غزة إلى أين؟

حضارات

مؤسسة حضارات

ليس سرّا أن الضغط الأمريكي غير المسبوق على مختلف الأطراف ساهمت بصورة مركزية في التوصل الى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ومن الواضح أن استمرارهذا الضغط من شأنه أن يحافظ على صمود هذا الاتفاق، مع السماح بهامش متاح للاحتلال لإحداث بعض الخروقات التي يشهدها الميدان في غزة..

اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعين يوما على هذا الاتفاق، يمكن طرح العديد من التساؤلات حول مستقبل هذا الاتفاق، وإمكانية صموده، رغم التعثرات القائمة: سياسيا وعسكريا، وما هي خيارات غزة والمقاومة إزاء التطورات الجارية، والمتوقعة لاحقا..

بات واضحا أن هذا الاتفاق الذي جاء ضمن خطة ترامب ذات العشرين نقطة، مليئا بالألغام القابلة للانفجار، والمطبّات الصعبة، ومع ذلك فقد وافقت المقاومة عليه، رغبة منها بوقف حرب الإبادة التي وصلت مستويات غير مسبوقة، وما قد يحصل عليه الاحتلال من ضوء أخضر أمريكي، وتواطؤ إقليمي دولي، في حال أعلنت المقاومة رفضها للاتفاق.

وطالما أن ذات الأسباب والدوافع التي دفعت المقاومة لتمرير هذا الاتفاق ما زالت قائمة، فإن المتوقع أن تواصل مسايرتها للاتفاق، مع إبلاغ الوسطاء والرأي العام بأي خرق من قبل الاحتلال، أو تلكؤ من قبل الإدارة الأمريكية، لاسيما وأن الورقة التي كانت تلوّح بها المتمثلة في المختطفين الأحياء والأموات تم التخلص منها.

مع العلم أن الجمهور الفلسطيني الذي لم يكد يتنفس من تبعات حرب الإبادة، يعتبر أن أي اتفاق، مهما بلغت مساوئه، هو أقل كلفة من عودة الحرب، ومع مرور الوقت يزداد الضغط الشعبي للمضيّ قدما في الاتفاق، بما في ذلك تبعات قرار مجلس الأمن التي يمكن اعتبارها قرار انتداب ووصاية على غزة، وبموافقة عربية وترحيب رسمي فلسطيني، رغم موقف الرفض الذي أصدرته المقاومة وحلفاؤها.

اليوم، وقد أوشكت المرحلة الأولى من الاتفاق من الانتهاء مع تسليم كافة المختطفين الأحياء، وجلّ جثامين الأموات، وبدء العد التنازلي للشروع في باقي مراحله، لاسيما قضايا نزع السلاح، والوجود السلطوي للحركة في غزة، لا يبدو أنها بصدد الانسحاب من الاتفاق، وستبقى تعلن رفضها لأي خروقات له، بجانب ممارسة الضغط على الوسطاء.

بغض النظر عن مدى دقة التسريبات التي تحدثت عن وجود صيغ ما متفق عليها حول مستقبل السلاح: الثقيل منه واليدوي، فلا يبدو أنه معضلة قد تحول دون الاستمرار في الاتفاق، فضلا عما يسود في بعض الأوساط المطلعة عن مرونة ما في هذا الموضوع.

أما عن الوجود السلطوي للحركة في غزة، فإن هناك حالة شعبية عامة تسعى لوجود إدارة حكومية تنجح في مساعيها للتخفيف من معاناتهم، لاسيما أولئك النازحين والمشردين، بهدف مراعاة مطالبهم واحتياجاتهم، وفي ظل الحراك الدائر على الساحتين الفلسطينية والإقليمية حول اللجنة الإدارية الخاصة بإدارة غزة، وما قطعته المفاوضات بشأنها من شوط طويل، فإننا أمام إعلان وشيك عنها، من خلال التوافق مع حماس.

وفق هذه القراءة، يمكن القول إن اتفاق وقف إطلاق النار سيصمد في الفترة القادمة، رغبة من الحركة بكفّ يد العدوان عن غزة، رغم عدم توقفه نهائياً، مما يعني استمرار وقف إطلاق النار، مع استنساخ ما، بطريقة أو بأخرى، للنموذج اللبناني!

عند الحديث عن الاحتلال، فليس سرّا أنه أجبر على التوصل لهذا الاتفاق، من خلال ضغوط ترامب، وانخراط إدارته المباشر في تفاصيل تنفيذه، من خلال مركز التنسيق في "كريات غات"، الأمر الذي يزعج الاحتلال كثيرا، لكنه لا يملك مزيدا من أدوات الرفض أمام إصرار ترامب وإدارته.

في الوقت ذاته، من الواضح أن الاحتلال الذي منح واشنطن توقيعه على الاتفاق بيده اليمنى، حصل باليد اليسرى على غض طرفها على خروقاته، وانتهاكاته المستمرة، دون العودة لمشهد الإبادة السابق، والموافقة على بعض شروطه وتحفظاته من تطبيق الاتفاق في مراحله اللاحقة، ومنها استجابتها لرفضه بوجود قوة عسكرية تركية ضمن القوة الدولية القادمة الى غزة، وإلغاء لقاء ويتكوف-الحية في اللحظات الأخيرة، والإصرار على عدم وجود السلطة الفلسطينية في غزة، ولو في المرحلة الأولى.

وطالما ان الاحتلال مقبل على انتخابات مبكرة، سواء في مارس أو يونيو، فمن المتوقع أن ينخرط في شئونه الداخلية، وتصبح الحكومة الحالية لتسيير الأعمال، مما سيجعلها أكثر استجابة للسياسات الأمريكية، التي ستكون أكثر أريحية في التعامل مع غزة، بحيث تكون صاحبة القول الفصل فيما يخصها، خاصة بعد قرار مجلس الأمن.

أما الوسطاء على اختلاف أسمائهم، فقد بات جلياً حرصهم على تثبيت وقف إطلاق النار، والانتقال الى مراحله اللاحقة، ولعل إناطة تطبيق الاتفاق بمصر والإمارات والاحتلال، يعني وجود توافق ما على ذلك، في ظل علاقاتهم الوطيدة، خاصة من خلال التحضير لعقد المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة في القاهرة أواخر نوفمبر، وضخ أبو ظبي للمزيد من الأموال في الآونة الأخيرة من خلال مساعداتها المقدمة للنازحين في القطاع.

أخيرا.. يمكن القول بكثير من الثقة أن الاتفاق وضع حرب الإبادة التي سادت بمظهرها الدموي خلال عامين خلف ظهورنا، رغم استمرار الغارات العدوانية بين حين وآخر، والتوغلات الميدانية بين منطقة وأخرى عند المنطقة الصفراء شرق القطاع، لكنها في مجملها تبقى تحت السيطرة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025