منذ أن انقسمت الساحة الفلسطينية إلى شطرين، واحدٍ في الضفة يتدثر بغطاء التنسيق الأمني والشرعية الشكلية، وآخر في غزة يعيش المحنة والمقاومة والدم، لم تترك السلطة الفلسطينية في رام الله فرصة إلا وأكدت فيها أنها اختارت طريقًا بعيدًا عن نبض الأمة، وأنها استبدلت بوصلة الصراع ببوصلة البقاء. لم يكن المطلوب منها أن تشارك في الحرب، ولم يكن من المنتظر أن تُرسل جنودها أو أجهزتها إلى خطوط النار، فالجميع يعلم أنها لا تملك من أدوات الصمود ما تملكه غزة التي اعتادت على الحصار والدمار، لكن ما فعله بعض رجالاتها من عداءٍ مستتر أو معلن للمقاومة تجاوز حدود العجز إلى حدود الخيانة، إذ لم تقف السلطة موقف المتفرج الحزين، بل انخرطت في حملةٍ قذرة لتجريم المقاومة وتشويهها ونزع شرعيتها السياسية والأخلاقية والإعلامية، حتى غدت ألسنة مسؤوليها تُردد في المنابر ما يشبه كلام العدو، وتتبنى خطابه الذي يصور المقاومة مغامرةً أو عبثًا أو تخريبًا، في الوقت الذي كان فيه الشهداء في غزة يُقصفون ويُقتلون بصواريخ الاحتلال، بينما الإعلام الرسمي وبعض المنابر المحسوبة على رام الله كانت تهاجم حماس وتلمّح إلى مسؤوليتها عن “جرّ الويلات على الشعب”، وكأن الاحتلال يحتاج إلى مبرر ليقتل أو إلى ذريعة ليهدم. ولم تقف السلطة عند حدود الكلام، بل مارست على الأرض سلوكًا يشي بأنها تعتبر المقاومة خطرًا عليها أكثر من خطر الاحتلال نفسه، فمئات الاعتقالات في الضفة طالت شبابًا وطلابًا وعلماء ومصلين لا لشيء سوى لأنهم رفعوا علمًا أو كتبوا تغريدةً أو عبّروا عن تعاطفهم مع غزة، ولأنهم ظنوا أن الانتماء لفلسطين لا يحتاج إذنًا من المخابرات. هذه السياسة الأمنية، التي تُعرف بالتنسيق مع الاحتلال، لم تعد سرًا بل صارت عقيدة عمل يومية، يفتخر بها بعض مسؤولي السلطة باعتبارها "مصلحة مشتركة"، وهي في الحقيقة الحبل الذي يخنق روح المقاومة ويجعل من الأجهزة الفلسطينية ذراعًا غير معلنة للاحتلال داخل الجغرافيا الفلسطينية.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد رافق الحرب على غزة خطاب رسمي متخاذل يشيع الإحباط، ويحاول حرف الأنظار عن الاحتلال باتجاه المقاومة، كأن الدم الذي في غزة هو ثمرة “قرار خاطئ” لا نتيجة عدوان متواصل منذ سبعة عقود. وفي اللحظة التي كان فيها أبطال القسام وسرايا القدس يقاتلون في الأزقة وتحت الركام، كانت بعض الأقلام التي تُغذّيها أموال المقاطعة تشنّ حربًا أخرى لا تقل خبثًا، حربًا نفسية هدفها تكسير المعنويات وتشويه الرموز وإقناع الناس بأن المقاومة عبثية. والأسوأ أن هذه الحملات لم تكن عفوية بل منظمة وممولة، بإشراف إعلام رسمي أو مقرب من السلطة، ما جعل العدو يستثمرها كدليل على "انقسام الفلسطينيين" لتبرير استمرار مجازره. ومع مرور الوقت، بدأت بعض التقارير تتحدث عن محاولات لتشكيل مجموعات مسلحة في غزة تكون بديلة عن فصائل المقاومة، أو واجهة لتسلل الأجهزة الأمنية تحت عباءة "النظام والقانون"، وهي محاولات وإن فشلت فإنها تعكس النية القديمة الجديدة لزرع الفتنة داخل الجبهة الداخلية للمقاومة. فبينما غزة تقاتل وتُقصف، كانت هناك تحركات في الضفة لإضعاف الحاضنة الشعبية للمقاومة، عبر الاعتقال والتهديد ومصادرة أي نشاط شعبي داعم، في مشهد يختزل حقيقة الموقف الرسمي: الخوف من انتصار المقاومة أكثر من الخوف من استمرار الاحتلال. إن السلطة التي وُلدت من رحم أوسلو باتت ترى في المقاومة خطرًا على مشروعها السياسي الذي يقوم على المفاوضات والتنسيق والتزامات "نبذ العنف"، ولهذا فقد تعاملت مع الحرب الأخيرة وكأنها امتحان لإثبات “الالتزام بالمسار السلمي” أمام إسرائيل والغرب، لا كمعركة وجود تمس كل فلسطيني. حتى خطاب محمود عباس الذي خلا من أي تضامن فعلي مع غزة، واتهامه الضمني للمقاومة بأنها سبب الدمار، كشف عن عمق الشرخ في الوجدان الوطني. بل إن بعض المصادر تحدثت عن لقاءات أمنية جرت أثناء الحرب بين شخصيات فلسطينية وإسرائيلية لتبادل معلومات حول الوضع الميداني، في إطار ما يسمى “منع الفوضى”، وهو ما يعني عمليًا المشاركة في ضبط وتقييد أي تمدد للمقاومة خارج غزة. وداخل الضفة، كانت يد المخابرات الإسرائيلية تمتد عبر التنسيق الأمني لتصل إلى كل خلية ناشئة أو كل نشاط يمكن أن يتحول إلى دعم فعلي للمقاومة، في تعاون يجعل من السلطة حارسًا للاحتلال دون أن تدرك أنها بذلك تخسر كل ما تبقى من شرعيتها. ومع أن كثيرين يحاولون التماس العذر بحجة الضعف والعجز والضغوط الدولية، فإن ما لا يُعذر هو التماهي مع العدو ضد المقاومين، أو المساهمة في شيطنة من يدافعون عن الأرض والعرض، أو المشاركة في تكميم أفواه الناس الذين يرون في غزة شرف الأمة وضميرها الحي. لقد شاركت السلطة عمليًا في إضعاف الموقف الفلسطيني الموحد، حين جعلت من نفسها خصمًا للمقاومة بدل أن تكون سندًا لها، فخسرت القاعدة الشعبية التي كانت يوماً ترى فيها ممثلاً وطنياً. واليوم بعد كل ما جرى، لا مفر للسلطة من مواجهة الحقيقة: أن الرهان على إسرائيل خاسر، وأن كل التنسيق والرهانات والتفاهمات لم تحمِ أحدًا ولم تجلب للفلسطينيين سوى الخذلان والعار، وأن العودة إلى الشعب وإلى خيار الوحدة والمقاومة هي الطريق الوحيد لتطهير الذات من دنس الانقسام والارتهان. فالتاريخ لا يرحم، والشعب لا ينسى، والقصاص آتٍ لا محالة، ليس قصاص الدم والانتقام، بل قصاص الوعي والكرامة، حين يلفظ الناس كل من خانهم وباع دماء شهدائهم بثمن بخس في سوق السياسة. آن للسلطة أن تعود إلى شعبها وأمتها، وأن تكفّ عن خدمة الاحتلال تحت ذريعة “المصلحة الوطنية”، لأن فلسطين لا تُحرَّر بالتصاريح والتنسيق، بل بالموقف النقي والإرادة الحرة التي لا تخضع ولا تساوم، وكل ما عدا ذلك خيانة مكتملة الأركان وإن تزيّت بلباس الشرعية.