نحو تطوير استراتيجيات المقاومة

محمد القسطل

كاتب وباحث سياسي

لا شك أن ميزان القوى على الأرض يكاد يكون الآلة الوحيدة لتحقيق الطموحات والأهداف الوطنية لأي شعب مظلوم يخوض عملية تحرر وطني شاملة؛ إذ لولا تفوق التشكيلات العسكرية الصهيونية قبل النكبة على التشكيلات الفلسطينية تنظيمًا وإدارة وعتادًا وتدريبًا لمَا نفعها قرار التقسيم رقم 181 عام 1947م، ولما حلت بنا النكبة. 
غير أن هناك شروطًا ضرورية يجب توفرها لرفد ميزان القوى، وتحتاجه المقاومة في كافة مراحل نضالها، وأهمها اكتساب الانحياز الدولي واصطفافه إلى جانبها على نحو مستمر، لكن بالإعجاب وليس بالاستعطاف، إذ درجت عادة المقاومة أن تستدرج تدخل المجتمع الدولي لكبح جماح جيش الاحتلال ولجمه عند استعار نيران المعركة، وسقوط شهداء مدنيين، حتى صار يغلب الظن عند البعض وكأن المقاومة وقت الحرب تتمنى أن يرتكب الاحتلال مجزرة يتدخل على إثرها -لفظاعتها- المجتمع الدولي؛ لإيقاف التوحش الإسرائيلي وتغوّله على أمل تقصير أمد المعركة ثم إعلان الانتصار .
قد يتحقق هذا التدخل ضد الاحتلال؛ تحسبًا للرأي العام عندهم ومراعاة له، -وليس قناعة بالفلسطينيين وحقوقهم- لكنه سيكون تدخلًا مؤقتًا ومحدد الهدف، وهو وقف نزيف الدم، وليس لدعم أهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه في الحرية والاستقلال، مع بقاء المتدخل أسير الإعجاب بالقوي المتفوق والمتميز رغم عدوانه. 
فلا عجب أن نرى زعماء خمس دول أوروبية كبرى يقومون بزيارة الكيان الصهيوني؛ للتضامن معه من فور انتهاء حرب 2009م على غزة، بدل أن يقفوا مع الضحية ضد الجلاد. 
الضعيف يستعطف الآخرين، والقوي يفرض عليهم اعجابهم به، والإعجاب يتأتى بالإنجاز والإبداع والتميز والتفوق والشعوب والحكومات، لا تمنح اعجابها إلا لهؤلاء، والإعجاب – لا محالة- يستنبت في المعجب بذور التعاطف الإنساني والسياسي، مع حقوقك وأهدافك، ويؤمن لك دأبه في اسنادك وتأييدك على طول مسيرتك. ماذا نعمل إذا كان الإنسان بطبعه ينحني إعجابًا بالمتفوق المتميز، ويغفر له سيئاته وخطيئاته؟
إذن لماذا لا تسعى المقاومة لأن تتميز بخطابها وبأدائها، وبالبحث والتطوير، وبإبداعاتها في المجالات الممكنة ... وبإنسانيتها وأخلاقيات النبل حتى وهي تقاتل. ليس لنيل إعجاب الآخرين وإسنادهم فحسب؛ بل ليصبح هذا التميّز خلق المقاوم وديدنه، وثقافة للمقاومة وسمتها. 
فالإبداع والتميّز في خطابك سواء أكان نحو الداخل أم الخارج ، عليه التحلي بالعلمية (المنطق والعقل) والقيم الإنسانية، مهما كانت الظروف، من يستمع إلى خطاب المقاومة أو يقرأ نصوصها لا يجد فيه إلا العقل والإنسانية؛ حتى وهي تستنفر شعبها، وتستنهض قواه للمقاومة، وهذا لا يعني البتة التصنع بقيم الغير – الغرب مثلًا- والتشدق بها، لكن على الأقل لا تؤذهم بها؛ أي لا تلعنهم صباحًا وتطلب عونهم مساءً. 
والإبداع والتميّز بالأداء يكون أيضًا بالتحلي بالعلمية والمهنية في الإدارة وفي التنظيم، وكذلك بالقدوة والمثال الشخصي لا سيما من الكادر والقيادة، وبخاصة بعدالة التوزيع وقوامها المساواة، فهي التي تؤمّن الثقة المستمرة من الشعب، وفئة الشباب خاصة بالمقاومة وقياداتها، وتؤمّن الولاء المستمر لها، وتحفظه لأهدافها، ومهماتها الوطنية ،إذ متى رأى الناس امتيازات ومواكب وأفضليات لفئة الكادر والقيادة، والتي يفترض فيها التميز بالزهد والتفاني، فإن الشعب سيكفر بهم وسيسخر من خطاباتهم ويحولها إلى نكات مضحكة، وسيرون فيها طبقة فاسدة لا تختلف عن غيرها بشيء، ولا تشكل لهم بديلًا. 
أما الإبداع والتميز بالبحث والتطوير، فقد يتحقق بقليل من الموارد؛ إذ تستطيع المقاومة أن تنشئ الكثير من مراكز البحث، فلماذا لا تتفوق المقاومة بتطوير ما هو تحت إمكاناتها ومقدورها، كالحوامات الصغيرة مثلًا، وتصبح مرجعًا فيه. ولنا في الدولة التركية عبرة ودرس؛ حيث غدت مرجعًا متميزًا بصنع وتطوير الطيارات المسيّرة، ولربما يمتد بحث المقاومة وتطويرها في إبداعات نوعية لأغراض مدنية تخدم البشرية كافة. أو لماذا لا تنشئ المقاومة معهدًا يحتضن ويلتقط من المدارس النابغة من طلابنا، لاسيما في مجالات الفيزياء والتكنولوجيا والبرمجيات والرياضيات، وتوفر لهم الأكثر مهارة وحذقًا من الباحثين والمدرسين؟ ثم توظف هذه الطاقات الخلاقة وإبداعاتها في خدمة مهام المقاومة وأهدافها، تمامًا كما يفعل الكيان، بل حتى إنه في الأشهر الأخيرة أخذت المؤسسة الأمنية عندهم تنشر بالصحف اليومية دعاية تهيب بكل مواطن مهما كان عمره، لديه موهبة أو هواية في مجال الحوامات الصغيرة ( رمفانيم) أن يتصل بهم. وأخيرًا لماذا لا تتميز المقاومة، وتبادر إلى تنظيم أسبوع الرياضة الفلسطيني سنويًا، لجميع أبناء الشعب الفلسطيني ، نساءً ورجالًا، أطفالًا وشبابًا؟ بحيث يتضمن مباريات ومسابقات رياضية في شتى المجالات الممكنة ( الركض، السباحة، الخيل، الرماية، المصارعة، وكرة القدم، والطائرة ...) لمدة سبعة أيام متتالية ثم توزع المقاومة الجوائز على الفائزين في اليوم الثامن. ويكون انطلاق مشروع الرياضة من غزة السباقة دومًا، ثم يعمم لاحقًا على كل أماكن تواجد شعبنا الفلسطيني: في الضفة والقدس، الداخل، وحتى في الشتات؛ لأن الصحة بلا ريب هي عماد لأي مشروع نهضوي أو تحرري؛ وبذلك تكون المقاومة قد ساهمت وتميزت بترسيخ الرياضة واللياقة كثقافة شعبية في أوساط شعبنا الفلسطيني كافة، كما ينبغي لها أن تتميّز دومًا في كل مجال تميزًا ينتزع الإعجاب حتى من أعدائها، فتغدو المقاومة تمارس مقاومتها بالإعجاب الإيجابي، كما تمارس لعبة الاعجاب لحظة الافتراس . فالأفق ، بوضوح الرؤية، وعمق الفكرة، ورسوخ الإرادة واسع جدا واسع .

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023