نكبة أكتوبر العظيم

الاسير المحرر ربحي بشارات

روائي وكاتب مختص بالشأن السياسي

تشهد “إسرائيل” اليوم ما يمكن وصفه بنكبة داخلية عميقة تتجاوز في جوهرها آثار السابع من أكتوبر لتطال بنية الكيان وهويته ومفهومه لذاته، وهذه النكبة التي يسميها نتنياهو “خلاصًا” ليست سوى إعادة إنتاجٍ للخداع الجمعي في محاولة منه لتحويل الهزيمة إلى وهم النصر، والانهيار إلى سردية خلاص قومي. فمنذ ذلك اليوم الذي اخترقت فيه المقاومة الفلسطينية الحدود وأسقطت أسطورة الأمن، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة من التشظي الداخلي والارتباك السياسي والروحي، وبدأت عملية نزع القناع عن وهم الدولة القوية التي لا تُقهر، إذ انكشفت هشاشة جيشها، وارتباك مؤسساتها، وفساد نخبتها، وتآكل منظومتها القيمية القائمة على الخوف والتحريض والكراهية. لكن نتنياهو، الذي يدرك أنه يقف على فوهة بركان داخلي، لم يختر مواجهة الحقيقة بل قرر أن يهرب إلى الأمام عبر اختراع سردية خلاص جديدة تُعيد إنتاج الذات الصهيونية بوصفها الضحية الدائمة والمخلِّص المحتوم، فراح يصوغ خطابًا يقوم على استحضار اللاهوت التوراتي والمفردات الصهيونيه التي تتحدث عن “الضيقة الكبرى” قبل الخلاص، ليحوّل كارثة السابع من أكتوبر من لحظة سقوط إلى “مرحلة تطهير” على طريق الفداء القومي، في محاولة يائسة لحقن الإسرائيليين بجرعة أيديولوجية تنقذ وعيهم من الانفجار. هذا الخطاب الذي يحاول إيهام المجتمع الإسرائيلي بأنه يعيش ميلادًا جديدًا للدولة اليهودية إنما يهدف في حقيقته إلى ستر العورة السياسية والعسكرية التي كشفتها المقاومة، وتغطية فشل القيادة الذي لا يمكن إنكاره. فنتنياهو الذي مكث في الحكم أطول من أي زعيم إسرائيلي قبله، كان أكثر من ساهم في تفكيك الجبهة الداخلية، وإشعال الانقسام بين اليهود أنفسهم، وتحويل المشروع الصهيوني إلى أداة بيد التطرف الديني والمصالح الشخصية، ثم جاء السابع من أكتوبر ليكون ثمرة طبيعية لهذا المسار، لكنه بدلاً من الاعتراف بمسؤوليته اختار قلب الطاولة على الجميع وتحويل الهزيمة إلى “أسطورة خلاص”، محاولًا إعادة توجيه الغضب الشعبي نحو “العدو الخارجي” وصناعة وعي جديد يُخدّر المجتمع عن مواجهة الأسئلة الوجودية التي باتت تطرق الأبواب: من نحن؟ ولماذا فشلنا؟ وهل نحن أصلًا كيان يمكنه البقاء بعد أن انكشفت هشاشته؟ لقد أدرك نتنياهو أن السردية الإسرائيلية القديمة القائمة على “الخوف الوجودي من العرب” لم تعد قادرة على توحيد المجتمع المنقسم بين متدينين وعلمانيين، شرقيين وغربيين، أغنياء وفقراء، فحاول بناء سردية بديلة ترتكز على فكرة الخلاص الموعود، وكأن إسرائيل تمر بمرحلة “المحرقة الثانية” التي يجب أن تفضي إلى “القيامة الصهيونية”، وبذلك يعيد تدوير المأساة إلى وقود أيديولوجي يمدّ سلطته بالحياة، لكنه في الحقيقة يدفع المجتمع الإسرائيلي نحو هاوية الهوس الديني والعنصرية المطلقة. ومن خلال هذا الخطاب الخلاصي يسعى نتنياهو إلى السيطرة على مفاصل الوعي الجمعي، وتحويل الانهيار إلى مشروع إيماني جماعي يبرر استمرار الحرب ويمنح القتل والتدمير معنى روحانيًا زائفًا، كما يسعى إلى خلق حالة طاعة جماهيرية تشبه ما حدث في الأنظمة الشمولية حين تُقدَّس الدولة ويُلغى الفرد ويُعتبر القائد هو المنقذ الإلهي، فيغدو أي اعتراض عليه خيانة للوطن والدين. وهكذا يعمل نتنياهو على إعادة صياغة المفاهيم الوطنية بحيث لا يُقاس الولاء بمقدار الإيمان بالعدالة أو الديمقراطية، بل بمقدار الإيمان بشخصه كزعيم قدرٍ لا بديل عنه، حتى أصبحت الحرب بالنسبة له وسيلة للبقاء السياسي، وأداة لإعادة إنتاج ذاته في الوعي الجمعي بوصفه حامل رسالة الخلاص من “أعداء إسرائيل” في الخارج و”الخونة” في الداخل. لقد تحولت الكارثة إلى فرصة دعائية أعادت لليمين المتطرف دوره القيادي على حساب التيارات الليبرالية والعلمانية، وجرى حرف النقاش العام من مساءلة الفشل الأمني والسياسي إلى معركة وجودية ضد “الشر الفلسطيني والإيراني”، ليُدفن التحقيق في أسباب الانهيار تحت ركام الأيديولوجيا الدينية التي تشبه خطب الأنبياء الكاذبين. وفي الوقت الذي يزداد فيه المجتمع الإسرائيلي تآكلًا من الداخل وتفقد مؤسساته الثقة بنفسها، فإن نتنياهو يصر على تسويق صورة مقلوبة للواقع، حيث يُقدَّم الخراب على أنه بناء جديد، والهروب على أنه ثبات، والجنون على أنه إيمان. لكن الحقيقة أن “إسرائيل” تمر اليوم بمرحلة انهيار ذاتي يهددها من أعماقها أكثر مما يهددها من حدودها، إذ تتفكك الروابط الاجتماعية، وتتصاعد موجات الهجرة العكسية، وينهار الاقتصاد تحت ثقل الحرب، فيما يترسخ في وعي الشباب شعور عميق بعدم الجدوى من مشروع لم يعد يقدم لهم مستقبلًا آمنًا ولا معنى وجوديًا.

إن النكبة الداخلية التي تعصف بإسرائيل ليست عسكرية فقط، بل فكرية وأخلاقية ونفسية، وهي نكبة قيادة فقدت قدرتها على الصدق مع نفسها، فاستعاضت عن الحقيقة بالأسطورة وعن النقد بالإنكار، وعن الواقع بالوهم، لتغطي خوفها من السقوط بشعارات الخلاص، وكأنها تحاول الانتحار ببطء عبر حرب لا نهاية لها. لذلك فإن “الخلاص” الذي يبشر به نتنياهو ليس إلا غطاءً لفظيًا لانهيار تدريجي يتسارع كل يوم، حيث يتآكل الإيمان الداخلي بالدولة ويغدو الكيان في صراع وجودي مع ذاته قبل أعدائه، فبينما يظن نتنياهو أنه يكتب فصل الخلاص الأخير، فإن التاريخ ربما يسجل أنه كتب بأوهامه أول فصول النهاية.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025