المناورة البرية لسلاح المشاة الإسرائيلية (المستجدات ... والمقتضيات )

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

المناورة البرية لسلاح المشاة الإسرائيلية 

المستجدات ... والمقتضيات 




يقول الصحفي غال بيرل فينكل في مقال نشره المصدر السياسي في عدده رقم 9840 المنشور يوم الأربعاء في 09 12 2020 نقلاً عن نشرة " نظرة عليا " ما نصه أن : " العدو في المناورةالبرية انكشفت له في السنوات الاخيرة فجوتان مركزيتان: في القدرة على توفير رد على نار المقذوفات الصاروخية والصواريخ نحو الجبهة الاسرائيلية الداخلية وفي القدرة على حرمان العدو بسرعةوبتواصل من قدراته في مراكز ثقله. وبالتالي تبلور في الذراع البري في الجيش الاسرائيلي مفهوم مناورة يتمثل بـالتثبيت،الكشف،الجمع،الضرب،الهجوم " . لكن الأصل المنطقي والتسلسل التعبوي للعمل على الأهداف العسكرية يقتضي أن يكون الترتيب الإجرائي على غير ما جاء في تلك المفاهيم ، بحيث يكون على النحو الآتي : الجمع ، الكشف ، التثبيت ، الضرب ، الهجوم . فأنت تجمع المعلومات عن الهدف ، ثم تقوم بكشفه بما امتلكت معلومات ومعطيات عنه ومن ثم تعمد إلى تثبيته بحيث لا يستيطع المناورة أو القيام بأي إجراء مقابل لما ستقوم به من إجراءات ، ثم يلي ذلك ضربه بوسائط النار المناسبة بحيث يتم تليينه وتقليم أظافره ، وفي المرحلة النهائية تقوم باستثمار تفوقك عليه بعملية هجومية تقضي على ما تبقى فيه من مصادر خطر أو عناصر من بشر . فتحقق النصر عليه وتحسم الموقف لصالحك . 

وحيث أن العدو وكما هو معروف عنه أنه يستخلص العبر والدروس من حروبه ومناوراته ويوظف ما خلص له من نتائج لتطوير قدراته المادية والبشرية والفنية ، ويدرب مقاتليه على تكتيكات عمل تراعي ما استخلص من عبر ودروس . ولما كان الترتيب في تلك المفاهيم لم يأتِ على سبيل السرد غير المراعي للإجراء التعبوي ، وإنما تم ترتيب تلك المفاهيم عن قصد وسبق إصرار ، الأمر الذي يوحي أن هناك ما استجد على العدو ، كانت نتائجه على تلك الشاكلة . وهنا نسأل ما هو هذا المستجد الذي فرض نفسه على مناورة العدو البرية ؟ والتي يرى خلاصه فيها عند خروجه للتعامل مع التهديد في الجبهتين الجنوبية ( غزة ) والشمالية ( لبنان والجولان ) .

نعتقد أن ما استجد على الموقف الشاخص أمام العدو والذي فرض عليه تلك التغييرات يكمن في مجموعة من المتغييرات طرأت على مسرح عملياته نأتي على أهمها : 

  1. شح في مصادر المعلومات : نعلم أن العدو لديه جهاز معلومات ممثل بأجهزة استخبارات داخلية وخارجية تجمع له المعلومات وفقاً لاحتياجه المعلوماتي ؛ القريب والمتوسط والبعيد المدى ، مستخدمة ــ أجهزة الاستخبارات ــ كل ما يتاح لها من مصدر المعلومات ؛ المغلقة منها والمفتوحه ، فمن المصادر البشرية إلى المصادر الإلكترونية على اختلافها ، إلى التجسس والتنصت مروراً بالوسائط الجوية غير المأهولة ، من طائرات بلا طيار إلى المناطيد التي يقوم بنصبها في أماكن العمليات أو الأماكن التي يتوقع منها الخطر ، مما يتيح له ( إشرافاً ) معلوماتياً على مكامن التهديد يوظفه عند الحاجة. إن ترتيب تلك المفاهيم المرتبطة في المناورة البرية ، يوحي أن العدو أصبح لديه مشكلة في جمع المعلومات الصلبة وتحصيلها عن أهدافه التي يريد العمل عليها ؛ والمتابع للضربات الأمنية التي حلت في أذرع العدو الأمنية والمعلوماتية في غزة وفي لبنان ؛ يرى شواهد كثيرة تدلل على هذا الأمر ، فقد ضُربت له مصادر بشرية وخلايا جمع معلومات في كلتا الساحتين في السنوات الأخيرة بحيث أصبح جهاز معلوماته المعتمد على العنصر البشري يعاني في تحصيل المعلومات الصلبة عن الاهداف المنوي العمل عليها أو التحرك لضربها بشكل استباقي أو خلال أي عمل عسكري . كما أن خصومه في حركات المقاومة أصبح لديهم من القدرات والخبرات الفنية والتقنية والالكترونية ما يمكنهم من إفشال ما يقوم به على هذا الصعيد ، فلم يعد هو صاحب اليد العليا في هذا المجال ؛ وإن كان يسبقنا بخطوات . 
  2. أمن وقائي عالي : وكما أن العدو يستخلص عبره ودورسه من مناوراته واخفاقاته ؛ فإن المقاومة في غزة وفي لبنان أيضاً تحلل وتدرس طرق عمل العدو ضدها ، وتستخلص هي الأخرى دورساً وعبراً من تقصيرها أو إخفاقاتها في أي عمل مبادر تقوم هي به أو يقوم العدو به ضدها  ، الأمر الذي راكم خبرة إلى خبرتها وعلماً إلى علومها ، ومن أهم هذه العبر ؛ أن العدو لا يقوم بأي عمل عسكريٍ أو أمنيٍ ضدها ما لم يكن لديه من المعلومات والمواكبة وإمكانية السيطرة على مجريات الأحداث والجغرافيا ، ما يقدّر معه أنه سيخرج إلى عملية ناجحة بجدوى عالية وأكلاف منخفضة، لذلك قامت المقاومة في غزة وفي لبنان بتقوية بنيتها المناعية من خلال تقوية أجهزة أمنها الوقائي ، وتحكمها وإشرافها المعلوماتي على ساحات عملها وجغرافيات تواجدها ، فغدا العدو أعشى النظر قصير البصر . 
  3. تطويع الجغرافيا : كما أن المقاومة في غزة في ولبنان طوعت الجغرافيا لصالحها ، فحيث كانت حركات المقاومة في السابق ترى في سطح الجغرافيا ميداناً للعمل والتحرك ، فتموضع مصادر نارها وتنشرها على طول هذه الجغرافيا وعرضها حين لم يكن في ذاك للعدو قدرة على تسطيح ساحة المعركة ومناطق العمليات ؛ فلما ملك العدو ما ملك من قدرات وتقنيات سطحت له الأرض وكشفتها ؛ عمدت المقاومة إلى الاستفادة من باطن الأرض فانتشرت فيها وداخلها ، مما جعل العدو لا يرى إلا ما نحن نريد أن يرى أو ما غفلنا عنه فظهر وبدى ، لذلك لم تعد الأهداف مكشوفة ظاهرة فتجمع عنها المعلوماتثم تثبت لتضرب وتهاجم ، فكان ما كان من طارئ على مناورة العدو البرية ، عاكساً المفاهيم التعبوية عامداً إلى تثبيت ما ظهر من الأهداف كاشفاً لها بتسليط أدوات المراقبة والمتابعة عليها جامعاً لما خفي عنه من معلومات عنها مسلطاً عليها مصادر ناره لضربها مستثمراً نجاحه ــ إن تحقق ــ لمهاجمتها وتدمير ما تبقى منه .  
  4. تغير طرق العمل ووسائل تفعيل القدرات النارية : كما أن المقاومة عمدت إلى آليات تفعيل القدرات القتالية لديها ونوعت طرق استخدامها وغيرت فيها ، فحيث كانت أطقم تشغيل المنظومات النارية في بعض الوسائط القتالية تحتاج إلى عدد من الجنود والكوادر لتشغيلها ، الأمر الذي يزيد من مستوى بصماتها الرادارية المساعدة على كشفها ، جاءت المقاومة فأعدت نفسها وموضعت وسائط نارها بأقل الأعداد البشرية ، وبمختلف تقنيات التشغيل اليدوية والإلكترونية ، مما حرم العدو من القدرة على تتبع وكشف قواعد النار التي تفتح عليه بين الفينة والأخرى . 

وعليه ... أما وأن الموقف على ما شرحنا وأسهبنا ، وحيث أن العدو جسم لا يهدأ ومؤسسة متفرغة لمتابعة كل شاردة وواردة عن المقاومة ، متمتعاً بطول نفس على المتابعة يحسد عليه ، فيجمع عنها نُتف المعلومات مكوناً منها تقارير وصفية ومعطيات حقيقة ؛ كان لا بد لنا من تقديم بعض المقتضيات التي نرى أنها تسهم في تعقيد الموقف على العدو ، فيفشل في تنزيل خبراته المكتسبة من مناورته على الأرض ؛ فيبقى في مربع أزمته مع المقاومة ؛حيث كانت وحيث عملت ، من هذه المقتضيات والتي لا نعتقد أن تخفى على أهل الاختصاص ما يأتي : 

مقتضيات المقاومة التعبوية لمواجهة المناورة البرية الإسرائيلية : 

  1. نشر فوهات النار على أوسع جغرافيا : إن أول ما تقتضيه مستجدات مناورة العدو البرية هو نشر وتوزيع فوهات النار وقواعدها على أكبر جغرافيا ممكنة من الأرض ، الأمر الذي يتطلب من العدو بذل جهد أكبر وتشغيل  مصادر جمع أكثر ، مما يساعد المقاومة على توقع حركات العدو وكشف نواياه وتحويل هذا التهديد إلى فرصة من خلال تضليل العدو وخداعه وتركه في غيه سادراً إلى حين توفر الفرصة المناسبة للانقضاض عليه وضرب مخططاته .
  2. تعدد فوهات النار ومصادرها على الهدف الواحد : كما أن من مقتضيات ذاك التغيير في المناورة ؛ تعدد فوهات النار وقواعدها الموجهة والمصفرة على هدف واحد ، بحيث لا يقدر العدو على تثبيتها عند الإطلاقة الأولى ، لتشتت وسائط رصده وجمع معلوماته  المفعلة في منطقة العمليات ، فإن هو كشف منصة ؛ فستستهدفه أخرى ، وإن هو ثبت فوهة نار فستفتح عليه ثانية ، في عملية تملص ترهق مصادره وأدوات رصده ؛ البشرية والفنية . 
  3. الابتعاد عن الأتمتة : كما يساعد في إفشال إجراءات العدو خاصة في مراحل التثبيت والكشف والجمع ؛ الابتعاد عن الاعتماد الكلي على ( أتمتة ) النار والاستفادة بالحد الأدنى من وسائط التفعيل الاتوماتيكة أو الرقمية ، كون هذه الوسائط لا بد لها من تقاطع هنا أو هناك مع التكنلوجيا الرقمية ، وعدونا في هذا المجال ذو باع طويل وقدرة سيطرة نعلم عنها ومنها القليل ، وإسلام الأمر لها والاستناد عليها يعني فيما يعني أننا نلعب في ملعب العدو ووفقاً لشروطه وقوانين لعبه ، وهنا مظنة الخطر على المقاومة ؛بشراً وحجر . 
  4. التمويه العالي والدفاع السلبي الفاعل : كما أن من أهم الإجراءات التي تكسر حلقة عمل العدو التعبوية تلك ــ التثبيت ، الكشف ، الجمع ، الضرب ، الهجوم ــ القيام بعمليات التمويه والتستر واستخدام إجراءات الدفاع السلبي بكل مقتضياتها وملاحظاتها وإجراءاتها ، مما يحرم العدو من إمساك طرف خيط إجراءاته المشار لها ، فنحرمه من منصة انطلاق نحو تحقيق أهدافه . 
  5. الإمداد المسبق للمنصات النارية : إن العدو أثناء العمليات ووفقاً لتلك الإجراءات يبحث عن أي فوهة نار منشورة في منطقة العمليات ، قبل وبعد التفعيل ، ليعمد إلى تثبيتها ومن ثم إجراء باقي خطوات مناورته عليها ، فيحرم المقاومة من منصة نار هي بأمس الحاجة لها ، لذلك على المقاومة أن تجهز منصاتها وقواعد نارها بحيث لا يتطلب إمدادها بأسباب الحياة والفاعلية أثناء العمليات القيام بأي جهد زائد عن الحد يمثل أثراً يبحث عنه العدو ليوصله إلى مبتغاه ، لذلك يجب أن تجهز هذه القواعد بوحداتها النارية وذخائرها الهجومة والدفاعية بشكل مسبق ، فتكتفي ذاتياً طول لمدة المقدرة لفترة الاشتباك المتوقع مع العدو ، فتسكُن عن الحركة ؛ ذاتاً ومحيطاً ، وحينها سوف تصبح تَرى ولا تُرى ، وتُؤذي ولا تؤذى . 
  6. القيادة ( اللامركزية ) للأطقم النارية : وحيث أن العدو يملك القدرة على تتبع عمليات القيادة والسيطرة التي تعمل في ميدان المعركة من خلال تشغيل أدوات الاتصال والتواصل بمختلف أنواعها ، كان لا بد من أن يتم إعمال اللامركزية في عمليات قيادة منصات النار وقواعدها ، وكذا مجاميع المقاومين المشتبكين مع العدو على الحافة الأمامية لمنطقة العمليات ، بحيث يفهم كل قائد قاعدة نار أو مجموعة مشاة الاتجاه العام للعمليات والأهداف المطلوب منه تحقيقها وبشكل دقيق ، مع إعطائه هامش مناورة في اتخاذ المناسب من القرارات التي يفرضها الموقف الميداني ، فإن حصل وقررت القيادة قطع التواصل مع القوات العاملة على الأرض ؛ قطعته وهي مطمئنة إلى أن سير العمليات والمقاومة لا تتأثر بهذا الانقطاع وأنها تسير في الإتجاه المرسوم لها ، دون خوف من أن تنحرف عن أصل الهدف الذي خرجت له المقاومة ، ألا وهو منع العدو من تحقيق أهدافه التي يناور براً وبحراً وجواً لتحقيقها . 

كان هذا ما اتسع له المقام في هذه العجالة ، آملين أن يكون هذا المقال محفزاً لأهل الاختصاص لمراجعة الإجراءات التعبوية للعدو والتدقيق فيها ، فنسلب منه حرية العمل والمبادرة ، المطلوبان لتحقيق الأهداف والسيطرة على الموقف . مشيرين إلى أن هذه الإجراءات المتخذة لا بد أن يواكبها تمارين ومناورات تعبوية على مستوى الوحدات والأركان ، الهدف منها التأكد من أن القيام بها يتم على أكفأ وجه وبأعلى مستويات التنسيق وأسلسها بين مختلف الصنوف والاختصاصات ، مع رعاية أصل التأمين الشامل ، فأمن العمليات ؛ أهم أصل من أصول ضمان نجاح الإجراءات . 

عبد الله أمين 

14 12 2020




جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023