الجدوى التعبوية للمقـ ـاومة الشعبية في الحالة الفلسطيينة 1/2

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

الجدوى التعبوية للمقاومة الشعبية 

في الحالة الفلسطينية 

( وجهة نظر ) 

1/2

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن المقاومة الشعبية ، وأنها من الممكن أن تكون وسيلة مهمة في دحر المحتل وإفشال خططه الرامية إلى ترسيخ احتلاله واستغلاله للموارد الوطنية في فلسطين ، الأمر الذي يتطلب نقاشاً وطرح أفكار ؛ لا نعتقد أنها بدعاً من الأمور ، خاصة وأننا نتحدث في موضوع سال فيه حبرٌ كثير وسُودت فيه صحائف طويلة . وعندما نستحضر هذا الموضوع فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا مقاومة غاندي أو ما يعرف بالتجربة الغاندية للمحتل البريطاني و " حملة الملح " التي بدأ فيها الرجل مقاومته برفض دفع ضريبة الملح التي كان المحتل البريطاني للهند يريد أن يفرضها على عموم الشعب ، وسار الرجل ـ غاندي ــ في مسار طويل أفضى إلى استقلال الهند وخروج البريطاني منها ؛ شكلاً بسحب عساكره منها ، وبقاؤه فيها مضموناً ؛ ببقاء مظاهر ثقافته البريطانية وعاداته لدى الطبقة الهندية المخملية ؛من اللغة حتى نمط الإفطار عند كبار القوم الذي يحوى المربى وخبز الــ ( توست ) والشاي . ثم دارت الأيام وبدأ الحديث عن المقاومة وأنماطها والقوة وأنواعها ، فكتب "جين شارب" الكاتب الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة  كتاب "سياسة الحراك السلمي" سنة 1973 الذي أصبح المرجع الرئيسي ــ تقريباً ـ لكل من يتحدث عن المقاومة اللاعنفية أو المقاومة الشعبية أو الحراك السلمي . ثم كتب مواطنه"جوزف ناي " والذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بل كلينتون ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني،كتاب " القوة الناعمة" وعدد مزاياها وأهميتها وكيف أن أمريكا اليوم بحاجة إلى هذه القوة الناعمة من أجل تحقيق أهدافها وحماية مصالحها الحيوية . ثم أصبح هذا الكتاب من أهم المراجع التي تتحدث عن القوة الناعمة والقوة الخشنة واللتين بدمجهما معاً يولدان "القوة الذكية " التي كانت تتحدث عنها وزيرة الخارجة الأمريكة هلاري كلنتون على أنها هي التي تحتاجها أمريكا لتحقيق مصالحها الحيوية في العالم والدفاع عنها حيثما كانت . 

وهنا نسأل مجموعة أسئلة ستشكل الهيكل العظمي لوجهة النظر هذه والتي سنخلص منها إلى تحديد الجدوى التعبوية للمقاومة الشعبية في حالتنا الفلسطينية لمقاومة هذا المحتل الذي عشعش في كل زوايا البلد ؛ جغرافياً وموضوعياً ، فنقول : 

  1. هل هناك من أوجه شبه بين تجربة الشعب الهندي مع محتله البريطاني وبين احتلال الصهاينة لفلسطين ؟
  2. ما هي أوجه الاختلاف بين كلا الاحتلالين ؟ 
  3. ما هو الموقع الذي تشكله المقاومة الشعبية في مسار نضال الشعوب المحتلة أرضهم من قبل محتل يشبه المحتل لأرضنا ؟
  4. هل يمكن أن تشكل المقاومة الشعبية الجهد الرئيسي للفعل النضالي تفضي إلى تحرير الأرض والانسان ؟ 
  5. أم أنها تشكل جهداً ثانوياً في ذاك المسار ، يجب أن لا يستغنى عنه ، وفي نفس الوقت لا يركن له فقط ؟ 

لقد جاء البريطاني إلى الهند ، أرض العاج والتوابل زاعماً أن فيها قوماً أميين (جهلة) تأكلهم الأمراض وتفتك فيهم الأوبئة ، يمتلكون فائضاً من الجغرافيا التي تزخر بالموارد البشرية والطبيعة ، من ماء وغذاء وغابات تختزن في جوفها من النباتات والأعشاب ، ما لو أحسن استثمارها وإدارتها ــ الموارد ــ لتخلص أهلها من الجوع والأمراض والأوبئة ، كما أنه في تلك الأثناء ؛ يمكن أن يؤمن من تلك الموارد ما يحتاجه التاج البريطاني من متطلبات الأبهة والعظمة من عاج وخدم وحشم وطعام وتوابل . ولم يأتي زاعماً أنه يريد أن يحتل الأرض ويخرج أهلها منها ، أو أنه يريد أن يجلي أهلها عنها ويسكن في مكانهم جاليات انكليزية يأتي بها من مملكته التي كانت لا تغيب عنها الشمس في ذلك الحين ، وعلى ذلك بنى قصته وروايته لعمليات الاستغلال ونهب الثروات. 

وعليه فإنه يحق لمن يتحمل مسؤولية تثقيف وتعليم هؤلاء القوم (الجهلة) أن يأخذ مقابل ما يعانيه من تعب ونصب ، قليل من خيرات تلك القارة .

 لذلك عندما قام المهاتما غاندي في ( ثورته ) وبدأ حراكه ، حمل نول نسيجه وتأزر بمئزره ذارعاً الهند طولاً وعرضاً محرضاً أهلها وبنيها على هذا المحتل ، لم يكن جزء من خطابه أن البريطانيين جاؤوا من أجل احتلال بلادكم واحلال غيركم فيها ؛ وإنما كان جل خطابه أن هذا المحتل ينهب ثرواتكم ويقضي على مقدراتكم ويسخركم في الأرض تحرثونها وتزرعونها ، ثم يؤثر نفسه بما لذ وطاب وخف وزنه وغلا ثمنه تاركاً لكم الفتات تتناهشونه ، كما أنه ــ المحتل الانكليزي ـــ بدلاً من أن يترك أبناء البلد يبذلون جهدهم في زرع أرضهم ورعاية مصالحهم لترتقي بلدهم ويهنأ ناسهم ؛ يعمد إلى تجنيدهم سخرةً مشكلاً منهم الفيلق الهندي الذي يقاتل تحت راية التاج البريطاني في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ضد شعوب وأناس لا يعرفونهم إبتداءً ، فضلاً عن أن بينهم وبينهم عدواة أو ثأراً انتهاءً . إن مثل هذا المحتل بمثل تلك الرواية التي هو يقولها ويعترف بها ، فضلاً عن أن المحتلة أرضهم يقولونها ومقتنعون بها ؛ إن مثل هذا المحتل ليس من المستحيل ــ وإن كان صعباً ــ أن يقاوم بصنوف وتكتيكات المقاومة الشعبية وإجراءاتها ، من قبيل المظاهرات والعصيان المدني والامتناع عن دفع الضرائب والفواتير المالية ، والإمتناع عن مراجعته في فض الخلافات والمنازعات وعرض اللوحات الفنية المعبرة ورفع الأعلام والألوان الرمزية وارتداء الرموز الوطنية المعبرة ،  وباقي تلك الأعمال التي تندرج تحت بند المقاومة الشعبية . 

أما في حالة مثل الحالة الفلسطينية ؛ فقد جاء المحتل متسلحاً بوعد من لا يملك لمن لا يستحق ــ وعد بلفور ــ في يد ، وفي اليد الأخرى ( وعداً ) إلهياً مزعوماً أن الأرض لله أورثهم إياها ووعدهم بها منذ أن تابوا وأنابوا وتطهروا أربعين سنة في صحراء سيناء ، وعليه هم في القانوني الوضعي والقانوني الإلهي (ملاك ) لهذه الأرض التي يزاحمهم فيها قوم آخرون يجب أن يخرجوا منها ، ليتسع الضيق وتكفي الموارد . فجاؤوا واستوطنوا واحتلوا ومات الأولون وورثهم الآخرون ــ الجيل الثاني ــ الذين ولدوا في هذه البلاد وتفتحت أعينهم عليها وشبوا وشابوا فيها ، فهم لا يعرفون غيرها موطناً أو مسكناً ، حتى لو حمل الكثير منهم جنسيات أجدادهم أو آبائهم الأولين ، فبأي حق يخرجوا وبأي قانون ينتزع منهم ما (ورثوه) عن آبائهم وأجدادهم . إننا نقاتل قوماً يرون في فلسطين الموطن الأول والآخير ، فيها ولدوا وأنجبوا ، وفيها تعلموا وعلموا ، وفيها قبور الآباء والأجداد ، فهل تنثني لهم قناة أو يلين له عزم ، بمظاهرة هنا أو مظاهرة هناك ، أو باعتصام هنا ومسيرة هناك ، وهل يضيرهم أن لا تدفع لهم الضرائب أو الفواتير ؟ فإن فعلت ، فقد أرحتهم من ( خدمات ) كانوا يقدمونها لك سيعيدون توجيهها إلى بنى جلدتهم ، أم أن عدم مراجعة مراكزهم الحكومية ستضيرهم في شيء ـــ هذا لو كنا قادرين على فعل ذلك أصلا ـــــ فقد صنع هذا المحتل شبكة من الإجراءات البيروقراطية تجعلنا غير قادرين البتة على عدم مراجعتها أو الاستعانة بها ، وإلا أصبحنا أشباحاً غير مرئيين بأسماء يعرفنا بها أهلنا وذوونا ، لا تمنحنا أن صفة أو مركز قانوني قد نحتاجه عند الضرورات والملمات ، وفي نفس الوقت ليس هناك بديل عن هذا النظام الإداري الذي يملك منحك أو سلبك الصفة القانونية أمام مختلف الجهات والمرجعيات . 

كما أن هذا المحتل لديه طبيعة شخصية جبلت على حب ال ( حياة ) مطلق حياة ، وهو مستعد أن يتعايش ويصبر على الأمراض والأوجاع التي تصاحب هذه الحياة بأخذ المسكنات وتخفيف الإلتهابات ، أو دفع ضرائب البقاء على قيد الحياة ، فلا يعمد إلى التخلص من الألم بنزعه من جذوره مبتعداً عن مكان المرض والبيئة الموبوءة ، فلن يغادر المكان الذي فيه جدوى وفائدة أكثر من الأكلاف التي تسببها مظاهر العصيان والتمرد تلك ، ما لم تصل إلى درجة  تسبب له ألماً لا يمكن أن يُتخلص منه إلا بالبتر ( الحرب وطرد الكل الفلسطيني ) أو المغادرة والبحث عن بيئة ( نقية ) لا يوجد فيها من (الفيروسات والأمراض والأوبئة) ما في بيئته التي خرج منها ؛ الأمور ــ الطرد ، المغادرة ـــ غير المتيسرة ، كون من سينتقل عندهم يرون فيه حاملاً لفيروس لا يمكن التعايش معه . إن مثل هذه الشخصية لا يمكن أن تخرجها مظاهرة أو اعتصام أو تنديد أو عصيان مدني أو رفع علم وطلي جدار بشعار، بل لابد لهذا الداء ما وصف كآخر دواء ؛ الكي بالنار والحديد. 

لقد بينا في هذه المطالعة السريعة ، أننا أمام محتل جاء ليبقى ، يرى أنه ضحى كما نحن نضحي ، ولد في الأرض كما ولدنا ، يمكن أن يعيش مع بعض الآلام والمنغصات ، ويمكن أن يقدم بعض الهبات والتسهيلات ، ولكنه لن يخرج بكرم أخلاق ولا عن طيب خاطر ، ما لم يصل إلى نتيجة خلاصتها أن الحديد قد وضع في النار وأن دواءنا له هو الكي والشيّ ، وعليه أن يختار بين البقاء فيكوى ؛ أو المغادرة فيسلم .

كانت هذه هي أرضية الموضوع التي تصف الموقف الذي نحن بصدده ، على أن نستكمل في الجزء الثاني بقية مفردات البحث لنصل إلى خلاصة جدوى المقاومة الشعبية في القضية الفلسطينية . 

عبد الله أمين 

30 11 2020



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023