بقلم: يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
رام الله – تشرين الأول 2025
في أريحا، تُحاك مشاهد لاحتفالٍ شعبي بعودة ناصر القدوة إلى اللجنة المركزية لحركة فتح.
اللافتات تُرفع، والهتافات تُحضّر، وكأننا أمام “نصرٍ سياسيّ”
أو عودة بطلٍ منفى طالت غربته.
لكن الحقيقة – كما يعرفها العارفون بتاريخ الحركة ومفاصلها – أن هذه العودة ليست انتصارًا، بل تسوية رمزية جاءت في زمن الحاجة إلى ترميم الصورة أكثر مما هي استعادة للدور.
عودة لأجل فتح... أم لأجل القدوة؟
القدوة لم يعد إلى موقعه بفعل زخم قاعدي، ولا نتيجة انتصارٍ فكري أو تنظيمي، بل عاد بطلبٍ مكتوبٍ وبخطابٍ متواضعٍ يطلب الصفح والصفح.
وحركة فتح، التي تواجه واحدة من أكثر مراحلها هشاشةً وتآكلاً، قبلت عودته لأنها بحاجة إلى رموزٍ تُعيد شيئًا من بريق التاريخ في لحظةٍ تتكاثر فيها ظلال الفساد والعجز والانقسام.
فتح أرادت أن تقول للعالم والعرب: “ها نحن نتصالح مع أنفسنا.”
أما القدوة، فأراد أن يقول: “ها أنا أعود قبل أن يُغلق المشهد تمامًا.”
إنها عودة نفعية للطرفين، لكنها غير قادرة على تغيير المعادلة.
ففتح لم تُصلح بيتها بعد، والقدوة لم يعد يحمل ما يجعل عودته أكثر من حضورٍ رمزيٍ في مشهدٍ مكتظٍ بالشخصيات والمواقع.
قوة أم ضعف؟
يعود القدوة اليوم بلا أدوات، بلا موقعٍ فعلي، بلا نفوذٍ تنظيمي أو جماهيري.
كل المواقع التي كانت طموحه امتلأت:
نائب الرئيس، الخارجية، الأمانة العامة، وحتى مؤسسة ياسر عرفات التي كان يرأسها ذات يوم.
لقد فقد “اللحظة التاريخية” التي كان يمكن أن ترفعه من ابن أخت الزعيم إلى زعيمٍ بذاته.
ولذلك، سيعود إلى “اللجنة” لكنه لن يعود إلى “القيادة”.
سيُصافَح، ويُلتَقَط له الصور، ثم يُعاد إلى الهامش... إلى مقعدٍ خلفيٍ في سيارةٍ يقودها غيره.
هل يعود القدوة تمهيدًا للرئاسة؟
في السياسة الفلسطينية، لا تُغلق كل الأبواب تمامًا.
وربما تراهن بعض الدول العربية على شخصيته “المهذبة” ووجهه المقبول دبلوماسيًا ليكون “مرشح توازن” في مرحلة ما بعد عباس.
لكن القدوة، مهما حظي بقبولٍ خارجي، لا يملك قاعدة داخلية تؤهله للعب هذا الدور.
فهو ليس ابن الميدان ولا صوت الشارع، ولا يحمل إرثًا تنظيميًا حقيقيًا.
اسمه مرتبط بعائلةٍ سياسية أكثر مما هو مرتبط بمشروعٍ سياسي.
الشعب يعرفه كـ “ابن أخت أبو عمار”، لا كـ “صوت ياسر عرفات في هذا الزمن”.
ولذلك فإن فكرة ترشحه للرئاسة، إن طُرحت، ستكون ورقة اختبار لا ورقة مصير.
وربما يُستدعى اسمه حين يُراد التوازن بين الأسماء، لا حين يُراد القرار.
المشهد الأوسع... فتح بين الحاجة والفراغ
فتح اليوم ليست بحاجة إلى وجوه جديدة بقدر ما هي بحاجة إلى رؤية جديدة.
عودة القدوة لا تحلّ أزمة فتح ولا أزمة الشرعية ولا أزمة الثقة الشعبية.
هي فقط مشهد ترميم في جدارٍ متصدّع، قد يصمد قليلاً، لكنه لن يمنع تسرب الرياح.
وفي الوقت الذي يُحضّر فيه البعض لاستقباله في أريحا،
يقبض موظفون رواتب ناقصة،
ويُكشف عن ملفات فساد في المعابر،
ويُحاصر الناس بأزمة اقتصادية خانقة.
فهل الوقت مناسب لمظاهر الاحتفال؟
أم أن المشهد يحتاج إلى صمتٍ عاقلٍ لا إلى تصفيقٍ زائف؟
حين تصبح العودة مجرد ظل
ناصر القدوة يعود اليوم، لكنه لا يعود كما خرج.
يعود بأدب الرسالة لا بصخب الميدان،
بالتواضع لا بالتمرد،
وبحسابات الانحناء أمام العاصفة لا قيادتها.
هو يدرك أن فتح التي يعود إليها لم تعد تلك الحركة التي عرفها في زمن خاله القائد الرمز ابو عمار ،
وأن القيادة التي تستقبله اليوم ليست بحاجة إلى “فكره”، بل إلى “اسمه”.
ولذلك، فعودته ليست عودة إلى الضوء،
بل إلى الظل…
ظلّ الحركة التي تستهلك أبناءها،
وظلّ الوطن الذي لم يعد يفرّق بين من خرج بإرادته ومن عاد مجبرًا.