إن أخطر موقف يواجه القائد العسكري أثناء قيادته لقطعته العسكرية؛ هو تحصن عدوه بين المدنيين وفي الحواضر السكنية، لذلك تعمد الجوش في العادة إلى عدم الدخول إلى المدن وتجنب القتال فيها؛ خاصة إذا ما كانت التشكيلات المناورة تحت إمرة القائد غير كافية من حيث العدد أو القدرات لتأمين رؤوس جسور مناسبة للتقدم داخل المدن، ومن ثم تأمين ما تحتله منها عبر موضعة بعض قدراتها القتالية فيها بهدف التأمين وحماية الظهر.
ويعود السبب في ذلك إلى أن القطعات العسكرية النظامية (الكلاسيكية) عندما تتحرك من مناطق حشدها وتنفتح على الخطوط الأمامية للجبهة؛ إنما تقوم بذلك انطلاقاً من "تقدير موقف" عملياتي يجيب على أهم الأسئلة التي تشغل بال قادة المناورة والتي منها: أين العدو؟ ما هي قدراته القتالية الحالية والمتوقعة عند الاشتباك معه؟ ما هو شكل انتشاره؟ ما هي أخر نشاطاته القتالية؟ ما هو شكل مناورته المضادة لمناورتنا؟ وكل هذه الأسئلة، يستطيع ضباط المعلومات وعناصر الاستخبارات العسكرية -على مستوى الأركان والميدان- أن يجيبوا عليها بسهولة وضمن هامش خطأ معقول، كون عدوهم ينتشر في جبهة قتال مفتوحة، ويمكن توقع سلوكه فيها، حيث إن الجغرافيا التي ينتشر عليها تفرض عليه نمطاً من السلوك والإجراءات قابل للتوقع والتقدير.
أما إن كان العدو قد تمترس في داخل المدينة وبين مبانيها السكنية، وحاز دعماً مناسباً من الحاضنة شعبية فيها؛ فإن تلك الأسئلة التي ذكرنها سابقاً، تصبح الإجابة عليه ضرباً من المستحيل، ودونه خرط القتاد؛ فلا الجغرافيا جغرافيا معروفة، ولا العدو قابل للتعرف عليه فيها إذا ما اندمج بين السكان المدنيين واستفاد من قدراتهم ليضاعف من قدراته، وهنا يتحول كل مبنى إلى جبهة مستقلة بذاته، وكل شارع إلى خط تماس يجب التحوط له والاستعداد والتحضير قبل تجاوزه.
من هنا نعتقد أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية يجب أن تعيد التفكير في استراتيجية خوضها لــ (معاركها) مع العدو الإسرائيلي وأعوانه من عملاء؛محليين أوغير محليين، بحيث يتحول سؤال ضباط عمليات ومعلومات العدو الصهيوني من، أين العدو؟ إلى مَنْ العدو؟ الأمر الذي ستسهب هذه المقالة -وبما يسمح به المقام- في شرحه وتوضيحه من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة محورية تأتي على كامل الموضوع وهي:
أولاً: ما الذي تعنيه تعبوياً استراتيجية أين العدو؟
1. تحديد الجغرافيا: إن أول ما تعنية استراتيجية أين العدو؟ هو صب الجهد وتكثيف العمل على تحديد الجغرافيا التي يتمركز فيها هذا العدو، الأمر الذي يساعد قوات المناورة على الاستفادة القصوى مما تحتويه هذه الجغرافيا -بعد معرفتها وتحديد بشكل دقيق- من ميزات طبيعية أو صناعية بحيث تؤمن للمهاجم أفضل موقف تعبوي يمكنه من تحقيق أهدافه في أسرع وقت وبأقل الأكلاف.
2. تحديد مراكز الثقل المعادية ونقاط ارتكازها: الأمر الثاني والذي ينبني على تحديد الجغرافيا؛ هو معرفة أين تنتشر مراكز ثقل العدو ومقار قيادته ومستودعات ذخائره ودعمه اللوجستي والإداري، فالجغرافيا تفرض على من يعمل فيها نمطاً محدداً من السلوك والتحضير والإجراءات، قلما يخطئ ضباط المعلومات في حال كانت معلوماتهم عن تلك الجغرافيا من النوع الصلب الدقيق في تقدير ذاك النمط من السلوك والنوع من الإجراء،، فإذا ما تم تحديد مراكز الثقل تلك؛ فإن تحييدها والقضاء عليها يصبح من الأمور الممكنة، والذي إذا ما تم فيعني خسارة فادحة وهزيمة مدوية.
3. تحديد التهديد الكلي والمخاطر الناتجة عنه داخل الجغرافيا: ومن الأمور التي تفضي إليها معرفة الجغرافيا؛ معرفة التهديد الذي تختزنه، وما يمكن أن تشكله هذه التهديدات من مخاطر على قوات المناورة العاملة فيها، فكما أن الجغرافيا تفرض نمطاً من السلوك والإجراءات؛ فإنها في نفس الوقت تفرض نوعاً وكماً معيناً من التسليح والإمكانات، وطريقة النشر والتوضيع، يمكن تقديره من قبل ضباط استخبارات العاملة في هذه الجغرافيا، فإن صدقت تقديراتهم -ضباط الاستخبارات- فسيسهل وضع الإجراءات المضادة والكفيلة بحماية أرواح ومعدات قوات المناورة في هذه الجغرافيا.
4. تحديد الإجراءات التعبوية المطلوبة لمواجهة هذه المخاطر: وضمن هذا التسلسل المنطقي المبني على معرفة الجغرافيا وما فيها من مراكز ثقل وما تكتنفه من تهديدات، فإنه يصبح من المنطقي جداً والسهل تحديد ما هي الإجراءات التعبوية المطلوب القيام بها من أجل تحييد هذه المخاطر، وتنفيذ المهمة بأعلى مستويات الأمن وضمن المهل الزمنية المعطاة لقوات المناورة وبأقل خسائر وأكلاف.
5. تحديد القدرات المطلوبة للنهوض في مواجهة هذه المخاطر: فإذا ما تحددت الإجراءات؛ يصبح من السهل تحديد القدرات البشرية والمادية المطلوب تأمينها ومن ثم تخصيصها وحشدها قبل البدء بأي عمل عسكري لتحييد التهديد في تلك الجغرافيا والقضاء على مركز الثقل المعادية وتدمير ما راكمه العدو من قدرات وإمكانيات في تلك المناطق والجغرافيات.
6. تحديد مكان تموضع وزمان استدعاء التعزيز المطلوب عند الضرورة: وحيث إن القوات المناورة تعمد إلى تخصيص جزء من قدراتها كقوة احتياط لا تشارك في العمليات إلا عند الحاجة، أو أنها تناور بكامل قواتها معتمدة في تأمين ما ينقصها من قدرات أثناء تنفيذ الواجبات على الاحتياط المركزي؛ فإن معرفة الجغرافيا القائمة على مبدأ سؤال أين العدو؟ يمكّن قوات المناورة من تحديد مكان تموضع تشكيل احتياطها العضوي (التابع لها)، أو على الأقل اقتراح مكان تموضع قوات التعزيز الممكن طلبها من التشكيلات المجاورة أو المركزية.
هذه ست نقاط رئيسية يمكن من خلال العمل وفق استراتيجية أين العدو؟ الإجابة عليها، وهي أسئلة محورية تشكل الهيكل العظمي لأي خطة عمل عسكرية يراد منها تدمير قدرات العدو وفرض إرادتنا عليه.
فماذا عن استراتيجية من العدو؟ نجيب على هذا السؤال في العنوان الثاني من هذه المقالة.
ثانياً: ما الذي تعنيه تعبوياً استراتيجية من العدو؟
1. عدم القدرة على تحديد الجغرافيا المعادية: إن أول ما تفرضه هذه الاستراتيجية من حقائق ميدانية ومواقف تعبوية؛ هو تحول كل الجغرافيا إلى جغرافيا معادية، وتحول كل من يقطنها إلى عدو، الأمر الذي يعني طلباً لقوات أكثر، ورتم حركة أبطأ، وحذر وشد أعصاب وخوف عند كل منعطف، وعند لقاء كل مواطن أو ساكن لهذه الجغرافيات المتعددة والكثيرة، إنه يعني تشتيت القوات وبعثرتها بدل حشدها، وحرمانها من أصل المفاجأة عند العمل كنتيجة لكبر الحجم وكثرة العدد المطلوب لتغطية كل تلك الجغرافيا.
2. عدم القدرة على تحديد مراكز ثقل العدو ونقاط ارتكازها: فإذا كبرت الجغرافيا وتمددت وتضخمت؛ فلا سبيل إلى تحديد مراكز الثقل المعادية المنشرة فيها بشكل دقيق، أو على الأقل عدم القدرة على تحييد مراكز الثقل تلك كلها، الأمر الذي يبقي الكتلة الرئيسية للقوة المعادية المنتشرة في تكل الجغرافيات على حالها ومحافظٌ عليها، فيطول زمن المناورة ويمتد وقت المعركة، وهو أمر مطلوب في ذاته لأي قوة مقاومة تريد أن توقع في عدوها خسائر بشرية ومادية.
3. عدم القدرة على تحديد التهديد والمخاطر الناتجة عنه: فإذا تعذر معرفة الجغرافيا التي ينتشر عليها وفيها العدو؛ فإن تقدير التهديدات والمخاطر يصبح نوعاً من أنواع القراءة في الفنجان أو الضرب في الرمل؛ كيف لا وكل متر في هذه الجغرافيا قد يحتوي تهديداً، وخلف كل منعطف وشارع يُظن وجود ما يخشى منه، وخلف كل تلة وخلة يكمن خطر.
4. عدم القدرة تحديد الإجراءات التعبوية لمواجهة هذه التهديدات: وما لا تستطيع تقديره من تهديدات ومخاطر، يصعب تحديد نوع إجراءات مقاومته والتصدي له، وكل هذا ناتج عن تبني استراتيجية من العدو؟ التي تعني أن كل شيء في هذا الجغرافيا عدو! وكل عدو يحتاج نوعاً خاصاً من الإجراءات والتدريبات، الأمر الذي يثقل كاهل القادة والمسؤولين ويحملهم أعباء تنوء بحملها الجبال.
5. عدم القدرة على تحديد القدرات المطلوبة لمواجهة هذه التهديدات: فإن تعذر تحديد الإجراءات؛ تعذر تحديد القدرات المطلوبة -كماً ونوعاً- فيلجأ القادة ومن باب التحوط والبناء على الأسوء إلى اصطحاب كل ما لديهم من قدرات، فإن كان ما اصطحب زائداً عن الحد؛ فسيكشف الإجراء، وتُفقد المفاجأة، وإن نقصت تلك القدرات عما يجب أن تكون عليه -الأمر الذي لا يمكن تحديده قبل الاحتكاك بالعدو- فستوجد نقاط ضعف في التشكيل المناور، يمكن استهدافه ضربه منها فيها.
6. عدم القدرة على تحديد مراكز تموضع وزمان طلب التعزيزات عند الحاجة: كما لا يمكن لقائد التشكيل المناور أن يحدد مكان وزمان تموضع قوات احتياطه أو الجهة التي سيطلب منها تعزيزات عند الحاجة إن هو أجبر على خوض معركة مجهولة الجغرافيا، غير معروفة العدو بشكل دقيق، فهو يعمل في جغرافيا كل ما فيها من بشر وحجر قد يكون عدو ! فأين سينتشر؟ وكيف سيناور؟ وما هو حجم قوة احتياطه؟ ومن أي التشكيلات المجاورة سيطلب التعزيز؟ كلها أسئلة يصعب -وإن لم يكن مستحيل- الإجابة عليها إن كانت استراتيجية عمل الجهة المعادة لهذا القائد قائمة على مبدأ، من العدو؟
كانت هذه أيضاً نقاط ستة تنتج عن خوض معركة قائمة على استراتيجية من العدو؟ وعليه ما هو المطلوب حتى نحول استراتيجية المقاومة في الضفة من استراتيجية أين العدو؟ التي خبرها العدو وتمرس عليها، حيث الإجابة سهلة؛ فهو -العدو (اقرأ المقاومة)- إما في جنين المدينة، أو مخيمها، أو في نابلس وضواحيها، أو في الخليل وشوارعها، وهي كلها جغرافيات خَبر العدو العمل فيها، وتمرس على المناورة ضمن جغرافيتها، إلى الدرجة التي أصبح التردد عليها روتيناً يومياً ( أمن جاري ) للعدو، فلا يتحسب له كثيراً ،ولا يحمل هم الدخول لها أو الخروج منها وبأقل الخسائر وبأسرع الأوقات.
كيف نحول الـ (أين) هذه إلى الـ (مَنْ) تلك؟ هذا ما نجيب عليه في العنوان الثالث والأخير في هذه المقالة.
ثالثا ً: ما هو المطلوب لتنجح استراتيجية، مَنْ العدو؟
حتى تنجح هذه الاستراتيجية، وتحول أي عمل تعبوي للعدو داخل الضفة الغربية إلى كابوس مزعج، وعمل تحفه المخاطر، وتُتوقع فيه أكلاف عالية؛ لا بد للمقاومة وبيئتها الحاضنة من أن تعمل على:
1. جمع المعلومات: فهي الأساس والمنطلق، والمبدأ والمنتهى لأي عمل ناجح، معلومات عن جغرافية عملها وبيئتها التي تتحرك فيها، فلا تدع شاردة ولا واردة تغيب عنها، معلومات وعن عدوها وأعوانه وعملائه تحصي فيها عليهم أنفاسهم، فتراقب تطورهم، وطرق عملهم وشكل حركتهم، متى يقفون وأين ولماذا؟ ومتى يتحركون وكيف؟ كيف يتموضعون للقتال؟وكيف ينتشرون عند وصولهم منطقة العمليات؟ وأسئلة أخرى كثيرة وتفصيلية، تجمع من خلال الإجابة عليها المعلومات عن العدو وتراكم وتتابع، بحيث تجعل منه كتاباً مفتوحاً سهل القراءة والفهم.
2. تكثير بقع المواجهة: فلا تقتصر على جنين ومخيمها مثلاً، أو الخليل وحاراتها، بل يجب أن تتحول كل جغرافيا يتنقل عليها العدو إلى ساحة مواجهة، يجب أن نفرض على عدونا أن يحتك فينا في كل جغرافيا يمر منها أو يتحرك عبرها، من اللحظة التي يعبر فيها البوابات المقامة على جدار الفصل العنصري، أو من لحظة خروجه من معسكراته ونقاط تجمعه في مدن وقرى الضفة، يجب أن يفرض عليه موقف يحمله على الشك والتخوف من أن خلف كل زاوية وكل شجرة وكل تلة وخلة تهديد، ويكمن عند كل منعطف خطر.
3. توزيع المهام: فهذا للرصد، وذاك للإشغال، وتلك القرية مهمتها أن تبطئ سير العدو، وجارتها مهمتها أن تفرض عليه الخروج من نمط السير الإداري إلى المسير التعبوي، والحارة الفلانية مهمتها توجيه العدو إلى بقعة القتل المناسبة لنا، ومكان الاشتباك الأفضل لمجموعاتنا، وتلك الزمرة مهمتها قطع الطريق وتوجيهه العدو حيث نريد ولا يريد.
4. تسليح الأرض: ومن الأمور المساعدة في تحول الـ (أين؟) إلى الـ(مَنْ )؟ تسليح الأرض بكل ما يمكن من قدرات، وتحضريها بكل ما نستطيع إمكانيات، فـ(الكوع) المعدني على زاوية شارع يبطئ المسير، وكيس النفايات خلف جدار؛ يفرض على العدو الانتظار، والحفرة في الشارع تبطئ وتحرف المسار، والإطار المشتعل يحيل الرؤية إلى ضباب، وحاوية النفايات تسد طرق وممرات، وتفرض على العدو تغير في الحركة والاتجاهات، المهم أن لا يصول ويجول العدو ويناور مرتاحاً خالي البال.
5. تقليص عدد المجموعات ونشرها: فالمجموعات القتالية هي مركز الثقل البشري للمقاومة، وحشدها في مكان واحد أو بقعة واحدة؛ مظنة الخسائر الكبيرة، ونشرها وتقليل حجمها مظنة طول العمر -بعد فضل الله وستره- فلسنا نخوض حرباً للتحرير الآن، إنما هي ضربات استنزاف وتدفيع ثمن للعدو ومغتصبيه، وعليه فالقليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع.
6. عدم الاشتباك الحاسم: كما قلنا سابقاً؛ نحن في هذه المرحلة نخوض (معركة استنزاف) مع هذا العدو، فلا يجدي فيها الاشتباك الحاسم، وليس مطلوباً فيها أن نخوض اشتباك نتأكد فيه أننا قتلنا العدو -وإن كان هذا مطلوب- ولكن يكفي في هذا المرحلة أن نسمعه صوت الرصاص ونديم مع عدونا الاشتباك، ونقطع معه التماس عند ارتفاع منسوب الخطر علينا، فالحرب مع هذا العدو سجال؛ يوم له ويوم لنا، يجب أن يكون أصل حفظ الذات أهم أصل من أصول العمل الحاكمة لحركتنا أثناء التصدي لهذا العدو الصائل.
7. نقل الجهود القتالية والمناورة الأرضية: فلا خطوط تماس ثابتة، ولا حافة أمامية لمنطقة القتال واضحة، بل المنطقة كلها تطلق النار، فيقطع التماس في الحي الفلاني ليبدأ الاشتباك في الحارة الفلانية، وتقطع طرق تقدم العدو في شارع بالإطارات المشتعلة، وتسد طرق أخرى بنار البنادق، وهنا تطلق عليه النار، وهناك يرجم بالأحجار.
هذه بعض الأمور التي نعتقد أنها تساعد في تحول الـ(أين؟) إلى الـ(مَنْ؟) الأمر الذي يفرض على العدو تكبد أكلاف مادية وتحمل أعباء نفسيه وروحيه تستنزفه وتحيل أيامه عناء، وجهوده هباء .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عبد الله أمين
18 07 2022