في إستطلاع جديد للرأي قامت به صحيفة الواشنطن بوست أظهر أن شريحة واسعة من اليهود الأميركيين باتت تنتقد بشدة النهج الإسرائيلي في غزة. حيث قال معظم اليهود بنسبة 61% إن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، ويذهب 39% منهم إلى وصف ما يجري بأنه إبادة جماعية. وتكتسب هذه النتائج دلالة خاصة في ضوء العلاقات التاريخية العميقة التي جمعت تقليديًا بين الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تشير إلى احتمال حدوث شرخ تاريخي في هذه العلاقة بسبب الحرب على غزة. كما يبدي اليهود الأميركيون استياءً واضحًا من الحكومة الإسرائيلية الحالية، إذ أعرب 68% منهم عن تقييم سلبي لأداء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في قيادة إسرائيل، بينما وصف 48% هذا الأداء بأنه «سيئ»، في ارتفاع حاد قدره 20 نقطة مئوية مقارنة باستطلاع مركز "بيو" للأبحاث قبل خمس سنوات.
كما يشير الاستطلاع إلى أن اليهود الأمريكيين منقسمون تقريبًا بشأن الإجراءات الإسرائيلية في غزة، حيث أعرب 46% عن تأييدهم، فيما عارضها 48%. ورغم هذا الانقسام، يبقى موقفهم أكثر دعمًا مقارنة بالعديد من الفئات الأخرى: فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب في يوليو، حيث عارض 60% من الأمريكيين الإجراءات الإسرائيلية فيما أعرب 32% فقط من جميع الأمريكيين عن تأييدهم لتلك الإجراءات.
كما تعكس نتائج الاستطلاع مجتمعًا يعيش حالة من الاضطراب العميق، يحمل مشاعر متعددة الأبعاد وأحيانًا متضاربة تجاه الدولة اليهودية بعد مرور 77 عامًا على تأسيسها. وبمعنى ما، يمكن القول إنّ حرب غزة سرّعت، إلى حدّ ما، مساراً كان قائماً بالفعل؛ إذ أخذت الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، ذات التوجهات الليبرالية نسبياً، تبتعد منذ سنوات عن القيادة الإسرائيلية التي تزداد تطرفاً ومحافظة يوماً بعد يوم.
وقد يكون للانقسام المتزايد بين اليهود الأمريكيين وإسرائيل تداعيات على السياسة الأمريكية أيضًا. إذ أصبح كبار الديمقراطيين، بما فيهم نواب يهود، أكثر انتقادًا لإسرائيل مقارنة بالماضي، ومن المرجح أنهم يواجهون خطرًا أقل من رد فعل عكسي من الناخبين اليهود الذين يبدون شكوكًا عميقة تجاه نتنياهو.وقد قدّم السيناتور بيرني ساندرز (مستقل-فيرمونت)، الذي يُعد سياسيًا يهوديًا بارزًا وصوتًا قياديًا يدعو إلى فرض عواقب على أفعال إسرائيل في غزة على مشروعَي قرارين لمجلس الشيوخ لوقف بيع الأسلحة لإسرائيل، حيث أيد معظم الديمقراطيين هذه القرارات، رغم فشلها أمام معارضة الجمهوريين.كما تزايدت نسبة اليهود الأمريكيين الذين يرون أن الولايات المتحدة تمنح دعماً مفرطاً لإسرائيل مقارنةً بالسنوات 2013 و2020 (Bendavid, Clement, & Guskin, 2025).
في حين أن رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، وعلى عكس العديد من الديمقراطيين، تبنى بقوة موقف نتنياهو في متابعة الحرب على قطاع غزة. ومع ذلك، يبدو أن رسالته المؤيدة لإسرائيل موجَّهة أحيانًا بشكل أكبر إلى مؤيديه المحافظين والمسيحيين الإنجيليين، أكثر من كونها موجهة إلى اليهود الأمريكيين، الذين اشتكى من عدم تقديرهم الكافي لمواقفه بشأن الشرق الأوسط (Bend avid, Clement, & Guskin, 2025).
كذلك كشفت استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة The Postعن وجود انقسام واضح بين الأجيال فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل. ففي حين أعرب 56% من اليهود الأمريكيين بشكل عام عن ارتباطهم العاطفي بإسرائيل، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 36% بين الفئة العمرية من 18 إلى 34 عامًا. وفي المقابل، ترتفع النسبة بشكل ملحوظ لدى الفئات الأكبر سنًا، لتصل إلى 68% بين من تجاوزوا سن 65 عامًا.ويظهر الاستطلاع أيضًا أن الشباب اليهود أكثر ميلاً للقول إن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، حيث صرح بذلك 50% من الفئة العمرية 18–34 عامًا، في حين تتراوح النسبة بين الثلاثينات لدى الفئات الأكبر سنًا.في قضايا أخرى، يبدو أن الأجيال متوافقة إلى حد كبير. فقد أعرب أكثر من 80% من اليهود من جميع الفئات العمرية عن قلقهم إزاء سقوط قتلى من المدنيين في غزة.
وفي إستطلاع اخر أجراه معهد كوينيبياك (Quinnipiac University Poll) تراجعًا حادًا في نسبة الناخبين الأميركيين المسجلين الذين يعتقدون أن دعم إسرائيل يخدم المصلحة الوطنية للولايات المتحدة، وذلك خلال الأشهر الـ21 الماضية من الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة. ووفقًا للاستطلاع، الذي استند إلى آراء 1,276 ناخبًا مسجّلًا تم استطلاعهم بين 18 و21 سبتمبر، فإن أقل من نصف الناخبين الأميركيين (47%) يرون أن دعم إسرائيل يصب في مصلحة الولايات المتحدة الوطنية، مقارنة بـ 69% في ديسمبر 2023، أي بعد ثلاثة أشهر ونصف من هجوم حركة "حماس" في 7 أكتوبر الذي أشعل الحرب الحالية.
في المقابل، 41% من المشاركين قالوا إنهم لا يرون في دعم واشنطن لتل أبيب مصلحة وطنية أميركية، فيما امتنع الباقون عن إبداء رأيهم (Lobe, 2025).
وجاءت النتائج متّسقة مع استطلاعات أخرى حديثة تُظهر تراجعاً غير مسبوق في مستوى التأييد الشعبي لها. إذ أظهر استطلاع صدر الشهر الماضي ضمن سلسلة "القضايا الحرجة" لجامعة ميريلاند، ولأول مرة في استطلاع وطني، أن نسبة الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين (28%) تجاوزت أولئك المتعاطفين مع الإسرائيليين (22%). كما أشار إلى أن 41% من المشاركين يرون أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية أو "حملة شبيهة بالإبادة" في غزة (Lobe, 2025).
كما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في أواخر يوليو انخفاض التأييد الشعبي للإجراءات الإسرائيلية في غزة من 50% إلى 32% خلال فترة سبعة عشر شهراً، مع تراجع ملحوظ بين فئات الشباب والديمقراطيين والمستقلين. وفي المقابل، كشف استطلاع كوينيبياك الأخير عن تفاوت واسع في وجهات النظر حول العلاقة بين دعم إسرائيل والمصالح الوطنية الأمريكية؛ حيث يرى ثلاثة من كل أربعة جمهوريين أن دعم إسرائيل يصب في مصلحة الولايات المتحدة، مقارنة بنسبة 36% من الديمقراطيين و37% من المستقلين. اللافت أن نسبة المستقلين الذين يعتقدون أن دعم إسرائيل لا يخدم المصالح الأمريكية بلغت 53%، متفوقة على نسبة الديمقراطيين الذين يشاركونهم الرأي (49%)، في حين وافق 19% فقط من الجمهوريين على هذا الطرح (Lobe, 2025).
كما تشهد الساحة السياسية الأمريكية، ولا سيما داخل الحزب الديمقراطي، تحولات لافتة في الموقف من إسرائيل ومن نفوذ جماعات الضغط المؤيدة لها، وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك). فقد مثّل انسحاب عدد من النواب الديمقراطيين من هذه اللجنة مؤشراً على تحوّل أعمق يجري داخل الكونغرس، يعكس تراجع الإجماع التقليدي حول الدعم المطلق لإسرائيل، وبروز تيارات ديمقراطية أكثر نقداً لسياساتها. ويُنظر إلى هذا التحول على أنه مكسب واضح لجماعة "جي ستريت" (J Street)، التي تتبنى خطاباً أكثر اعتدالاً وتوجهاً نقدياً تجاه الحكومة الإسرائيلية الحالية، وتسعى لتكريس موقعها كصوت مؤثر داخل الكونغرس الأمريكي في ما يتعلق بالسياسات المرتبطة بإسرائيل (القدس العربي، 2025).
فهل تعكس هذه الاستطلاعات، التي تُجرى في المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا، واقعاً ثابتاً أم أنها تتأثر بتغير الأوضاع والمصالح المؤقتة؟ وبناءً على ذلك، هل يمكن الاعتماد عليها كمؤشر دقيق للاتجاهات الفكرية والسياسية للجالية اليهودية؟ وهل يملك أفراد هذه المجتمعات القدرة على الثبات عند هذه المواقف، أو على الاختلاف مع السياسة الصهيونية الرسمية؟ أم أن التراجع عن مواقفهم يصبح أمراً حتمياً إذا ما تجاوزت الأحداث الخطوط الحمراء؟ فرابين قتله شاب رأى أنه تجاوز الخط الأحمر. لأن المهم عندهم الثوابت الصهيونيه التي لا تتغير، فهل يستطيع اليهودي مهما كانت الحقائق أمامه أن يبقى ثابتا ولا يتراجع؟.
وهنا نشير إلى ما نشرته صحيفة The Jerusalem Post يوم أمس في مقال بعنوان: هل تفقد إسرائيل اليهود في الشتات؟، الذي سلط الضوء على أزمة متفاقمة داخل المجتمع اليهودي العالمي. ويحذر المقال من اتساع الفجوة بين إسرائيل ويهود الشتات، لا سيما في الولايات المتحدة، ويعزو الكاتب دوغلاس بلومفيلد جزءاً من هذه الأزمة إلى سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وإلى الحرب المستمرة على غزة.
ويصف بلومفيلد هذا التراجع بأنه انهيار غير مسبوق للتحالف التاريخي بين إسرائيل والمجتمع الأميركي عبر الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ونقل عن مسؤول في منظمة يهودية كبرى قوله إن نتنياهو "دمّر بيديه الدعم الثنائي للحزبين الذي استغرق بناؤه 80 عاماً"، مضيفاً أن العديد من اليهود الأميركيين بدأوا يتساءلون: "إذا لم تهتم إسرائيل بنا، فلماذا نهتم نحن بها؟" (Bloomfield, 2025).
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يمكن استثمار هذه التغيرات في المزاج العام الأمريكي، سواء بين المواطنين الأمريكيين عمومًا أو بين الجالية اليهودية الأمريكية بشكل خاص؟ فكما تشير الاستطلاعات السابقة إلى أن جيل الشباب هو الأكثر انتقادًا للإجراءات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ما يفتح المجال أمام جهود توعوية موجهة نحوهم. وفي الوقت نفسه، الرئيس الأمريكي ترامب يوجّه رسائله المؤيدة لإسرائيل في أغلب الأحيان نحو قاعدته المحافظة والمسيحيين الإنجيليين، أكثر مما تُوجَّه نحو اليهود الأمريكيين، الذين عبّروا عن شعورهم بعدم تقدير كافٍ لمواقفه في ما يخص السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
الأولوية إذن تكمن في السعي لكسب تأييد الشباب، مثل تاكر كارلسون وغيرهم من أصحاب المنصات الرقمية، من خلال تزويدهم بالمعرفة والفهم العميق للقضية الفلسطينية. فهم يشكلون الجيل القادم الذي سيحكم ويدير شؤون العقدين المقبلين، وما يمتلكونه من تأثير يشكل تحدياً كبيراً للمستقبل، وفي الوقت نفسه يمثل شعلة يمكن توظيفها لدعم القضية الفلسطينية. ومن هنا تنبع أهمية العمل على تشكيل استراتيجيات متكاملة تهدف إلى كسب هذه الأجيال وتوجيه فكرها، بما يعزز وعيهم ويحفزهم على تبني موقف مدروس ومستنير تجاه فلسطين.
لكن كيف سيتم ذلك؟ وما هي السبل والطرق الواجب اتباعها لذلك؟ وما هي الرسائل والمحتوى الذي سنقوم بإيصاله؟ ومن سيقوم بذلك؟، لكن والأهم هنا من هي الفئة المستهدفة لتوصيل تلك الرسائل؟
لتحويل هذا التعاطف الشعبي الى ضغط سياسي يمكن مثلا التواصل مع التيارات التقدمية في الكونغرس والحزب الديمقراطي التي بدأت تعبر علناً عن مواقف ناقدة لإسرائيل (مثل Alexandria Ocasio-Cortez وBernie Sanders). فهذا يخلق جسراً بين الشارع والقرار السياسي. إلى جانب تمكين الجاليات العربية والمسلمة واليهودية المناصرة للحق الفلسطيني من الانخراط في الحملات الانتخابية ودعم المرشحين المتوازنين في رؤيتهم للصراع. بالتوازي، يجب الاستثمار في الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي لتثبيت الرواية الفلسطينية بلغة قريبة من القيم الأمريكية — الحرية، العدالة، والمساواة — مع التركيز على القصص الإنسانية من غزة والضفة الغربية التي تمس الضمير الجمعي الأمريكي.
على الصعيد الأكاديمي والفكري، يمثل الانفتاح على الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية ركيزة مهمة لتكريس الخطاب الفلسطيني المستند إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان، بعيداً عن الشعارات الأيديولوجية. كما يمكن بناء تحالفات مع منظمات المجتمع المدني والحركات الحقوقية والنسوية والبيئية التي تتبنى قضايا العدالة في العالم، وهو ما يسهم في إعادة إدراج فلسطين ضمن أجندة النضال الإنساني العالمي.
في المحصلة، فإن تنامي التأييد الشعبي الأمريكي لفلسطين ليس مجرد ظاهرة عاطفية عابرة، بل مؤشر على تحول ثقافي وسياسي أعمق في الرأي العام الأمريكي تجاه مفهوم العدالة وازدواجية المعايير. غير أن تحويل هذا التحول إلى مكسب استراتيجي يتطلب خطاباً فلسطينياً جديداً، عقلانياً ومقنعاً، يُخاطب العالم بلغة المصالح والقيم معاً، لا بلغة الشعارات وحدها، دون المساس طبعا بالثوابت الفلسطينية.