عن الحرب !! 2/2

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


بقلم الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين

12-8-2021
​​​​​​​
تحدثنا في الجزء الأول عن الحرب، فعرفناها وحدثنا عن سياقاتها الميدانية وسبل تحقيق أهدافها ــ المنع أو الفرض ـــ وأنها عبارة عن معركة أو معارك مرتبطة مع بعضها البعض بروابط منطقية أو جغرافية أو تظافرية أو وظيفية، وفي هذا الجزء نستكمل الحديث عن الحرب من حيث أنها مصدر لكل التهديدات، ومستودع كل المخاطر، ولأن الإمكانات والقدرات قد لا تنهض بكل ما نواجه من تهديدات، كان لا بد من ترتيب هذه المخاطر والتهديدات بشكل منطقي وعقلي يراعي تقديم الأهم على المهم، ترتيبٌ يُقدم هنا ويُأخر هناك، ترتيب ليس ضرباً في الرمال ولا قراءة في فنجان، ولكن المناط فيه معايير  يمكن أن تختصر بالآتي: 

  1. فارق القوة بيننا وبين التهديد: فليس من العقل أن تَشخَصَ إلى تهديد فارق القوة بينك وبينه هائل، والبون بينكما شاسع، فالشرع والعقل والعرف، يفرض عليك أن تمتك ما يمكن أن يؤمن لك الحد الأدنى من الصمود قبل الخروج إلى هذا التهديد، وإلا كان انتحاراً والقاء للنفس في التهلكة، وما كتب الاعداد على المعدين إلا تجهيزاً للنفس بما يعين. 
  2. القرب الجغرافي منا: فكلما قرب التهديد؛ كان أمر التجهيز له والاعداد لصده والتعامل معه، وغض الطرف عن غيره الأبعد أوجب، فمواجهة العدو القريب المتحفز هو فرض الوقت، والتجهيز للتصدي للبعيد قد يكون هو فرض على التراخي، يسعنى التمهل للخروج له، دون غض الطرف عنه أو التساهل معه، فالبعيد قد يغريه الضعف بالقرب، والتجاهل والتناسي قد يسول للنفس الاعتداء. 
  3. القدرات الهجومية: كما لا يجب إغفال القدرات الهجومية التي يمتلكها مصدر التهديد، هل ما يهدد ويتوعد به من قدرات، قادرة على تحويل هذا التهديد والوعيد إلى خراب وتشريد؟ هل لديه من القدرات ووسائط النار الهجومية ما تمكنه من أن يلحق بنا ضرراً ، أو يحول بيننا وبين تحقيق أهدافنا؟ هل ما لديه من قدرات هجومية؛ مثبتة الكفاءة والفاعلية وعلى مستوىً عالٍ من الجاهزية؟ 
  4. النوايا المعلنة: نعم إنه تهديد ومخاطر ناتجة عنه، ولكن هل هناك نوايا معلنة ضدنا قد تحيل هذا التهديد من تهديد بالقوة إلى تهديد بالفعل؟ بمعنى هل هناك من القرائن والشواهد ما يقول أن هناك نوايا معلنة  من العدو لإلحاق الضرر بنا ؟ هل ما يصدر عنه من تصريحات وكل ما يقوم به من إجراءات وحركات تحمل معناً واحداً؛ الحرب! 

هذه معايرٌ أربعة، قد يمزج بعضها ببعض، أو يقدم أحدها ويؤخر الآخر، للوصول إلى معادلة تقول أن ما نواجهه من تهديدات ومخاطر يجب أن يرتب وفق سلم الأوليات يقدم الأخطر على الخطير، تحقيقاً هدف واحد هو:تخصيص القدرات ووضع الضوابط والسياسات التي تريح الموقف ولا تبدد الطاقات، وبناءً على هذه المعايير يتم تحديد نوع الإجراء المطلوب للتعامل مع هذا التهديدات والمخاطر الناتجة عنها، والذي ـــ الإجراء ــــ لا يتعدى واحداً من إجراءات ثلاثة نذكرها مرتبة وفق الأهمية والأولية: 

  1. المنع:

إن أول إجراء يجب القيام به من أجل الحد من التهديدات ومنعها من الخروج إلى حيز التنفيذ هو المنع، يجب العمل على منع التهديد ابتداءً من أن يُفَعّل أو أن يخرج للعلن، فإجراءات وأكلاف المنع قبل الوقوع، أجدى وأولى وأقل في الكلف البشرية والمادية مما لو خرج التهديد إلى حيز التنفيذ، وبدأت مخاطره تتربص بنا فعلاً لا قولاً، وهذا النوع من التدابير يتصف بالآتي من المواصفات من حيث الطبيعة والإجراءات المطلوبة والمدى الزمني المتاح العمل فيه، فمن حيث: 

  1. طبيعته: هو من النوع الاستراتيجي الذي تتداخل لمنعه كل مكونات الدولة ومؤسساتها وإداراتها، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، بحيث يتم تقسيم الأعمال والإجراءات والأدوار المطلوبة التي تمنع هذا التهديد على هذه المؤسسات والهيئات والإدارات كل حسب اختصاصه والدور المتصور له في عملية المنع هذه، ثم تعبأ قدرات هذه المؤسسات وطاقاتها للتصدي له والحؤول دون خروجه إلى حيز التنفيذ.    
  2. التدابير العملية المطلوبة لمثل هذا الأجراء: ومن حيث التدابير المطلوبة لمثل هذه الإجراء، فهي عمليات التفكير الجمعي والتخطيط الشامل الذي تقوم به هيئات التخطيط في مؤسسات الدولة وإداراتها المختلفة والتي تنطلق في تخطيطها التخصصي استناداً إلى خطة العمل الكلية لمواجهة هذا التهديد، فمؤسسات الدولة القيادة تضع الخطة الكلية للمواجهة، وتحدد لكل دوره والهدف المطلوب منه انطلاقاً من هذه الخطة والسياسات والضوابط الكلية الحاكمة للأعمال والإجرائية وما هو متاح من قدرات، حالية وما هو متصور تعبئته عند الحاجة، وتترك لكل مؤسسة وجهة اختصاص مشاركة في عملية المنع هذه حرية وضع خططها التخصصية التفصيلية التي تمكنها من تحقيق الأهداف المطلوبة منها في سياق انجاز الهدف العام الكلي للدولة وهو منع التهديد قبل وقوعه. 
  3. مداه الزمني: وفيما يخص المدى الزمني المتصور لوضع إجراءات منع التهديد والحد من المخاطر الناتجة عنه، فهو مدى زمني بعيد ــــ بعيد المدى ــ كون التهديد ما زال بعيداً وليس ضمن حيز التنفيذ السريع، مما يعني أن الجهات المسؤولة عن مواجهته لديها وقت كافٍ لوضع الخطط التي ترفع مستوى الجاهزية والقدرة على المواجهة، ومن ثم التدريب على مختلف السيناريوهات المتوقعة لشكل التهديد عند خروجه لحيز التنفيذ، فتتدرب وتعد وتخطط وتناور في وقت السلم، رافعة من مستوى كفاءة وجاهزية كامل قطاعات الدولة حتى لا تؤخذ على حين غرة، ولا تضبط نائمة في نوبة حراستها . 
  4. الردع:

الإجراء الثاني المتصور لمواجهة التهديدات والمخاطر الناتجة عنها هو إجراء الردع، فإن لم تتمكن الدولة من منع التهديد ابتداءً من التحرك والنمو وتحين الفرصة للانقضاض علينا، فإن الإجراء الثاني هو إجراء الردع، بحيث تظهر الدولة أو الجهة المستهدفة عناصر قوتها وما يمكن أن تلحقه في العدو من خسائر في حال سولت له نفسه التجاوز والتعدي، بحيث يصل العدو إلى قناعة ذاتية أن ما سيجنيه من مكاسب من العدوان هي أقل بكثير مما سيلحق به وبشعبه وبناه التحتية من خسائر، فيرعوي ويرتدع، وهذا النوع من التدابير من حيث: 

  1. الطبيعة: إجراء من المستوى العملياتي الذي يمزج بين عمليات التفكير وعمليات التنفيذ، بين الاستعداد وبناء الجاهزية، والتعرض لمصادر التهديد لمنعه، إنه المستوى الذي يربط بين المستوى الاستراتيجي والمستوى التكتيكي، لذلك فهو من الأهمية بمكان بحيث يوازي أهمية الجسر الرابط بين ضفتي النهر، فيجب أن يكون قوي ومتماسك، ويقدم الاجابات على مختلف الأسئلة التي ستعرض للعاملين، فإن لم يتم فهم المهمة بشكل دقيق في هذا المستوى؛ فإن تنفيذها في المستوى التكتيكي سوف يواجه عقبات ومشاكل، وأغلب الظن أنه لن يحقق مبتغاه ولن يصل إلى أهداف محددة ذات جدوى.  
  2. التدابير المطلوبة لمثل هذا الإجراء: أما عن التدابير المطلوبة لهذا الإجراء فهي تنفيذ الخطط التي تم وضعها في المستوى الاستراتيجي، بحيث يتم تصغير الأهداف الكبيرة وتوزيع المهام الكلية المحددة في المستوى الاستراتيجي، ويترك لجهات الاختصاص حرية الإعداد والتجهيز في سياق الخطة الكلية الكبرى. 
  3. مداه الزمني: أما عن مدى هذا الإجراء الزمني؛ فهو قصير مدى، كون الردع هو إجراء يتم لمنع تهديد على مشارف الوقع والخروج إلى حيز التنفيذ، لذلك فليس أمام الجهات المختصة المفوضة ردع التهديد مدىً زمني طويل للقيام بإجراءات الردع المتفق عليها مسبقاً؛ من قبيل المناورات والاستعراضات وتنفيذ بعض الضربات المسيطر عليها، لترسل رسالة إلى العدو مفادها أن ما ينتظرك أكبر بكثير مما رأيت، فيرتدع ويرعوي. 
  4. إنزال الهزيمة بهذا التهديد:

أما الإجراء الثالث والأخير لموجهة التهديدات والمخاطر الناتج عنها، فهو إجراء الهدف منه هزيمة هذا التهديد وكسر شوكته والحاق أكبر كم من الخسائر البشرية والمادية فيه، فينكفئ إلى حيث المكان الذي انطلق منه، ململماً أذيال الخيبة والفشل، إنه إجراء يُلجأ له بعد أن تفشل إجراءات المنع والردع، ويتجاوز التهديد الخطوط الحمر المرسومة أمامه، فيخرج إلى حيز التنفيذ ويشغل ما لديه من قدرات بشرية ومادية في الإضرار بمصالحنا والتعرض لها ومحاولة السيطرة علها ونهبها، عندها " فالعدو الصائل  الذي يفسد الدين والدنيا، ليس أوجب بعد الإيمان من رده " فتُعبأ كامل طاقات الدولة أو الحركة للوقوف في وجه هذا العدوان لاحتوائه ثم وقفه عن التمدد ثم الحاق الهزيمة به ورده، وهنا نشير إلى أن مواصفات هذا الإجراء من حيث: 

  1. الطبيعة: تكتيكية ميدانية، تتطلب تعبئة للقوات والقدرات ونشرها على محاور القتال المختلفة ـــــــ العسكرية والسياسية والاقتصادية ـــــــ وتحديد مناطق المسؤولية ومتابعة التنفيذ ساعة بساعة ولحظة بلحظة، فلا يُغفل عن أي جزئية يمكن أن تشكل نقطة ضعف قد ينفذ منها العدو، ولا يغض الطرف عن أي فرصة يمكن أن تتيح لنا تسديد ضربة إلى قلبه. وهامش مناورة وحركة المسؤولين في هذا المستوى بعد أن يكونوا قد هضموا وعرفوا أصل الهدف والمهمة التي ينفذوها، والإطار والهدف الكلي لما يقومون به من إجراءات وحركات؛ هامش عالٍ جدا. 
  2. التدابير المطلوبة له: أم عن التدابير المطلوبة لهذا المستوى من العمل ــ التكتيكي ـــ فهي من نوع إجراءات إدارة الأزمات التي تهدف إلى: احتواء الأزمة ثم منع تمددها ثم علاج آثارها وما نتج عنها من خسائر أو أضرار وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل العدوان. 
  3. المدى الزمني: أما عن المدى الزمني لهذا الإجراء، فهو متوسط المدى، لا هو بالبعيد الذي يتعامل معه بالتراخي، ولا هو بالقصير المسيطر على إجراءاته، فهو يتعامل مع مواقف متحركة ومتغيرة في كل لحظة؛ لذلك لا يجب أن تحرق المراحل ولا يستعجل في تنفيذ الإجراءات فلا تؤتي أكلها، بل يجب أن يترك الإجراء ليأخذ مداه الزمني ويحقق الأهداف المطلوبة منه، دون الوقوع تحت ضغط عامل الزمن الذي يسبب عدم نضوج القرارات أو الإجراءات والحركات. 

هذا ما اتسع له المقال في هذا المقام في الحدث عن أعقد نشاط بشري، وسيبقى الحديث في الحرب وعنها، ما بقيت البشرية، وتعامل أهلها مع بعضهم البعض بأنانية وقلة إنسانية، والعاقل من اتعظ بغيره، ومن أراد السلام فعليه الاستعداد للحرب، والعاقل من لم ينم لعدوه ولو كان نملة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " 



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023