الأمن القومي- الأهداف والمرتكزات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


كثيراً ما تُعلل الدول ــ الكبرى منها والصغيرة ــ وكذا التجمعات البشرية، القبلية منها والحضرية، وحتى العوائل كأصغر وحدة مجتمعية، أنها ما قامت بشن حرب أو استخدام قوة إلا لأنها تعرضت لتهديد من قبل دولة أو جماعة بشرية أو عائلة أخرى، طال هذا التهديد مصالحها الحيوية وأساسيات حياتها التي لا استغناء لها عنها، ومن ثم تطور هذا المفهوم مع تطور المجتمعات البشرية والوحدات السياسية، فغدونا نسمع عن مصطلح الأمن القومي الذي يعد العلّة الأولى؛ لتكّون المجتمعات والوحدات السياسية، والبند الأول الذي تبنى عليه باقي بنود العقد الاجتماعي الذي يتعارف عليه الناس ويتنازلون فيه عن جزء من حرياتهم الشخصية والفردية في سبيل تأمين باقي مصالحهم الفردية والجماعية. فما هو مفهوم الأمن القومي وما هي الأهداف التي يتضمنها هذا المصطلح ؟ وما هي مرتكزاته التي لا يمكن أن يؤمن بدونها وما لم تمتلكها الدولة أو المجتمع أو الكيان السياسي؟ 

وحتى لا نختلف في أصول هذا البحث الذي يعد من العلوم الإنسانية التي تذهب فيها التعاريف سبل شتى، دعونا أولاً نعرف مصطلح الأمن القومي الذي بنيت عليه هذه المقالة، فالحكم على الشيء جزء من تصوره، والمصطلح السياسي يبقى أجوف غير ذي قيمة ما لم يبن عليه مقتضاه، وتشتق منه لوازمه وبناه. 

فالأمن القومي في التعريف الذي سنبني عليه هذه المقالة هو عبارة عن مجموعة الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية التي تقوم بها الدولة أو الكيان السياسي من أجل تأمين مصالحه الحيوية، التي تؤمن له ولمجموع أفراده ومكوناته المختلفة العيش الكريم، كما تشمل الإجراءات التي تتخذ للدفاع عن تلك المصالح وحمايتها من أن يُطمع فيها أو أن يعتدى عليها. 

بناء على ما تقدم؛ يتبين أن أصل الهدف من منظومة الأمن القومي ومكوناتها يكمن في تأمين المصالح والأهداف الحيوية للدولة أو الكيان السياسي، وحيث أن الأهداف التي تبحث عنها الدول والتجمعات السياسية كثيرة وغير قابلة للحصر وتتعدد بتعدد الدول واهتماماتها، وطبيعة تكونها السياسي والعرقي والمذهبي والأيدلوجيا، إلا أنها تُجمع كلها على أنها تدافع عن مجموعة أهداف ومصالح حيوية مشتركة، بغض النظر عن الاختلافات التي جئنا على ذكرها سابقاً، وهذه الأهداف المشتركة بينها كلها لا تعدو أن تكون: 

  1. المحافظة على وحدة أراضي الدولة وحدودها: حيث أن الدولة والوحدات السياسية تعرف في أبسط تعاريفها على أنها مساحة جغرافية تسكنها مجموعة بشرية تجمعها مشتركات دينية أو لغوية أو عرقية، فلا معنى للدول أو الكيانات السياسية ما لم تكن لها حدود جغرافية تمارس عليها سيادتها وتبسط عليها قوانينها ودساتيرها، ولا معنى لهذه الدول إن كانت مالكة لتلك الجغرافيا ولكنها لا تستطيع أن تبسط عليها سيادتها أو تفرض عليها قوانينها ومقرراتها. لذلك فإن من أول أهداف الأمن القومي للدول والكيانات، تأمين وحدة أراضي الدولة وحدودها والدفاع عنها بالغالي والنفيس. 
  2. المحافظة على وحدة وانسجام مكونات المجتمع البشرية والسكانية: وحيث أن الجغرافيا من أهم لوازم تكوين الوحدات السياسية والإعلان عنها، فإن اللازمة الثانية الملازمة للأولى والتي تمنحها الأهمية وتنفخ فيها الروح هي: لازمة وجود العامل البشري في تلك الجغرافيا، فالإنسان بما حباه الله من قدرات ومواهب؛ هو الذي يمنح الجغرافيا قيمة وهو الذي يضفي عليها الأهمية، وبدونه لا تعدو الجغرافيا أن تكون كثبان رمال وأكوام من صخور؛ لا تغري طامع ولا تحث عزيمة مدافع، وحيث أن الدول والوحدات السياسية مكونة من تجمعات بشرية ــ في أغلب الأحيان ــ مختلفة من حيث العرق والدين والمذهب، صهرتها قواسم مشتركة، الأصل فيها وحدة الجغرافية التي ضمتهم على اختلافهم وتنوعهم؛ كان لابد من الدفاع عن تماسك هذه المكونات البشرية ووحدتها كلازمة لوحدة أراضي الدولة وانطلاقاً من أن وحدتهم كسكان هي علة بقاء وحدة الأرض وتماسك الحدود، وتفرقهم مظنة تفتت الأرض وضياعها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان من واجبات الأمن القومي للدول وأهدافه؛ المحافظة على وحدة المجتمع ومكوناته السكانية والدفاع عنها. 
  3. الدفاع عن وحدة واستقلال القرار السياسي وسيادته: وكلازمة لوحدة الجغرافيا والسكان من أن يُعبث أو يطاح بها، فتتمزق الوحدة المجتمعية والصيغة السكانية التي تستتبع تمزق الجغرافيا وتقطع أوصالها؛ كان لابد من الدفاع عن وحدة القرار السياسي واستقلاله من أن يُصادر أو يُرتهن للخارج أو للأجنبي، فالإنسان والجغرافيا يأخذان قيمتهما وتزداد صلابتهما بانتظامهما تحت قرار سياسي واحد غير مرتهن لأحد، الأصل فيه ــ القرار السياسي ــ أنه يراعي مصالح الدولة أو الكيان السياسي؛ شعباً وأرضاً، ولا قيمة لجغرافيا أو كتل بشرية رُهن قرارها لغيرها، فرسم لها مصيرها وخط لها مسار مستقبلها، من هنا يفهم معنى أن من أهداف الأمن القومي للدولة أو الكيان، تحرير القرار السياسي والدفاع عن استقلاله من الاستتباع للخارج أو الارتهان له. 
  4. تأمين الموارد الاقتصادية والدفاع عنها، داخل الحدود الجغرافية للدولة أو خارجها: وحيث أن الإنسان والجغرافيا بحاجة إلى موارد اقتصادية تقيم أودهما وتشد عضدهما، كان لابد من البحث عن تلك الموارد داخل وخارج الدولة أو الكيان السياسي، ووضع الخطط والبرامج التي تساعد على الاستفادة من هذه الموارد وتأمين ديمومتها، فتؤمن ما هو داخل جغرافيتها عبر مختلف الوسائل البشرية والفنية، وما هو خارج تلك الجغرافيا عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية والتجارية، مع عدم إغفال الخطط التي تهدف للمحافظة على سلاسة وسهولة الوصول إلى تلك الموارد والاستفادة منها واستثمارها على أفضل وجه وبما يخدم رفاه وراحة مواطني الدولة وسكانها، الأمر الذي يعد أحد أهداف الأمن القومي للدول والوحدات السياسية. 

كانت تلك أهم الأهداف الكلية للأمن القومي للدول والوحدات السياسية، والتي قد يضاف لها ويشتق منها الكثير من الأهداف الجزئية والفرعية التي تناسب الجغرافيا والسكان محل البحث والدراسة، فإن كانت تلك الأهداف، فما هي المرتكزات التي يرتكز عليها الأمن القومي للدول وما هي دعائمه ؟ يقوم الأمن القومي على خمسة دعائم رئيسية تشكل مع بعضها البعض القاعدة الصلبة التي يقف عليها ومنها ينطلق، فلا تهتز أركانه ولا يضعف بنيانه، نأتي على ذكرها بشكل سريع في غير إيجاز مخل ولا إطناب ممل، فنقول أن مرتكزات الأمن القومي ودعائمه هي:

  1. منظومة سياسية مستقلة: إن من أهم الدعائم التي يتكئ عليها الأمن القومي للدول والوحدات والكيانات السياسية، وجود منظومة سياسية متماسكة متجانسة مستقلة القرار، تُعَرّف الهوية المشتركة التي تجمع مكوناتها البشرية والجغرافية والتي ــ الهوية ــ يشتق منها ويعرّف على أساسها العدو من الصديق، والمصالح والأهداف الحيوية التي تعمل الدول والمجتمع على تأمنيها والدفاع عنها، ومتى تقدم الدولة ومتى تحجم، وما هي الظروف التي تهادن فيها وما هي الثوابت التي تخوض الحرب دفاعاً عنها، إن هذه المنظومة السياسية، هي بمثابة العقل من الانسان الذي هو مناط التكليف الرباني وبغيابه أو غيابها، لا معنى للإنسان أو الكيان. 
  2. منظومة بشرية متماسكة: كما أن من ركائز الأمن القومي ودعائمه الرئيسية والمهمة؛ وجود تجمعات بشرية نَظَمتها أهداف سياسية أو مجتمعية مشتركة، ترى ــ المنظومة البشرية ــ على اختلاف ألوانها ومشاربها وأعراقها ومذاهبها، أنها تتشارك فيها وتجتمع عليها؛ عنها تدافع ومن أجل الحفاظ عليها تضحي بالغالي والنفيس، ومنها تغرف المنظمة السياسية كوادرها وممثليها، وعليها تراهن في تحصيل الأهداف والدفاع عن المصالح، وبغياب هذه المنظومة البشرية، أو عمل مكوناتها بشكل منفرد غير مؤسساتي ومتناسق، فلا دولة تُهاب ولا مصالح تُؤمن وتُجاب. 
  3. منظومة اقتصادية قوية: فالاقتصاد عصب الدولة وشريان حياة أهلها، والقوت الذي تقتات عليه مختلف منظومات العمل التي تعمل على تأمين المصالح القومية والأهداف الوطنية، وهي أحد المؤشرات الرئيسية التي يقاس عليها مقدار تطور الدولة أو الكيان، والمدى الذي يمكن أن تصل له الدولة مستقبلاً، بقوتها تقوى الأحلاف وترجى الصداقات، وبضعفها تضعف القدرات والأدوات، وهي المؤشر على سقم أو صحية النظام السياسي والمجتمعي. 
  4. منظومة علمية ومعرفية متطورة: كما أن من مرتكزات الأمن القومي الرئيسية؛ توفر منظومة علمية متطورة، قادرة على التوليد والإنتاج والابتكار، وتحويل الخامات إلى منتجات وتسليع ( جعلها سلعة ) الرؤى والأفكار، فالرؤى والأفكار تبقى حبيسة الأوراق والملفات؛ ما لم تكن هناك منظومة علمية متطورة قادرة على إخراجها إلى حيز الواقع كمنتجات وسلع وأدوات وقدرات، تستخدم في الدفاع عن الأمن القومي بالطرق الناعمة أو الخشنة. 
  5. منظومة أمنية قوية: نخلص إلى الدرع الواقي والسياج الحامي الذي يحمي الأمن القومي ويدافع عنه، ويريق على حدوده الدماء ويسفك في سبيله المهج و الأرواح، إنها المنظومة الأمنية، بشقيها العسكري والأمني، التي تقف سداً منيعاً في وجه من تسول له نفسه التعدي على حياض الدولة أو مصالح الكيان السياسي، إنها ـــ المنظومة الأمنية ــ ترى في المنظومة السياسية رأساً لها وفي الشعب محضن يحضنها وفي اقتصاد دولتها وعلومها ومعارفها مورد يرفدها بما يعينها على تحمل مسؤوليات عملها والنهوض بأعباء مهمتها. 

نختم فنقول، إن كانت تلك هي الدعائم الخمس لمنظومة الأمن القومي وركائزه التي بها وعليها يقوم، وبدونها وبتفرقها وعدم عملها على شكل منظومة متناسقة متساوقة لا قيامة له، فإن عمود خيمة تلك الركائز الخمسة وقطب الرحى فيها، ثاني تلك الركائز المتمثل بالعامل البشري الذي لا قيامة لأي من تلك الركائز بدونه، ولا طائل يرجى منها بتفرقه وتمزقه، لذلك يُصب الجهد على تصليبه وتمتين عرى وحدته وانسجامه، فهو المناط والأساس وبدونه يهدم كل ركن ويداس. 

عبد الله أمين 

15 03 2021

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023