من الصعب الحديث اليوم عن حركة فتح باعتبارها حركة تحرر وطني بالمعنى الذي وُلدت عليه في الستينيات، فالمتأمل في مسارها منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى اللحظة يدرك أن الحركة تحولت تدريجيًا من مشروع مقاومة إلى مؤسسة سلطوية تخضع لحسابات الاحتلال والمانحين والطبقة السياسية المنتفعة من الوضع القائم.
إن كل حديث عن إمكانية إنقاذ فتح من داخلها أو إعادتها إلى نهجها الأول هو في الحقيقة ضرب من التمني الذي يتجاهل التحولات البنيوية التي أصابت جسدها، ففتح اليوم ليست تلك الحركة التي كان القرار فيها نابعًا من قاعدة فدائية أو من الميدان، بل أصبحت جهازًا بيروقراطيًا محكومًا بعلاقات الراتب والولاء والخوف والطموح الشخصي.
ومنذ أن اغتالت إسرائيل ياسر عرفات وعيّنت محمود عباس وريثًا له، تغيرت هوية الحركة، إذ جرى ترويض مؤسساتها وتفريغها من مضمونها الثوري وربطها بمصالح السلطة القائمة على التنسيق الأمني والارتباط المالي بالاحتلال، وأصبح الولاء للقيادة الرسمية معيارًا للترقي والنجاة، بينما صار النقد جريمة والاختلاف خيانة.
تحولت فتح من تنظيم سياسي إلى ما يشبه القبيلة، الزعيم فيها هو المانح الأكبر والمتحكم في الرواتب والقرارات والسفر والعقوبات، وهذا الواقع صنع شبكة مصالح ضخمة تمتد من المقاطعة إلى أصغر مكاتب التنظيم، وباتت كل محاولة للإصلاح الداخلي تصطدم بجدار من الفساد والتخوين والمحسوبية، فكل من حاول أن يعيد فتح إلى مسارها الوطني انتهى مهمشًا أو مطرودًا أو صامتًا.
التجارب كثيرة ومتكررة، من القيادات التي خرجت من السجون الإسرائيلية إلى قيادات شريفة هُمِّشت بسبب تمسكها بالمواقف الوطنية والمعارضة لسياسات السلطة الكارثية والتي لم تستطع أن تغيّر شيئًا رغم رمزيتها وتاريخها، ووُصموا بأنهم لا يسيرون مع التيار، ثم جرى إقصاؤهم تدريجيًا حتى غاب صوتهم تمامًا، هذه السياسة الممنهجة أنتجت حركة خاوية من الكوادر الفاعلة، يغلب عليها جيل إداري بلا هوية نضالية، يرى في السلطة هدفًا لا وسيلة، وفي الاحتلال شريكًا لا عدوًا.
لقد تحولت فتح من فكرة جامعة للفلسطينيين إلى حزب حاكم يرفض التنازل عن امتيازاته، حتى لو كان الثمن هو ضياع القضية نفسها.
أما مروان البرغوثي الذي يعلّق عليه كثيرون الآمال، فهو بلا شك رمز نضالي كبير، ورجل يمتلك حضورًا جماهيريًا وتاريخًا مقاومًا، لكنه حين يخرج من السجن سيجد حركة لا تمت بصلة لتلك التي دخلها أسيرًا قبل عقدين، سيجد بنية بيروقراطية متكلسة، ومراكز قوى متحالفة مع الاحتلال، ونظامًا سياسيًا يضمن بقاءه عبر التنسيق الأمني والقمع الداخلي، وسيجد أن أي محاولة للثورة من الداخل ستُواجه بالقوة الناعمة أولًا عبر الإغراء والمناصب، ثم بالقمع والتشويه إن لزم الأمر، ففتح اليوم ليست حقلًا سياسيًا مفتوحًا، بل مؤسسة مغلقة على ذاتها تديرها قلة تتحكم في كل مفاصل القرار، ومروان إن أراد الإصلاح فسيواجه نفس مصير الإصلاحيين السابقين، إما التهميش أو الاغتيال السياسي أو الإخضاع عبر إدماجه في لعبة السلطة، لذلك فإن القول بأن مروان سيعيد فتح إلى نهجها الأول يتجاهل الحقيقة الجوهرية وهي أن التنظيم لم يعد قابلًا للإصلاح لأن بنيته تغيرت جذريًا، فالأيديولوجيا التي كانت تجمع أبناءه تلاشت، وحلت محلها مصالح شخصية وحسابات سلطوية، والارتباط العضوي مع الاحتلال جعل الحركة مكبّلة لا تستطيع حتى اتخاذ موقف ميداني أو سياسي دون موافقة تل أبيب أو التنسيق معها.
وهكذا فإن الأزمة ليست أزمة أفراد بل أزمة هوية وتنظيم وبنية، كل المحترمين داخل الحركة أصبحوا خارج القرار أو صمتوا حفاظًا على ما تبقى من مكانتهم، أما القواعد الشعبية التي كانت تحمل فتح في الماضي فقد تآكلت أو انتقلت ولاءاتها نحو تيارات المقاومة، لأن الشارع الفلسطيني لم يعد يرى في فتح حركة تحرر بل جهازًا من أجهزة الحكم.
إن الواقع يقول إن فتح اليوم تمثل المشروع السياسي الذي يريد الاحتلال استمراره، سلطة منزوعة الإرادة تحافظ على الاستقرار الأمني في الضفة مقابل استمرار التمويل وامتيازات النخبة، وفي هذا السياق يصبح الحديث عن الإصلاح أو النهوض نوعًا من الوهم السياسي، فالتنظيم الذي تأسس على المقاومة لا يمكن أن يعيش طويلًا بعد أن جعل من التنسيق الأمني عقيدة ومن الاحتلال شريكًا في الإدارة، لذلك فإن القول الواقعي المنصف هو أن فتح انتهت كحركة تحرر، وما بقي منها هو قشرة سلطوية تتحرك باسمها، وأن أي تغيير حقيقي في الساحة الفلسطينية لن يأتي من داخلها، بل من خارج منظومتها وبعيدًا عن نفوذها.
ربما في لحظة انهيار السلطة نفسها ستظهر فرصة لإعادة بناء الحركة الوطنية من جديد، لكن فتح الحالية في صورتها القائمة غير قادرة على ذلك، لأنها أصبحت أداة من أدوات الاحتلال أكثر مما هي أداة للتحرير، وهذه هي الحقيقة التي يجب الاعتراف بها مهما كانت مؤلمة.