انطلاق المؤتمر الحركي الأول للحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية

        لا زال الأسرى الفلسطينيون يتحدون المساحات والأرقام، ويخرجون من عزلتهم، ويتفاعلون مع قضايا المجتمع سواء الفلسطيني أو العربي أوالدولي، وقد شهد أواخر العام المنصرم 2020 تطورًا ملحوظًا، ونقلة نوعية في عبقرية أسرانا وقدرتهم على تجاوز المستحيلات ووضع بصمتهم العلمية والبحثية، فقد أنهى الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، وبالتعاون مع مركز حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية مؤتمرهم العلمي الأول في أوائل ديسمبر 2020، وذلك في سابقة تحدث لأول مرة، وتشير إلى الدور الكبير الذي يلعبه الأسرى الفلسطينيون في تعزيز المعرفة، والتأثير في صناعة القرار الفلسطيني، وقد قدم أكثر من 22 أسيرًا فلسطينيًا من مختلف سجون الاحتلال أوراقا بحثية في شتى المواضيع، وقد شارك في المؤتمر نخب من الأسرى الذي سجلوا بصماتهم في خنادق الجهاد والعلم، وتركوا آثارهم ونتاجهم الفكري يطغى على سجانهم، الذي ما فتئ يحاول جعل سجونهم مقابرًا وأرقامًا، فجعلوها حلق علم، وموائد فكر، وساحات حوارٍ. 
وقد أشرف على المؤتمر اللجنة السياسية التي يترأسها الأستاذ الباحث والأسير الفلسطيني وأحد عمداء الأسرى عبد الناصر عيسى، وقد هدف أسرانا حسب عيسى إلى تعزيز وتمكين مخرجات الأسرى وترك قيمتها وأثرها على القرار الفلسطيني، وإبراز قدرتهم على تخطي كل التحديات، وتحويل عناصر القهر إلى أدوات إبداعية؛ للانخراط بالمجتمع، والأطر العلمية، ومواكبة الحداثة ومخرجاتها، وقراءة التحولات السياسية، وتحليل وفهم دور العلاقات الدولية في خلق مساحة للتوتر في الشرق الأوسط، وتقييمهم للدور الخارجي في مواكبة أهم التحديات والظروف التي يتعرض لها الأسرى داخل السجون، في محاولة لتعزيز التواصل والتشبيك بين الأسرى في الداخل ومجتمعهم الفلسطيني. 
في بداية المؤتمر والذي عقد في السابع من ديسمبر افتتحه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بكلمة، قد وصلت الأسرى بارك فيها خطوتهم الإبداعية، وقدرتهم على الاندماج في القضايا المجتمعية، فقد قال هنية: ينعقد هذا المؤتمر في قلاع الأسر التي شكلت في مسيرة شعبنا وحركتنا المباركة فضاءً يتلاقى فيه رجال المهام الصعبة وصانعي الأحداث الكبرى والتحولات الاستراتيجية في خضم الصراع الطويل مع العدو الصهيوني.
وأردف هنية: نسأل الله تعالى أن يعجل لكم بالفرح وأن يعيننا على تحريركم وكسر قيدكم ويتكرر نصرنا في صفقة جديدة بإذن الله.
وفي الحديث عن أهمية المؤتمر قال هنية: يعقد هذا المؤتمر العلمي الأول بأياد وجهود حركية خالصة؛ كي نقف ونفكر بشكل جمعي وفق أسس منهجية علمية؛ لنعمل على تحويل عناصر القوة التي نملكها إلى طاقات عمل متفجرة في مختلف المجالات، ونعمل على فهم الواقع من أجل تغييره وتطويره، وكذلك تحديد التحديات ومحاولة خلق البدائل والفرص وتحييد بعض الجبهات أو تسكينها من أجل التفرغ لحالة الصراع والتناقض الرئيس مع الاحتلال. 
وأضاف هنية مبرزًا دور المؤتمر في خدمة البحث العلمي: يأتي انعقاد هذا المؤتمر لأول مرة على مستوى الحركة انطلاقا من الإيمان العميق بأهمية وضرورة البحث العلمي، ومعالجة قضايانا بشكل منهجي هادئ، يضع في الاعتبار كافة الأصول والمنهجيات الفكرية والعلمية والعملية، ويضع الأسس القادرة على تحقيق أفضل قدر من الإنجاز بأقل قدر من الجهد وأكثر جودة وإدارية. 

وأكد هنية على دور الأوراق المقدمة في دعم روافد استراتيجة الحركة البحثية والفكرية داخل منظومة الأسر في دعم القرار القيادي، قائلًا: هذه الأوراق المقدمة والأبحاث المعدة لها عظيم فائدة في رفد قيادة الحركة بما يقوى البصر والبصيرة ويضع النقاط على الكثير من الحروف ويرفع المقترحات التي من شأنها تعزيز المسار والفصل بين الخيارات المتشابهة.
ثم بدأت فعاليات المؤتمر والتي استمرت من 7-10 ديسمبر، 
        وقد انقسمت محاور المؤتمر إلى ثلاثة محاور وهي: 
- في اليوم الأول تم مناقشة آفاق اتفاق المصالحة الفلسطينية، وقد عرض الأسير الفلسطيني الباحث: معتصم سمارة ورقة بحثية بعنوان: المصالحة الفلسطينية بين الواقع والمأمول، عرض فيها مسيرة الحركتين "فتح وحماس" والجذور العميقة للانقسام، والتي ترتب عليها الانقسام الفعلي في منتصف 2007، ثم عرض لأبرز دوافع المصالحة لحماس وفتح، ومساعي الحركتين لتحقيقها، تبعًا لمصالح كل فريق؛ للخروج من أزمة تخص أيدولوجيته، ثم عرض لأهم المعيقات التي تقف حائلًا دون إتمام المصالحة، وعرض أهم سيناريوهات المصالحة لإتمامها. 
وفي ورقة بحثية بعنوان: في إعادة الاعتبار لمصطلح الخيانة قدمها الأسير الباحث: إبراهيم كريم، عرض فيها لمصطلح الخيانة بين الثابت والمتغير، فيظهر ما مر على المصطلح من تحويرات وتغيرات وتكيفات، ومحاولة البعض تخريج السلوكيات لغير الخيانة، وإفراغ قراراتهم من المحتوى الأخلاقي؛ لتصبح وجهات نظر؛ وإلباس مساعيهم واتفاقياتهم ثوب "السلام"، وبالتالي فإنه رغم الانزياحان والانحرافات للمصطلح تظل الخيانة خيانة من وجهة الباحث. 
        وقد عرض الباحث الدكتور نزار رمضان لمستقبل المصالحة وانعكاساتها على حماس، تناول في بحثه الحرب الضروس ضد حماس سواء من المجتمع المحلي، أو على الصعيد الإقليمي والعربي والدولي، واضطرار حماس للانقسام، وأهم ما ترتب عليه، ودفعت ثمنه الباهظ، ثم تناول انعكاس هذا الانقسام على الشعب الفلسطيني، والقرار الفلسطيني العام، ومستقبل الشراكة الفلسطينية، ثم عرض لحاجة حماس للمصالحة والحوار، وأوصى الباحث بضرورة أن تكون المصالحة حاضرة في أجندة حماس دائما.
        وقدم الأسير محمود عزالدين ورقة بحثية بعنوان: المشروع الوطني الفلسطيني "أزمة قيادة" دق فيها ناقوس الخطر وبين مدى بعد وانحراف القيادات الفلسطينية الحالية – بشكل عام – عن النموذج المثالي للقيادة الوطنية المخلصة الفعالة، وبين فيها  الأثر والفراغ الكبير الذي يتركه غياب الزعيم الملهم، والقائد الاستثنائي على المشروع الفلسطيني، إلى جانب المزيد من الأوراق البحثية الأخرى في هذا الشأن.    

        وفي اليوم الثاني من المؤتمر والذي تناول موضوع العلاقات الدولية وأثرها على المجتمع الفلسطيني، أظهرت فيه البحوث أهمية العلاقة التي تكونها حماس مع الدول، وحاجتها الملحّة لإنجاح قضيتها، وإعلاء صوت رسالتها، من خلال دعم هذه الدول أيًا كان فكرها ومعتقدها، فقد عرض الباحث الأسير الفلسطيني: مهند عبدالله تجربة حماس في علاقاتها الدولية في ورقة بعنوان: حماس والمنظومة الدولية: قراءة وتقييم للتجربة. 
        قدم في الورقة التجربة الفريدة لحركة المقاومة الإسلامية-حماس، على أرض فلسطين، التي استطاعت التعامل مع التغيرات حولها، وفرضت نفسها في المعادلة الدولية، ومن هنا تبرز أهمية هذه الورقة بكونها تدرس تجربة الحركة على الساحة الدولية، رغم وصفها بالإرهاب، حماس من خلال آراء من كانوا في دائرة صنع القرار داخلها، وعرجت على أهم معايير حماس في سياستها الدولية، والتي لا تقوم على أساس الثوابت والمبادئ. 
        وقدم الأسير مروان أبو فارة ورقة بحثية بعنوان: علاقة حماس وإيران بين فقه الدعوة والواقع، فرق فيها بين الموقف العقدي والموقف السياسي في تكوين العلاقة، وأن قاعدة العلاقة قائمة على الاستصلاح، ودعا حماس لتوضيح طبيعة هذه العلاقة لتبرئتها أمام الوعي الجمعي، وعرض لأدلة الرافضين للعلاقة داخل الصف، وكذلك المؤيدين لها، ثم وقف موقفًا حياديًا من انعكاسات هذه العلاقة على حماس، مبرزًا ضررها، ومخلفاتها، وأهمية تقديم درء المفسدة على المصلحة. 
وقد عرض الأسير الباحث رأفت ناصيف ورقة بحثية بعنوان: علاقة حماس مع الآخرين .. مصر نموذجا، وأهمية "مصر"  كما يقول الباحث: لأن العلاقة المطروحة بين طرفين نقيضين إلى حد بعيد، سواء في الرؤية والمرجعية والسياسات معاً، فضلا عن علاقتهما التاريخية التي اتسمت بالعديد من الصدامات المباشرة وغير المباشرة، واهتزازات الثقة بينهما.
وقد وضح الباحث سبب الاضطرار لهذه العلاقة، رغم التباين في الرؤى، فقد عرض الباحث للعلاقة التاريخية بين الطرفين، والنظر للعلاقة من وجهة نظر مصرية، وكذلك من وجهة نظر فلسطينية خاصة (حماس)، والتعريج على حرص حماس على العلاقة، وقبول مصر بهذه العلاقة، وكذلك أهم العوامل التي تحافظ على ديمومة العلاقة بين مصر وحماس، ثم يبرز الكاتب أهم المحطات التي مرت بها العلاقة، إلى جانب المزيد من الأوراق البحثية الأخرى في هذا الشأن. 

في اليوم الثالث والذي خصص للشأن الداخلي للأسرى، مبرزًا طبيعة الظروف، وأهم التحديات، وطبيعة الحياة في السجون الإسرائيلية، فقد كان اليوم الثالث بعنوان: الحياة السياسية داخل قلاع الأسر، وفيه قدم الأسير الفلسطيني الباحث: ليلي أبو ارجيلة ورقة بحثية بعنوان: التخطيط التنظيمي داخل قلاع الأسر-تجربة مستشفى سجن الرملة، تناول فيها مدى قدرة التخطيط الاستراتيجي المسبق لإنجاح العمل التنظيمي داخل السجون الإسرائيلية، والآثار السلبية المترتبة على عدم وجود تخطيط استراتيجي في المؤسسة التنظيمية داخل السجون.
والقدرة على تخطي العديد من الأزمات، ومنع تدهور الواقع التنظيمي في العديد من المواقع التنظيمية، كما يحد من ردات الفعل غير المدروسة والاجتهادات الفردية، فقد قام الباحث بوصف وتشخيص حالات بعض المواقع داخل قلاع الأسر، ثم تحليل الدور المنوط من الهيئة التنظيمية العليا، ودورها، وعلاقتها بوضع وصيغة الخطط الاستراتيجية للمؤسسة التنظيمية الأولي في قلاع الأسر.

وقد تناول الباحث والأسير الفلسطيني: أيمن عبدالمجيد في ورقة بحثية بعنوان: الممارسة الديمقراطية للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال

وهدف في دراسته معرفة واقع الممارسة الديمقراطية لدى الحركة الفلسطينية الأسيرة، ودراسة معوقات العمل الديمقراطي في سجون الاحتلال، من خلال اتباع المنهج الوصفي التحليلي، والاعتماد على المقابلة كأداة للدراسة، التي استهدفت عدداً من قيادات الأسرى في سجن ريمون.
موضحًا قدرة الحركة الأسيرة أن تجابه التحديات، وإبداعها في تطوير الحالة الديمقراطية، وتحويل السجون إلى مجتمعات أشبه بمجتمعات الخارج، وجعل الممارسة الديمقراطية أساسا ًمهماً للنجاحات في الكثير من المستويات.

إلى جانب المزيد من الأوراق البحثية الأخرى المختصة في هذا الشأن.



وتعليقًا على هذه الفعالية قال أستاذ الاعلام المُشارك بالجامعة الاسلامية بغزة د. حسن أبو حشيش لحضارات: تابعنا من أيام تنظيم " المؤتمر العلمي في السجون" هذه السجون الذي أرادها الاحتلال ظلاما وسوادا، وتيئيسا وإحباطا، وأرادها موتا بطيئًا واغتيالًا للعقل وللهمة وللعطاء؛ وإذا بالأبطال الذين أفشلوا ببطولاتهم شطب القضية خارج السجون، يُحبطوا مشروع الإذابة والاغتيال، ويفعلوا العقل، وينهلوا من العلم، ويُصلبوا المواقف، ويعززوا الصمود بالوعي والمعرفة والعلم والثقافة، فحولوا ظلام السجن ومرارة العزل وقهر السجان إلى جوامع ومدارس وجامعات وأكاديميات.
ثم أشاد د. أبو حشيش بهمة الأسرى وقدرتهم على تفعيل دورهم الريادي والإبداعي قائلًا: لم تتوقف همة الأبطال عند الشهادة العلمية الجامعية؛ بل وصلت الهمة ووصل العطاء إلى البحث العلمي، وها هم ينظمون مؤتمرهم العلمي في السجون؛ حيث أبدعوا في الفكرة والمضمون والإعداد والتفاعل.
وختم كلمته موجهًا تحية للأسرى الباحثين وأصحاب الرأي، ودعا بأن يكون المؤتمر الثاني خارج السجون بعد " وفاء الأحرار ٢ ". 
وقدم أبو حشيش الشكر لمركز حضارات برئاسة  الباحث الأستلذ الأسير عبد الناصر عيسى "أابو حذيفة" وفريقه  الذين كانوا بجهدهم عنوانًا للأسرى الباحثين وأصحاب الرأي.

وفي كلمة خاصة لحضارات قال الكاتب الفلسطيني والخبير بالشأن الإسرائيلي علاء الريماوي: يعد هذا المؤتمر وما أنجز فيه من أوراق بحثية للأسرى جهدًا نوعيًا ينقل لأول مرة فكر الأسرى ومجهودهم الإبداعي من غياهب السجون إلى حركة فاعلة من المعرفة خارج السجون.

ودعا الريماوي لزيادة هذه الوتيرة والاهتمام بهذا النوع من العمل لتأصيل دور الحركة الأسيرة عبر منهجية علمية كما في الأوراق المحكمة من جهات بحثية مختصة.

وقال الكتاب والخبير بالشأن الإسرائيلي محمود مرداوي: ما أقدم عليه الأسرى داخل سجون الاحتلال من اهتمام بالجوانب العلمية الأكاديمية في الجامعات الفلسطينية والعربية يعد خطوة مهمة للغاية في استعداد الأسرى للمستقبل بعد الإفراج.

وبين مرداوي بأن المؤتمر العلمي الأخير الذي صدر عنه ما يزيد عن عشرين بحثاً علمياً محكماً يعكس تطوراً وانتقالاً في قدرة الحركة الأسيرة وإرادة الأسرى، تعكس القدرة على اغتنام الوقت والاستعداد لما بعد الأسر.

وأضاف مرداوي للأهمية المرجوة التي تنعكس على أسرانا من هذا المؤتمر قائلًا: العلم الأكاديمي واللغات أدوات حقيقية لتحقيق الذات من جانب، ولتمكين الأسير المحرر من ملء المكان الطليعي الذي سيشغله بعد الإفراج.

في الختام  إن قدرة الأسرى على التحليق ببنات أفكارهم، والخروج من صناديق العزل، والغرف المغلقة، والتحليق نحو الآفاق الفكرية، وغرس فتيلة البحث العلمي ومعالجة أبرز القضايا  المعاصرة بشكل منهجي يضع في الاعتبار القدرة الفلسطينية عند الحركة الأسيرة على تحدي كل مقدرات وإمكانيات الاحتلال، والإرادة والعزيمة؛ لتحضن أصواتهم روافد المكتبات الفلسطينية، وتصل للنخب الثقافية والفكرية؛ فتؤثر في القرار الفلسطيني، وتضع ثقلها في مسار القضية، وأن صوت الأسرى باقٍ لا يغيب مهما أقفلت عليهم جدر العدو، وعلت الأسوار.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023