعتراف مكانة الفلسطينيين في المنتديات الدولية، ويمهد الطريق لتحويل فلسطين من دولة مراقب دائم في الأمم المتحدة إلى عضو كامل، مما يجعل مكانتها كدولة أمرًا لا جدال فيه، رغم اعتراضات إسرائيل.
خسارة قيادية
على المدى القريب، من المرجّح أن يكون الاعتراف بدولة فلسطين أكثر ضررًا للفلسطينيين منه نفعًا. فوفقًا للتعريف التقليدي للدولة، لا تستوفي فلسطين المعايير بشكل كامل في الوقت الراهن: فبالرغم من وجود مؤسسات تعمل جزئيًا، إلا أنها لا تسيطر فعليًا على أراضٍ محددة، ولا تحتكر استخدام القوة، ولا تمتلك اقتصادًا مستقلًا، ولا حكومة متماسكة. وأي دولة فلسطينية اسمية تُعلن على الورق بفضل الاعترافات لن تكون لها قدرة حقيقية على الصمود، بل قد يؤدي الاعتراف إلى إضعاف قدرة السلطة الفلسطينية على الحكم حتى في الأراضي المحدودة التي يُفترض أنها تسيطر عليها.
السلطة الفلسطينية على حافة الإفلاس. فقد أجلت المدارس العامة في الضفة الغربية بدء العام الدراسي، وفتحت أبوابها الآن لثلاثة أيام فقط في الأسبوع، ما يؤثر على أكثر من 600,000 طفل. واضطرت السلطة إلى خفض رواتب موظفيها العموميين بنسبة تصل إلى 50٪، وتأجيل دفع المستحقات لمقاولي القطاع الخاص. وتقدم وزارات مثل وزارة الصحة خدمات جزئية فقط. وقد تقلّص اقتصاد الضفة الغربية إلى أقل من سدس حجمه في عام 2022، ويصل معدل البطالة إلى أكثر من 30٪. كما تحظى السلطة الفلسطينية بشعبية محدودة بين مواطنيها؛ فقد أظهر استطلاع أجرته PCPSR في مايو أن 81٪ من الفلسطينيين يريدون استقالة الرئيس محمود عباس، وأن 69٪ يعتقدون أن السلطة لن تنجح في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للحكم.
الاعترافات هذا الأسبوع لا تفعل شيئًا عمليًا لتعزيز قدرة السلطة أو حمايتها من العدوان الإسرائيلي، بل تضع الفلسطينيين في مرمى نيران المسؤولين الإسرائيليين الذين يسعون لجعل الدولة الفلسطينية مستحيلة. ففي 18 سبتمبر، هدّد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه إذا لم تقم الحكومة بضم الضفة الغربية ردًا على الاعترافات، فإنه سيستخدم سلطته للإطاحة الكاملة بالسلطة الفلسطينية. وفي 20 سبتمبر، خلال فعالية في مستوطنة معاليه أدوميم قرب القدس، أعلن نتنياهو: «سنفي بوعدنا بأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية. هذا المكان لنا».
خطر وحيد
أما العواقب بالنسبة لإسرائيل، فهي تتجاوز الرمزية ولا يمكن تحييدها بسهولة عبر الضم. فمن المرجّح أن تؤدي موجة الاعتراف هذه إلى تصاعد المشاعر المعادية لإسرائيل عالميًا، ما يسرّع من انسحاب الاستثمارات وازدياد المقاطعات. كما أن الحكومات التي سعت إلى تهدئة المعارضة المحلية لسياسات إسرائيل عبر الاعتراف بدولة فلسطين ستواجه ضغطًا أكبر لفرض عقوبات رسمية.
الاتحاد الأوروبي هو أكبر مستثمر في إسرائيل، إذ يساهم بنحو ضعف ما تقدمه الولايات المتحدة سنويًا للاقتصاد الإسرائيلي، ويُعد الوجهة الرئيسية للاستثمارات الإسرائيلية، وأكبر شريك تجاري لها. وقد بدأت بعض المؤسسات الأوروبية بالفعل بالانسحاب من الشركات الإسرائيلية؛ ففي أغسطس، على سبيل المثال، سحب صندوق الثروة السيادي النرويجي، البالغ قيمته 2 تريليون دولار، استثماراته من شركة كاتربيلر وخمسة بنوك إسرائيلية، مشيرًا إلى «خطر غير مقبول» بأن استثماراته تساهم في انتهاكات حقوق الإنسان. وقد تحذو دول أخرى ذات استثمارات أكبر في إسرائيل، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، حذوها.
تحكم العديد من العلاقات الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل اتفاقية الشراكة لعام 2000، التي لا يمكن إلغاؤها إلا بالإجماع—وهو أمر غير مرجّح نظرًا لاستمرار دعم المجر لإسرائيل. وقد تم رفض اقتراح من المفوضية الأوروبية في منتصف سبتمبر لتعليق جزئي للاتفاقية، والذي كان يتطلب دعم أغلبية الدول الأعضاء، من قبل ألمانيا وإيطاليا.
ومع ذلك، قد يدفع مسار الرأي الأوروبي الذي تمثله موجة الاعتراف هذه ألمانيا وإيطاليا إلى رفع حق النقض. وفي مثل هذا السيناريو، قد تفقد إسرائيل اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك الوصول إلى برنامج Horizon Europe للبحوث بقيمة 100 مليار دولار، وهو الصندوق الرائد للبحث والابتكار في الاتحاد الأوروبي. وتُعد إسرائيل مستفيدًا رئيسيًا من هذا البرنامج، لكن حتى الآن هذا العام، انخفضت معدلات الموافقة على المشاريع التي تتعاون فيها إسرائيل بنسبة 68.5٪. وفي مايو، قال ديفيد هاريل، رئيس أكاديمية العلوم والإنسانيات الإسرائيلية، إن استبعاد إسرائيل تمامًا من البرنامج سيكون بمثابة «حكم بالإعدام على العلوم الإسرائيلية».
بالنسبة لإسرائيل، تتجاوز عواقب الاعتراف الجانب الرمزي
العزلة الأكاديمية والرياضية والثقافية
يمثل تهميش الأكاديميين الإسرائيليين اتجاهًا أوسع، إذ يواجه رياضيو البلاد صعوبة متزايدة في المنافسة مع نظرائهم في الخارج. ومن المتوقع أن تصوّت اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم قريبًا على تعليق مشاركة المنتخب الإسرائيلي وكافة أنديته في مسابقاته، ما سيُقصي الإسرائيليين عن ساحة بارزة لرياضتهم المفضلة. وتواجه المؤسسات الثقافية ضغوطًا مماثلة، يُتوقع أن تتزايد بعد الاعترافات الأخيرة هذا الأسبوع.
ففي أوائل سبتمبر، ألغى مهرجان فلاندرز في مدينة غينت البلجيكية عرض الأوركسترا الفيلهارمونية في ميونيخ لمجرد أن قائدها، لاهاف شاني—الذي دعا للسلام في غزة—يقود أيضًا الأوركسترا الفيلهارمونية الإسرائيلية. كما تعهد أكثر من 4,000 ممثل وصانع أفلام بعدم التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية.
قد يبدو هذا الأمر تافهًا للغرباء، لكن الاحتمال المتزايد لطرد إسرائيل من مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) يؤثر على الإسرائيليين بشكل خاص. فالمسابقة تُعد من أهم الأحداث السنوية في إسرائيل، ويفتخر الإسرائيليون بسجلهم الاستثنائي فيها: فقد فازت إسرائيل أربع مرات، وكان وصول متسابق إسرائيلي إلى نهائيات 2025 مصدر راحة كبيرة لهم، مؤكّدًا أن فنانيهم لا يزالون محبوبين في دول تشهد احتجاجات ضد حكومتهم. ومع ذلك، هددت آيسلندا وأيرلندا وهولندا وسلوفينيا وإسبانيا بمقاطعة يوروفيجن 2026 إذا شاركت إسرائيل. وقد تدفع الاعترافات الأخيرة ورد فعل إسرائيل العدواني المزيد من الدول لإصدار تهديدات مماثلة.
في مؤتمر بوزارة المالية الأسبوع الماضي، اعترف نتنياهو بأن إسرائيل تدخل «نوعًا من العزلة»، لكنه حاول التأكيد على أن البلاد يمكنها التعامل معها، مشيرًا إلى إمكانية اعتماد اقتصاد ذي «ميزات اكتفائية» وتحول إسرائيل إلى «سبارتا عظمى». ويبدو أن نتنياهو نسي أن نجاح إسرائيل الاقتصادي يعود إلى حد كبير إلى فوائد السلام التي نتجت عن اتفاقيات أوسلو، وأن إسرائيل أصبحت اقتصادًا قائمًا على التصدير، يعتمد على قطاع التكنولوجيا وقوى عاملة متعلمة ومتصلة عالميًا. واستمرار نجاحها يتطلب علاقات مزدهرة مع بقية العالم. ولهذا السبب قال مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في عام 1955: «إسرائيل ليست مقدَّرًا لها أن تصبح سبارتا جديدة»، وأضاف: «بغض النظر عن الالتزامات العسكرية لإسرائيل، يجب ألا نُشتّت عن حقيقة أن هدفنا النهائي في علاقاتنا مع جيراننا هو السلام والتعايش».
الفرصة من الأزمة
بعد أن يهدأ «السيرك الدبلوماسي» في الأمم المتحدة، ستبقى هناك فرصة للاستفادة من الزخم، إذا أعادت إسرائيل والدول الأخرى تركيز اهتمامها على إعلان نيويورك. وكان هدف هذا الإعلان تفادي مشكلات المبادرات الدبلوماسية السابقة غير الناجحة، من خلال اقتراح خطوات عملية محددة زمنًا نحو حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ضمن إطار إقليمي يستبعد حماس ويحفّز الدول العربية على لعب أدوار رئيسية.
للأسف، جذب الخطاب التصعيدي والتهديدات المتبادلة حول الاعتراف الانتباه بعيدًا عن هذه الإجراءات، رغم أنها قد توفر للحكومة الإسرائيلية مخرجًا لإنهاء حربها في غزة، التي لا تحظى بشعبية بين الإسرائيليين.
طالبت الحكومة الإسرائيلية منذ فترة طويلة باستيفاء خمسة شروط قبل وقف عملياتها العسكرية: نزع سلاح حماس، إعادة جميع الرهائن الأحياء والمتوفين، نزع السلاح في غزة، احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على القطاع، وإنشاء إدارة مدنية بديلة لا تتبع حماس أو السلطة الفلسطينية. ويتوافق إعلان نيويورك تمامًا مع أول ثلاثة أهداف، ويقبل ضمنيًا أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية المحيطية على غزة في المدى القريب، وأن حماس لن تعود إلى السلطة. كما يشترط الإعلان إصلاحات في السلطة الفلسطينية تجعلها جارة موثوقة أكثر مما هي عليه اليوم.
في الواقع، يمكن سد الفجوة بين ما تريده (إسرائيل )وما تأمله الجهات الدولية. ينبغي على فرنسا والسعودية والحكومات التي أيدت إعلان نيويورك أن تبدأ فورًا باتخاذ خطوات عملية لتطبيق التدابير المقترحة، مثل:
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على هذه الحكومات الاستثمار في تسويق أكثر فعالية للجمهور الإسرائيلي، لتوضيح لماذا يقدم اقتراحهم بديلًا عمليًا للنهج الصفري الحالي للحكومة تجاه الفلسطينيين. كما ينبغي السعي لإشراك الولايات المتحدة في اجتماعهم مع ترامب في 23 سبتمبر، المتوقع أن يغطي رؤية ما بعد الحرب لغزة.
من جانبها، أظهرت إسرائيل أنها يمكن أن تكون عملية عندما تحتاج لذلك. فعلى سبيل المثال، خلال الهدنة التي استمرت ستة أسابيع في يناير 2025، سمحت لقوات الأمن الفلسطينية التي تحمل العلم الفلسطيني بدوريات على حدود رفح. والآن حان الوقت لتكون أكثر واقعية. فالاعترافات هذا الأسبوع أصبحت أمرًا واقعًا، ومسألة ما إذا كانت دول أكثر نفوذًا ستعترف بفلسطين هي مسألة وقت لا مسألة احتمال. وستواجه إسرائيل عزلة لا يمكن لشعبها الصمود فيها طويلًا، إلا إذا قبلت أن تلعب السلطة الفلسطينية دورًا ما في إنهاء الحرب في غزة.
في الواقع، قد يحمل الاعتراف مزايا لإسرائيل. فإذا بدأ المجتمع الدولي في التعامل مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كنزاع بين كيانات قانونية متساوية، بدلًا من كونه نزاعًا بين محتل وشعب محتَل، فقد تضطر الأمم المتحدة والمنتديات الدولية الأخرى (بما فيها المحاكم الدولية) وكذلك القيادة الفلسطينية إلى الاعتراف بأن إسرائيل تواجه تهديدًا أمنيًا من الأراضي الفلسطينية. كما سيصبح واضحًا الالتزامات التي يجب على القادة الفلسطينيين الوفاء بها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك منع استخدام أراضيهم كقاعدة للهجوم على إسرائيل، ووقف أنشطة حماس الإرهابية.
في الشرق الأوسط، إذا لم تكن على طاولة الحوار، فستصبح على الأرجح جزءًا من «الطبق». بدلًا من رفض محاولات العالم للتدخل بشكل قاطع، ينبغي على إسرائيل أن توضح قبولها للمكونات الأساسية لإعلان نيويورك، والانضمام إلى المناقشات حول كيفية تنفيذها، وطلب الحوار حول العناصر المثيرة للقلق، والمطالبة بتدابير إضافية هامة مثل الاعتراف بحق اليهود في تقرير المصير داخل إسرائيل. عندها فقط يمكن تحويل مجرى الأحداث في الشرق الأوسط من اعتراف أحادي، وتجزئة إقليمية، وعزلة دولية لإسرائيل، إلى تكامل إقليمي وتعزيز الأمن للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
https://www.foreignaffairs.com/israel/israel-can-no-longer-wish-palestine-away#content