قيل أن الرئيس الأمريكي كلينتون قال عندما رأى جدار العزل العنصري في فلسطين المحتلة الذي يحيط بمدن وقرى الضفة الغربية، قاسماً العائلة الواحدة بين ما هو داخل الجدار وما هو خارجه، قاضمة من هذه البلدة مئات الدونمات، ومن تلك القرية آلافاً أخرى، قيل أنه عندما رأى هذا المشهد قال : أنه ـ يعني الجدار ـ يشبه الثعبان الذي يتلوى حول فريسته، هذا عن جدار الفصل العنصريّ، لكن ماذا عن الطرق والأوتوسترادات التي تقطع طول فلسطين المحتلة وعرضها، وتتلوى فيها طولاً وعرضاً، وقد قضمت وتقضم كثيراً من أراضينا وممتلكاتنا، أليست هي أيضاً حية تتلوى وتعصر وتضيّق علينا معاشنا وحركتنا ؟
هذا سؤال برسم الإجابة، نتركه دون إجابة لنطرح مسألة هذه الطرق والأتوسترادات من زاوية نظر أخرى، حيث أن المدقق بعناية لمسير هذه الطرق ـالطولية منها والعرضيةـ يرى أنها مع ما تشكّله من تهديدٍ علينا، إلا أنها في الوقت نفسه تشكل فرصةً يمكن أن نستغلها، وهي في نفس الوقت نقطة ضعف للعدوّ، يمكن أن يؤتى من قبلها.
إن هذه المقالة تهدف للحديث حول هذه المسألة وكيف يمكن أن تستثمر المقاومة الفلسطينية خاصة، وعموم أبناء شعبنا عامة هذا الموقف، بحيث تضغط على العدو من خلال تضييق الخناق عليه، بل خنقه إلى درجة (الحشرجة) وسلبه حرية الحركة وسلاستها على هذه الطرق، ولكننا سنتطرق في هذه المقالة وبشكل سريع إلى نظرية القتال على الخطوط الداخلية والخطوط الخارجية ومقتضيات طريقة العمل هذه ومتطلباتها، ثم سنتحدث عن شبكة الطرق في داخل فلسطين المحتلة، فنعدّد أهمّها، ومن أين تبدأ وأين تنتهي، ثم نختم بالحديث عن كيفية تحويل شبكة الطرق هذه إلى شبكة عنكبوت نصطاد عدوّنا عليها وفيها!
إنّ الناظر إلى خريطة فلسطين الطبوغرافية يجد أنها مستطيلة الشكل، طولها من الشمال إلى الجنوب 430 كم، أما عرضها ففي الشمال يتراوح بين 51 - 70 كم، وفي الوسط 72 - 95 كم عند القدس، أما في الجنوب فإن العرض يتسع ليصل إلى 117 كم عند رفح وخان يونس حتى البحر الميت، لذلك فهي في العرف العسكريّ فاقدة للعمق الجغرافي الذي يمكّنها من امتصاص المخاطر الناتجة عن أي تهديد ذي مصداقية عليها، وقد فرضت هذه الجغرافية الحرجة لفلسطين المحتلة على عدوّنا مجموعة من المرتكزات القتالية التي تشكّلت من خلالها نظريتُه العسكرية والتي منها : الردع والإنذار المبكر والحسم والدفاع ونقل المعركة إلى أرض العدو، كما أنها جعلته لا يستطيع وفقاً لنظرية القتال على الخطوط الداخلية القدرة على التصدي لأكثر من عدوّ حقيقي على أكثر من جبهة في آن واحد، فقد رأيناه في حرب 1973 حين أتاحت له الوقفة التعبويّة غير المبررة عسكرياً التي أعلن عنها السادات في التاسع من أكتوبر حتى الثاني عشر منه، اتاحت له فرصة التعامل مع خطر الجبهة السورية التي شارف سلاح الدروع السوري فيها على الوصول إلى مشارف بحيرة طبرية، فعندما توقف العمل على الجبهة المصرية بسبب تلك الوقفة التعبوية، شنّ العدوُّ الإسرائيليّ هجوماً معاكساً على جبهة الجولان، مكّنه من امتصاص اندفاعة الجيش السوري، ثم قلب الموقف لصالحه، ثم التحوّل من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
وفي معاركه التالية التي واجه فيها قوات المقاومة في لبنان عام 2006، وما خاضه من معارك وحروب مع المقاومة الفلسطينية في غزة في الأعوام 2008/2009 و 2012 وما تلاها، حتى وصلنا إلى معركة سيف القدس، كل هذه المعارك كان قادة العدو يقولون أنهم كانوا ليواجهوا تهديداً وجودياً لو فتحت في وجوههم أكثرمن جبهة في نفس الوقت !!
الخلاصة، إن نظرية القتال على الخطوط الداخلية التي استوجبتها طبيعة فلسطين الجغرافية، فرضت على العدو عدم القدرة على التعامل إلا مع عدوٍّ واحد، وعدم القدرة على التصدي لتهديدين حقيقيين في نفس الوقت، كون انطلاقته باتجاه التهديد تطيل من خطوط مواصلاته وتعقّد العملية اللوجستية المرافقة للعملية العسكرية، وتصعّب من قدرات القيادة والسيطرة، وتتطلب قدرات قتالية بشرية ومادية يصعب تقسيمها وتجزئتها للتعامل مع أكثر من تهديد.
كما أن أحد أهم متطلبات نظرية القتال على الخطوط الداخلية، توفير شبكة طرق طولية وعرضية تصل بين مركز فلسطين المحتلة ونقاط ثقل العدوّ المختلفة ومراكز قيادته السياسيّة والعسكريّة وبين جبهات القتال المختلفة، بحيث يتمكن العدوُّ من المناورة في طول جغرافية فلسطين وعرضها، وينقل قواته من جبهة إلى أخرى بأقصى سرعة ممكنة، الأمر ـ الحاجة إلى سرعة المناورة ونقل القوات ـ الذي يجعلنا نفهم سبب شقِّ كل هذه الطرق وتلك الأتوسترادات، والحرص على بقائها آمنة غير مهدَّدة، وهنا تكمن الفرصة التي تحدثنا عنها، وبهذا الشكل يمكن اختصار الموقف وتلخيصه. أما عن هذه الطرق والأتوسترادات فإنها مع كثرتها، إلّا أن أهمّها هو التالي:
1. شارع رقم (1): الذي يمرّ عبر يافا، اللدّ ،القدس، ثم يتقاطع مع شارع (90) شمال البحر الميت.
2. شارع رقم ( 6): الذي يتقاطع مع شارع (70) شمال باقة الغربية، قلقيلية، شرق الرملة، يتصل بشارع (40) عند الفوارة.
3. شارع رقم (4): الذي يبدأ من رأس الناقورة،عكا، حيفا، يافا، رفح أو العكس وهو من أهم هذه الطرق.
4. شارع رقم (31): الذي يبدأ من تقاطع شارع (90) عند نبلة، فيوعة، اللقية، جنوب عرب العزازمة.
5. شارع رقم (40): الفلوجة، بئر السبع، عرب العصيات، جبل الحدب، جبل القطار.
6. شارع رقم (60): بئر السبع جنوباً حتى الناصرة شمالاً، ومعظم هذا الطريق يمرّ عبر الضفة الغربية ومدنِها مثل الخليل، بيت لحم، القدس، رام الله، جنين، وجزء من الطريق الواصل بين العفولة والناصرة، كما أنه يربط المستوطنات داخل الضفة بعضها ببعض دون الحاجة إلى دخول المدن الفلسطينية، وهو طريق يُقسم قسمين : من بئر السبع حتى سهل عرابة، ومن الخط الأخضر حتى الناصرة. كما أنه يمر عبر عرابة، كفر راعي، نابلس، بيت عور، بيتا، قبلان، المزرعة الشرقية
7. شارع رقم (65): الذي يبدأ من الضميرة، عارة وعرعرة وادي عارية، العفولة، عيلبون، ويتصل بشارع (85) عند الحرفشية، وهذا الشارع هو الممر التاريخي لعبور الجيوش من جنوب فلسطين إلى مجدّو ومرج بني عامر وبيسان والجليل وحيفا، كما أنه يمر عبر بلدات عربية مثل أم الفحم، كفر قرع، عارة عرعرة، مصمص سنيرقة والبياضة.
8. شارع رقم (85): ويبدأ من عكام فمجد الكروم فالراقة ثم يتصل بشارع (90) عند جب يوسف.
9. شارع رقم (89): ويبدأ من نهاريّا، سحماته، سعسع فخربة ثم يتقاطع مع شارع (90) عند خربة جيسي.
10. شارع رقم (90): الذي يبدأ من أم الرشراش، بيسان، طبريا، المطلة، وهو أطول طريق في فلسطين المحتلة حيث بلغ طوله 480 كلم، وهذا الشارع والشارع رقم (4) يسيران بشكل موازٍ لبعضهما البعض، فشارع (90) يمر عبر الحدود الشرقية وشارع (4) يمر عبر الحدود الغربية لفلسطين التاريخيه.
11. شارع رقم (899): الذي يبدأ من رأس الناقورة فسعسع فالمالكية فمسكاف عام.
هذه هي أهم الطرق التي تشكل شبكة مواصلات العدو عند حربه وفي (سلمه)، فيها وعليها يتنقل مغتصبو فلسطين المحتلة، وتتصل مغتصباته بعضها ببعض، دون الحاجة للمرور من خلال قرانا وبعض مدننا، إلّا أنها تمر بمحاذاة هذه القرى والمدن، وعلى هذه الطرق يحرّك العدو قواته وينقلها من جبهة إلى جبهة، وهي التي تشكّل خطوطه الخلفية التي يتحرك عليها جهازه اللوجستي لمد آلته العسكرية بكل ما تحتاج عند الحرب، وبعضها ـ شارع (65) ـ قال عنه قائد سلاح اللوجست في جيش العدو أنه منطقة خطرة للتنقل عليها في وقت الحرب؛ بسبب مروره من كل تلك القرى والبلدات العربية، حتى أنه قال أننا نفكر بشقّ طرق جانبية لا تمر عبر هذه القرى والمدن لنتمكن من توفير حريّة الحركة وأمنها لقواتنا إن تطلب الموقف نقل قوات عبر هذا المحور ! هذه الطرق تشكل شرايين وأوردة العدو التي تمر عبر أودية بلادنا وتلالها، وهي التي تتدفق من خلالها كل متطلبات الحياة ( لمدنييه )، والصمود والمناورة وحرية الحركة لعسكرييه. وهي كلها في متناول اليد، بل هي كما قال الأعرابي هي عَنا وعن قرانا ومدننا ( مقرط العصا ) بحيث يمكن أن نحولها إلى شبكة عنكبوت يعلق فيها عدوّنا، فلا يزال يتخبط فيها حتى تنقطع أنفاسه، ولكن كيف؟ لن نخترع العجلة ولن نعيد صناعة البارود من جديد فيكفي أن:
1. تتعطل مجموعة سيارات على بعض هذه الطرق لتحيلها إلى جهنم.
2. تُحفر فيها مجموعة حفر يصعب السير معها عليها، فتتحول إلى صداع رأس.
3. أن يسكب على بعضها ما توفر من زيت سيارات لتتحول إلى ( زحاليق ) تحتاج إلى محترفي تزلج للسير عليها.
4. أن (يُتصدق) عليها بأذى من أشجار وأحجار، للتحول إلى صفوف طويلة من السيارات تحرق وقت وأعصاب السائرين عليها والمتنقلين من خلالها.
5. أن تُشعَل عليها إطارات السيارات والمركبات ليلاً، لتتحول إلى حفر مع الصباح تحيل التنقل عليها إلى صداع رأس.
6. أن تعطل عليها الإنارة الليلية ليصبح تصيد السائرين عليها كتصيد بطّ في حقل.
7. كلها أو معظمها تحفّها الأشجار وأعمدة الإنارة، فلا بأس من قص هذه الأشجار وتلك الأعمدة لتقع في وقت الذروة في منتصف هذه الطرق، فتسدَّها وتمنع الحركة عليها.
ومن شاكلة هذه الأعمال الكثير الممكن القيام به بحيث تتحول هذه الطرق وتلك الشوارع إلى مصائد موت ومسببات صداع للعدو ومغتصبيه، تحيل راحته ودعته التي من أجلها شق هذه الطرق وأنشأها، تحيلها إلى عذاب يوميّ ونزف ماديّ إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
والله غالب أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عبد الله أمين
13 06 2022