يعال ألتمن حدّاد
مقالات مجلة بيت التمويل
ترجمة حضارات
يُقال إن ضخّ "دم شاب" في المنظومة بين الحين والآخر ضروري كي لا تركد على أمجادها، ولتتلاءم مع روح الزمن، لا توجد مثال أفضل من السعودية لتوضيح صحة هذه المقولة، منذ اللحظة التي أخذ فيها ولي العهد محمد بن سلمان (MBS)، البالغ 39 عاماً، زمام الأمور بيده في 2016، أطلق "رؤية 2030"، التي تهدف إلى تحويل السعودية إلى دولة عصرية لا تعتمد اقتصادياً على النفط فقط، وتتبنّى التسامح الديني والانفتاح الثقافي. النتائج أمامكم.
1. الدولة
على غرار كثير من دول الحيّز المتوسطي، فإن جذور السعودية متجذّرة أيضاً في تدخّل قوى أوروبا في المنطقة، خلال الحرب العالمية الأولى اعترف البريطانيون بعبد العزيز بن سعود كسلطان على نجد، بعد الحرب احتلّ ابن سعود أراضي إضافية ووحّدها لكيان ترابي وسياسي واحد، بحيث أُقيمت في عام 1932 مملكة مطلقة، المملكة العربية السعودية، تحت قيادة بيت سعود.
تضمّ المملكة اليوم سكّاناً يبلغ عددهم نحو 35 مليون نسمة، دينهم الإسلام السني الوهابي (تفسير محافظ ومتشدّد خصوصاً للإسلام)، وهويتهم الوطنية ترتكز عليه إلى حدّ كبير، منذ تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد، شرعت السعودية في مسار بطيء لكن ثابت من الإصلاحات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يتجسّد التغيير في مصادر الهوية الوطنية التي انتقلت من الدين إلى رموز علمانية مثل الشعب، والفخر الوطني، والعلم، والنشيد، مع تشديد على إنجازات في مجالات متنوّعة مثل الرياضة، والتكنولوجيا، والدبلوماسية.
2. الاقتصاد
حتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، كان اقتصاد السعودية تقليدياً وبدوياً واعتمد أساساً على السياحة الدينية حول الحج (إلى مكة والمدينة)، ورعي الأغنام والإبل وما شابه ذلك، خطّ الفصل كان اكتشاف حقول نفط ضخمة في شرق الدولة، الأمر الذي أتاح الصعود إلى سكّة الحداثة وبناء بنى تحتية مثل شقّ الطرق، والموانئ، والمدارس، والمستشفيات.
القفزة الأكبر حدثت في عام 1973 نتيجة حظر النفط الذي فرضته دول OAPEC على الغرب، ثراء الخزينة انعكس في عمليات تحضّر وانتقال إلى نمط حياة أكثر عصرية، من خلال تمويل حكومي للإسكان والخدمات وسياسة رفاه واسعة، بالمقابل، الاستراتيجية الاقتصادية لمحمد بن سلمان هي تحويل السعودية إلى قوّة اقتصادية عصرية لا تعتمد فقط على النفط، ولأجل ذلك مطلوب تغيير عميق في مصادر الثروة.
لهذا الغرض تستثمر السعودية في تطوير مجالات مثل السياحة، والتكنولوجيا، والطاقة الخضراء، وفي خصخصة شركات حكومية، وتبادر إلى مشاريع بحجم عالمي.
3. المجتمع
على مدى عشرات السنين تميّز حكم بيت سعود بوجود "قبائل" ومجموعات منفصلة بعضها عن بعض وفقاً للأصل، والدين (سنّة/شيعة)، والمكانة، وما إلى ذلك، فيما لعبت العائلة الموسّعة دوراً مركزياً في هوية الفرد.
جانب جوهري كان النظام الأبوي المطلق، بحيث أُبعدت النساء تقريباً بصورة كاملة عن الحيّز العام وخضعن لسيطرة رجل، لم يُسمح لهن بالعمل، ولا بالتعلّم في دراسات عليا، ولا بالقيادة، ولا بالمشاركة في أحداث جماهيرية، لكن منذ نحو عقد يشهد المجتمع في السعودية تحوّلات بعيدة المدى.
محمد بن سلمان هو المسؤول عن قيادة مسار الانفتاح ولجم القوى المحافظة، بدعم عائلته وجيل الشباب في المملكة، تحت راية "رؤية 2030" التي عرضها، صحيح أن ولي العهد لا ينتهج ليبرالية كاملة، ولكن القوانين المتعلّقة بالنساء تغيّرت بشكل دراماتيكي، وظهرت فرص عمل جديدة، وأُعيد فتح دور السينما، والسعودية ترحّب اليوم بإقامة أحداث ثقافية وعروض، وكل ذلك بالتوازي مع تقييد نشاط "شرطة الدين".
4. الدين
الإسلام السني الوهابي هو الأساس لوجود الدولة السعودية، كونه تحالفاً بين حكم لم يُنتخب من الشعب وبين دين يمنحه الشرعية، حتى بعد إقامة الدولة الحديثة في 1932، استمرّ الإسلام الوهابي في الترسّخ عميقاً في الـDNA الخاص بكل مجالات الحياة.
ابتداءً من جهاز القانون، الذي استند إلى الشريعة كمصدر حصري، مروراً بالتعليم الذي كان في أيدي رجال دين محافظين، وانتهاءً بالحياة العامة التي شملت فصلًا صارماً بين الجنسين، وقمعاً للنساء، وحظراً على الكحول، ومنعاً للباس والثقافة الغربية، ورقابة مشدّدة، وغير ذلك.
على تطبيق كل ذلك أشرفت "شرطة الدين"، "المطاوعة"، حتى في هذا المجال خفّف محمد بن سلمان إلى حدّ ما القيود؛ فقد قلّص بشكل ملموس صلاحيات "المطاوعة"، وحدّ من قوّة رجال الدين، وأتاح تشريعاً عصرياً إلى جانب قوانين الشريعة (على سبيل المثال في المجال الجندري)، وفتح عالم الثقافة ودعا حفلات موسيقية ومهرجانات ومعارض إلى الرياض، ويتحدّث ضد التطرّف الديني ومع إسلام معتدل.
5. السياسة الخارجية
في مجال سياسة الخارج أيضاً، فإن السعودية ما قبل محمد بن سلمان كانت تُدار بصورة حذرة ومحافظة، وامتنعت عن التدخّل المباشر في النزاعات. تمحورت علاقاتها الخارجية أساساً حول كونها "قائدة الإسلام العالمي"، عبر تعزيز الإسلام الوهابي، وتمويل مؤسسات دينية، وما إلى ذلك، كما في الماضي كذلك اليوم، يُعتبر الإسلام الشيعي بقيادة إيران العدو المركزي للسعودية، إلى جانب الإخوان المسلمين (رغم كونهم سنّة، فإن رؤيتهم السياسية تزعزع أنظمة إسلامية محافظة).
محمد بن سلمان رفع السعودية إلى مرتبة لاعب في الملعب العالمي، مع سياسة خارجية مبادرة، من ناحية اقتصادية ومن ناحية أمنية أيضاً، على الصعيد الاقتصادي تعزّز السعودية علاقاتها مع قوى عظمى مثل الصين وروسيا عبر صفقات النفط، وتشتري وتطوّر بنفسها تكنولوجيات متقدّمة، وفي الوقت ذاته تحافظ على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة، الولايات المتحدة هي شريك استراتيجي في التوتّر المستمر منذ سنوات طويلة مقابل إيران، ولذلك فإن علاقات سليمة معها مهمّة جداً للسعودية.