كيف يبالغ الساسة ويخطئ (الجواسيس) ؟
الحرب!
تحدثنا عنها كثيراً ولا زالت تشغل حيزاً كبيراً من أوقاتنا جميعاً، كيف لا وهي أعقد نشاط يمكن أن يقوم به بنو البشر، فتترك آثارها وندوبها الماديّة والنفسية على كل شيء، فبين ليلة وضحاها، تنقلب الموازين وتتزاحم الأولويات، وتكثر الطلبات والمتطلبات، يمسي الناس مشغولين بأولويات ومتطلبات يومهم التالي، وإذا بهم في دوامة متسارعة من الأحداث والإجراءات، تدع الحليم حيراناً، وغير المستعد المتأهب في زمن الرخاء، خائباً خسراناً، وعند السؤال عن سبب هذا التغيير في الأولويات وتزاحم المتطلبات وتبدّل سلم الأولويات وإعادة تخصيص ما بين الأيدي من قدرات، قيل لك أنها الحرب !! الحرب قيل في تعريفها الكثير وخُط لفهم كنهها ومعرفة متطلباتها وأسباب السلامة منها أو النجاة من خضمّها الكثير. فقيل أنها فعل سياسيٌ ولكن بأدوات خشنة ! وقيل عنها أنها إجراء يتقدم عندما تُغلق سبل الدبلوماسية وتتعقد الجلسات الحوارية ! وقيل عنها أنها تَصادم مصالح لم يُقدر على تأمينها والحفاظ عليها والدفاع عنها سلماً، فلُجيء إلى ذلك حرباً !
ولكن أجمل ما قيل فيها وأوفى من عرّفها ذلك الذي قال أنها تقع عندما يبالغ الساسة ويخطئ الجواسيس !!
وهذه المقالة تأتي لتعريف سبب مبالغة الأوائل وخطأ التوالي، ولكن دعونا قبل ذلك نتفق على مجموعة مسلمات، ونعرّف بعض المصطلحات، حتى يستقيم البحث ولا يختلف الباحثون، فنقول:
أولاً: تعريفنا للسياسيين:
هم تلك المجموعة أو المنظومة أو المؤسسة التي يقع على عاتقها تعريف المصالح الحيوية للدولة وشعبها وسبل تأمينها والدفاع عنها، إذاً هي ليست فرداً ولا عصبةً منفردة أو منبتّة، وإنما مؤسسة ينبثق عنها مؤسسات وأطر وقيادات.
ثانياً تعريفنا للجواسيس:
إنما عنينا به ضباط المعلومات وأهل الاستخبارات والمعطيات، بجميع شقوقها وتصنيفها، داخليةً كانت أم خارجية، وما تملكه هذه المؤسسات من قدرات وإمكانيات بشرية ومادية.
ثالثاً:
ثالث المسلمات ضمن هذه التعريفات، هي أن الحرب في بدايتها قرارٌ سياسي وفي أثناء ممارستها هي أمر مهنيّ، وفي ختامها هي فعل سياسيّ، وما لم يكن على هذا توافق، فلا أمل يرجى ولا فائدة تطلب، وسيختلط الحابل بالنابل، ولن يُتمكن من جني واستثمار ما زرعته آلة الحرب من زرع الدم الأشلاء، فنصبح وإذا بنا نمارس فعلاً عدمياً لا يرجى له فائدة !!
هذه مسلمات أو قل تعريفات ثلاث، أردنا أن نستهلّ بها هذه المقالة، علّنا ننجو من نقد ناقد وصاحب قالة، قبل أن ندلف إلى أصل المقالة، ونشرح ونبين لماذا يبالغ الساسة وهم متصدرو الشأن الرئيسيون، ومن بيدهم قرار الفعل أو ردّ الناس عن الوقوع في هذه المقالة (اقرأ الحرب)، فلماذا يبالغون ؟ وهم من يُظن فيهم أنهم ذوو حجى عاقلون؟ إنّهم يبالغون عندما:
1. يعرّفون المصلحة ويقدرونها: إن أول خطأ قد يرتكبه الساسة، هو خطأ تعريف المصلحة وتقديرها، وكيف يمكن أن تحصّل وتحمى ويدافع عنها، و أي المصالح تستدعي حرباً ؟ وأيها يمكن أن تنال سلماً ؟ ما هي المصلحة الحيويّة التي لا يمكن التنازل عنها مهما بلغت التضحيات وارتفعت التكاليف ؟ وأيها يمكن غضّ الطرف عنه أو التسامح في التعرض له ؟ إنها يخطئون عندما لا يفرقون بين أمن المجتمع الذين هم وكلاؤه ومصالِحه، وبين مصالح الدولة ومتطلبات بقائها وأخيراً أمن النظام السياسي الذي يمثلونه أو يحكمون باسمه، عندما يقع الخلط بين هذه الثلاثة، تقع الكوارث وتنهال المصائب، وتضيع الأولويات وتُهدر القدرات والطاقات.
2. يعرّفون التهديدات ويقدرون مخاطرها: كما أنهم قد يخطئون عند تعريف التهديدات والمخاطر الناتجة عنها ! فهل هي من النوع الوجودي الذي يستحيل تحمله أو التعايش معه ؟ أم هي من ذاك النوع الذي يمكن التوصل لحلول وسط معه، فتحمى الطاقات ولا تُبدّد المقدرات لكبحه أو صدّه ؟ هل هي من النوع الآني الداهم أم من الآجل المتوقع ؟ هل هي من النوع الذي يجب الخروج لتحييده وهو في طور التشكّل فلا يُصبر عليه ليصل إلى حالة التطور والتبلور ؟ يخطئون عندما لا يملكون آلة أو منظومة معيارية يزنون من خلالها المواقف ويحددون على ضوئها الإجراءات والتصرفات.
3. يعرّفون النصر والهزيمة: وقد يخطئ الساسة عندما لا يعرّفون النصر أو الهزيمة، فتفوتهم فرص يمكن إعلان النصر معها، أو مواقف يمكن تقليل الضّرر معها ! تفوتهم فرصُ النصر حيث لا يعرفون ملامحه ومؤشرات بلوغِه، وتطحنهم رحى الحرب عندما لا يعرفون أن لا طاقة لهم بها، فينحازون إلى فئة علّ معها في مقبل الأيام مواقف يتمكنون فيها من النصر.
4. يشخصنون الأمور والأحداث: وأكبر أخطائهم عندما يشخصنون المواقف ويربطونها بذواتهم الشخصيّة وأسمائهم العائلية، وينسون أنهم إنما هم وكلاء عند أصلاء ولّوهم شؤونهم لحفظها والدفاع عنها، وأنه لا مصلحة في اختلاق أزمات وفتح حروب واشتباكات ما لم تتعرض مصالح الأصيل بالتعرض من أي دخيل، وأنه من أجل صيانة مصالح من يمثلون، يجب غضّ الطرف عن ذواتهم وما يحبّون ويعشقون !
هذه أربع من أهم مما بسببها يبالغ الساسة ويغرقون، أما عن الجواسيس (اقرأ ضباط المعلومات) فإنهم قد يخطئون، فَيَورطون ويُورّطون إذا لم يتمكنوا من:
1. اشتقاق المهمّة واستنتاجها: بداية الخطأ عندما لا تقدر هذه المنظومة على اشتقاق المهمّة المطلوب قيامها بها من خلال النصوص السياسية والتوجيهات القيادية المرسلة لها، إنه خطأ قد يحوّل هذه المنظومة من قيمة مضافة يمكن استثمار فعلها وجهدها في خدمة مصالح الأمة والشعب والدولة والنظام السياسي، يحولها من قيمة مضافة إلى عبءٍ ثقيل، ومن نقطة قوة إلى نقطة ضعف، ومن عاملٍ للأمن إلى مسببّ ومفجّر للمشاكل والإضرابات، من منظومةٍ أصل عملها السهر على حماية الأصيل ( اقرأ الشعب ) الذي وكّلها حمايته والدفاع عنه، تتحول إلى أكبر تهديد يحيق بهذا الأصيل، فلا يهبّ ــ الأصيل ـ لنجدتها إذا تعرض لها الدخيل.
2. تحديد الاحتياج: وما ينتج عن خطأ اشتقاق المهمّة، يظهر في خطأ تحديد الاحتياج المطلوب تأمينه من معلومات ومعطيات، لتبنى عليها الرؤى والتقديرات، وتحدَّد على ضوئها الإجراءات وتُخصَّص القدرات، فترى هذه المنظومة تخبط خبط عشواء، لا تميّز غثاً من سمين، ولا تبناً من طحين، تصبح كحاطب الليل الذي لا يدري، أجمع حطباً ينضج طعاماً ويؤنس ليلاً ويدفئ بدناً ؟ أم جمع حيّات تختزن سُمّاً وتتربّص خطراً ؟ أيبيت وهو عارفٌ لنوايا عدوه، لحسن تحديد احتياج جمعه، فلا يؤتى من قبل ؟ أم ينام ملء الجفون عن شواردها؟ فإن أخطأ في تحديد الاحتياج، فهو حكماً سيخطئ في تجنيد المصادر والأدوات التي تؤمن هذا المتطلب وتلك الاحتياجات، وقد يضمّ إلى صفّه من يضمرُ شراً، أو قد يغفل عمّن يملك كنزاً.
3. جمع المعلومات والمعطيات: وخطأ تحديد الاحتياج وتجنيد المصادر والمتطلبات، يفضي حكماً إلى كوارث في جمع وتحصيل المعلومات والمعطيات، فنحن نعيش في عصرٍ قيل في تعريفه أنه عصر المعلومات، وأنها متوافرة لمن أراد بالقدر المراد والجودة المطلوبة، فقط لمن أحسن تعريف وتحديد احتياجه منها؛ لذلك فإن هؤلاء الـ ( جواسيس ) يرتكبون أكبر خطأ في جمع المعلومات عندما لا يحسنون إبتداءً في اشتقاق المهمة وتحديد الاحتياجات.
4. تحليل المعلومات واستخلاص النتائج والتقديرات: وضمن هذه المتتالية وهذه السلسلة المنطقية من الإجراءات والتفاعلات، نصل إلى ساعة الحقيقة، التي يُبنى عليها كل شيء ويَنتظر قدومَها كل صاحب احتياج ليبني عليها مقتضاها، إنها مرحلة التحليل والتقدير لمعرفة النوايا وما يعتمل في الصدور، فمن يخطئ في تحديد مهمته، يخطئ في استنتاج احتياجاته ومتطلباته للقيام بها، وتحقيق متطلبات نجاحها والنهوض بها، ومن يخطئ في تلك الخطوتين، سيخطئ حكماً في جمعه لما يظن أنه يخدم مصالحه ويفي بغرضه من معطيات ومعلومات، الأمر الذي سيفضي إلى خطأ في تقدير النوايا وكشف التهديدات قبل أن تتبلور وتظهر كإجراءات، عندها ستتعالى الصرخات والآهات، ولا ينفع عندها الندم والاعتذارات.
أمام هذه المعضلة متعددة الأطراف، فإن سبيل النجاة إنما يكون عبر الثلاثية الذهبية التالية:
1. تشجيع المشاركة: يجب أن تُشجع الأطر القيادية في مختلف مستوياتها المشاركة من مختلف الشرائح الوظيفية والطبقات المهنية ذات الاختصاص، فربّ فكرة أنضجت فكرة، وربّ نقد أنجى من مخمصة، ومن شاور الناس، شاركهم في عقولهم، ولم يندم يوماً من استشار، ولم يخب مطلقاً من استخار.
2. نقد الرأي: كما يجب على منظومة القيادة التشجيع على نقد الرأي، والتعرض له بالمنطق والحجة، ففي ذلك تقوية وتصفية له من كل شائبة، وهنا يجب الإشارة إلى أن النقد المطلوب هو النقد البنّاء الذي منشأه الحرص على الحق، وليس النقد لمجرد النقد، كما يجب الإشارة إلى أن أصحاب النقد هم أصحاب الاختصاص، فلا يهرفن أحدٌ بما لا يعرف بحجة النقد وأننا في مؤسسة ( الرأي والرأي ) الآخر.
3. تعيين أناس يعرفون كيف يتحدّون فرضياتهم: من مقويّات الآراء ومعضداتها، الحرص على أن يكون في فريق العمل من يحسن تحدي الفرضيات بالعقل والمنطق والحجة والبرهان، إن مثل هؤلاء الأشخاص هم بمثابة جهاز المناعة في الجسم، عنصر الإنذار المبكر على المخاطر والتهديدات، فلا تجب الخشية منهم، ولا غضّ الطرف عنهم، بل يجب البحث عنهم ورجاؤهم مشاركتهم، فكل عصا من عصيّهم توضع في دولاب الفرضية، إنما هي ( حقنة ) مقوية تدفع خطراً وترد بليّة.
كانت هذه بعض النقاط التي تساعد على فهم كيف يبالغ الساسة ويخطئ الجواسيس، فتقع الحرب وترفع المتاريس.
فمن عَقل نجا، ومن جهل وقع في حبائل إبليس وشراك الجواسيس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عبد الله أمين
23 05 2022