أولاً: استهلال:
ينتاب الإنسان شعورٌ بحالة من الذهول الممزوج بالغضب عندما يتابع عمليات الجيش الإسرائيلي في مختلف مدن وقرى الضفة الغربية، والتي يستهدف من خلالها تصفية المقاومين والنشطاء من أبناء شعبنا، هذه الشعور يزداد حدة عندما تتم مشاهدة الأفلام القصيرة التي تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو أثناء نقل نشرات أخبار المحطات الفضائية لتلك العمليات، يرجع منشأ هذا الشعور إلى ما نشاهده من سلاسة وسرعة دخول العدو إلى مكان الهدف وخروجه من هناك، محققاً في أغلب الأحيان غرضه من العملية دون أن تقع فيه خسائر بشرية أو مادية، تجبره على التفكير مئة مرة قبل أن يعيد الكرة، أو على الأقل أن تكون حركته وتنقلاته ليست على تلك الصورة من البساطة والمرونة.
إن هذه المقالة تعنى بالحديث حول مجموعة من "أصول الحرب" التي نعتقد أن العمل بمقتضاها يفيد في جعل حركة المقاومين أكثر كفاءة وفاعلية، كما تجعل عدوهم يتحسب ويتهيب عندما ينوي العمل في المناطق.
ولا ندعي أن العدو سوف (تنقطع) رجله عن التردد على مدننا وقرانا ومخيماتنا، إنما الهدف من ذكر هذه الأصول هو رفع أكلاف مناورة العدو وزيادة نسبة أمن المقاومين.
وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أن هذه الأصول يعرفها كل من خبر العمل العسكري، مما يعني أن العدو يعرف أن المقاومين قد يعملون بمقتضى هذه الأصول، كما أننا نعرف أن عدونا يعمل أيضاً مسترشداً بها؛ لذلك فإن الفرق يكمن في كيفية تطبيق هذه الأصول والعمل وفقاً لما تتطلبه، فللحرب أصول ثابتة يعرفها كلا طرفي القتال؛ والفرق يكمن في كيفية تطبيق هذه الأصول.
إذن فالهدف من هذه المقالة معرفة هذه الأصول، وترك فن تطبيقها لأهل الميدان، ينزلونها على الأرض بالطريقة والكيف الذي يرونه مناسباً.
وقبل البدء بالحديث عن هذه الأصول؛ ورفعاً للإشكال الذي قد يثيره البعض من أننا لسنا جيشاً نظامياً ولا تشكيلات هرمية لينطبق علينا ما ينطبق على الجيوش من أصول ومقررات!! رفعاً للإشكال نقول، إن التمعن في هذه الأصول والتفكر فيها يوصل إلى نتيجة مؤدها أن العمل بمضامين هذه الأصول ومقتضياتها يتم من قبل أي كائن حي أو تشكل بشري ــ عسكري أو مدني ـ عنده في هذه الدنيا رؤية ورسالة وهدف يريد الوصول له؛ لكن الفرق في أن العسكريين -المنظمين وغير المنظمين- يفطنون لهذه الأصول ويحرصون على رعايتها، ويسهبون في شرحها والتأكيد عليها، ويستخدمون في الحديث عنها مصطلحات أهل الفن والمهنة؛ كون الخطأ في عالمهم ومهنتهم ثمنه الدماء والأشلاء، وحجز الحريات ودمار البنى والحضارات!! نختم هذه الاستهلال لنبدأ الحديث بتعرف مصطلح "أصول الحرب".
ثانيا: تعريف أصول الحرب:
هي مجموعة من المبادئ والأسس والمعايير المنطقية والعقلية المتفق عليها في مختلف المدارس العسكرية -شرقاً وغرباً ووسطاً- حيث تشكل هذه الأصول الهيكل (العظمي) لأي خطة عسكرية، ومنطلقات تقييم ومراجعة أي موقف قتالي، حيث أن عدم رعايتها والعمل بمقتضاها يؤدي إلى فشل المهمة، وعدم تحقيق أهدافها والغرض منها؛ أو في أحسن الأحوال يؤدي عدم رعايتها إلى تعثر المناورة واستطالة زمنها وخروجها عن السيطرة ووقوع خسائر بشرية ومادية، أكثر بكثير مما لو تم العمل بمقتضى تلك الأصول.
ثالثاً: الأصول القتالية:
سوف نحاول تطويع النصوص وبسط محتواها بحيث تناسب الوضع (اقرأ الموقف) الذي نكتب عنه، فلن نتحدث عن هذه الأصول كحديثنا عنها عندما ندرب أو نخاطب جيوشاً أو تشكيلات عسكرية نظامية، إنما سنحاول أن نُبَسّط المشهد بما يساعد في سرعة هضم وفهم مغزى كل أصل من هذه الأصول، وكيف يمكن العمل بمدلولاته. أما عن الأصول فيه على النحو الآتي:
1. أصل الهدف: إن أول هذه الأصول هو "أصل الهدف"، إنه ذلك الشيء الذي يجب أن تحشد وتخصص كل الطاقات والموارد -البشرية والمادية- للوصول له، وهنا يجب أن يتم التفاهم على أصل الهدف المطلوب تحقيقه من قبل المقاومين في منطقة العمليات أو المسؤولية (اقرأ الحي أو الحارة أو المدنية أو القرية) بحيث يتناسب هذا الهدف مع ما يمتلكون من قدرات، وما يمكن أن يتحركوا فيه من جغرافيات، فإن كان الهدف الذي تعمل على تحقيقه الجيوش النظامية يتمثل في جغرافيا يجب الوصول لها والتموضع عليها؛ فإن أصل الهدف الذي نعتقد أنه يتناسب مع ما تمتلكه المقاومة في الضفة الغربية من قدرات وما يحيط بها من مخاطر تهديدات، إن الهدف المطلوب تحقيقه يمكن أن يكون؛ فرض حالة من عدم الاستقرار على العدو في أي جغرافيا يتموضع أو يستقر فيها، وحمله على إعلان حالة من الاستنفار جنوده؛ تفت في عضدهم، وتستنزف قدراتهم وتسلبهم راحتهم، و حالة الإرباك هدف يمنع العدو من التفكير أو التشكيل المنظم، غير مغفلين أن هذه الأهداف يجب الحرص معها على إيقاع أكبر كم ممكن من الخسائر البشري والمادية في هذا العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا.
2. أصل التأمين: وحتي يتم تحقيق هذا الهدف؛ يجب أن تحرص مجاميع المقاومة على رعاية أصل التأمين؛ التأمين الشامل الذي يوفر السلامة للأفراد والمعلومات والمنشآت، إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند رؤية العدو وهو يناور بسلاسة على أهدافه في الضفة الغربية هو أنه يحوز إشرافاً معلوماتياً يمكنه من الدخول والخروج إلى منطقة العمليات بشكل سريع وآمن دون أن تقع فيه خسائر؛ مع كل ما يُسمع من صوت للرصاص، لذلك حتى تزداد نسبة المجهول الذي يولد الخطر في بيئة عمل العدو؛ يجب الحرص على رعاية "أصل التأمين الشامل"، يجب تجنب التظاهر والظهور أمام الكاميرات، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي -من أغلق دائرة الهدف على الشهيد "إبراهيم النابلسي " كانت الوحدة 8200-، حتى لو قيل أن مثل هذا الظهور يفيد في رفع معنويات الشباب ويشكل عامل تحفيز لهم للالتحاق بالمقاومة، إن مثل هذا الفعل -التظاهر- سيف ذو حدين، وإثمه أكبر من نفعه، فالله الله في أنفسكم أيها المقاومون لا تفجعونا بكم.
3. أصل المناورة: إن وجود هدف، يتطلب الوصل له إلى مناورة (اقرأ حركة وتنقل) مناسبة تمكن المقاومين من أن يمتلكوا موقفاً ميدانياً أفضل من موقف عدوهم، ومَن أفضلُ من أبناء المخيم أو الحي أو المدينة للمناورة في بيئتهم، فهم قد خبروها وعرفوها معرفتهم كفوف أيديهم، لذلك يجب أن يتم وضع الخطط ورسم المناورات التي تمكن المقاومين من التقرب من عدوهم في أمكان استقراره أو أثناء تنقله بين المناطق وتسديد الضربات الموجعة له، دون أن تلحق بالمقاومين الخسائر، وهذا أمر سهل مقدور عليه إن راعينا أصل "التأمين الشامل" سالف الذكر، عندها سيتحول المقاومون إلى أشباح؛ يَرون ولا يُرون، وستُجبر مثل هذه الحركة أو المناورة العدو على التعامل مع كل شيء على أنه تهديد، ومع كل مواطن على أنه مقاوم؛ فتستنزف قدراته وتتشتت طاقاته.
4. أصل المرونة: ليست معركتنا مع عدونا معركة خنادق ثابتة،ونصرنا عليه يأتي بالنقاط وليس بالضربة القاضية -على أقل تقدير في هذا المقطع الزماني- ولا يجب (دق) الرأس في صخرة هذا العدو أملاً في تفتيتها، بل يجب أن توضع الخطط والإجراءات مراعية المرونة في التنفيذ، وهذه المرونة لا يمكن أن تتوفر ما لم يكن شكل واستعداد التشكيل المقاتل -المجموعات القتالية- صغير الحجم، حائزاً إشرافاً معلوماتياً على منطقة المسؤولية أو منطقة العمليات، أو المكان الذي تتحرك أو تنتشر فيه تلك المجموعات، إن هذه المرونة هي التي تفيد في تطبيق ورعاية أصول أخرى، لا يمكن النجاح دون رعايتها.
5. أصل الحشد: إن مجاميع المقاومة في مناطقنا ومدننا وقرانا يجب أن لا تكون كبيرة الحجم، كثيرة العدد، الأمر الذي يجعل منها أجساماً ثقيلة الحركة ظاهرة البصمة لا يمكن إخفاء حركتها، الأمر -كبر الحجم والعدد- الذي لا يمكنها من رعاية أصل "التأمين الشامل " ويسلبها المرونة والحركية، ويمنعها من حشد أفضل القدرات والتجهيزات للتعامل مع ما يعترضها من تهديدات، لذلك فالحشد هنا يعني جمع القدرات والطاقات فقط عند الحاجة، للتعامل مع المخاطر والتهديدات، وهنا تلعب المرونة والحركية الدور الحاسم في تفعيل مبدأ حشد القدرات القتالية في أقصر البره الزمانية.
6. أصل المفاجأة: نحن نعمل بين أهلنا وفي قرانا ومدننا ومخيماتنا، وعليه نستطيع أن ننتشر بالطريقة التي تمكنا من مفاجأة العدو والخروج له من حيث لا يحتسب، وهنا لابد من التذكير أن مفاجأة العدو وتسديد الضربات له في الزمان والمكان غير المتوقعين، أو سلبه القدرة على إظهار أي رد فعل على فعلينا، يعنى تحقيق أصل المفاجأة للعدو؛ ولا يمكن لهذا الأمر أن يتم ما لم تتم رعاية أصل "التأمين الشامل" والسرعة في الفعل الذي يتعذر تحقيقهما ما لم تكن تشكيلات المقاومة ومجاميعها صغيرة الحجم مرنة الحركة.
7. أصل الهجوم: نعم إن أصل الهجوم، والمبادرة لضرب العدو قبل أن يستقر، أو وهو في حالة الاستقرار يعني أننا نفرض عليه موقفاً هو غير جاهز للقتال فيه، كما أن التعرض الدائم للعدو يجبره على البقاء في حالة استنفار واستعداد تفت في عضد قواته، وتتعبها وتدخل السأم واليأس في صفوفها، وهذا أمر مطلوب لذاته، و"أصل الهجوم" يحقق مصلحة راجحة وهي عدم تمكين العدو من المحافظة على تنظيم قتالي مستقر؛ الأمر الذي يعني عدم قدرته على خوض الاشتباكات القتالية الحاسمة، أو إنهاء المهام بنجاح وفق ما خطط لها زماناً ومكاناً.
8. أصل الاقتصاد بالقوة: فلسنا ننهل من بئر معدات أو تجهيزات لا تنضب، ولسنا نغرف من بيئة شعبية تعوض النقص البشري بشكل آلي وسريع -نحن لسنا دولة تعوض النقص البشري متى شاءت وكيف شاءت وبالقدر الذي تريد- وعليه؛ يجب عدم تبذير القدرات على اختلاف صنوفها وأنواعها في ما لا طائل منه من اشتباكات (وعراضات)، كما يجب التمكن من معرفة الأعمال التعبوية المعادية التي يهدف العدو منها فقط إلى تبديد الطاقات واستنزاف القدرات، فما كل عمل معاد الهدف منه قتل أو أسر، بل هناك إجراءات تعبوية معادية الهدف منها فقط جمع المعلومات -استطلاع بالقوة-، كما أن بعض الأعمال والإجراءات غاية العدو منها؛ الدفع إلى تبذير القدرات واستنزاف الطاقات.
9. أصل البساطة: ومن الأصول التي تساعد في الحاق الخسائر في العدو وفرض حالة من عدم الاستقرار ودوام الاستنفار المؤذية له ولجنوده؛ "أصل البساطة"؛ بساطة في اختيار الأهداف بما يتناسب مع القدرات، والبساطة في الاتصالات وعمل الوصلات بين مختلف المجموعات، والبساطة في الانتشار في الطرق والحارات والزقاق والطرقات، هذه البساطة تظهر في تبيلغ المهامات وأثناء التنفيذ وتشغيل القدرات -قل لي ماذا؟ ومتى؟ وكيف أفعل؟ والسلام-، ولكن عند التخطيط؛ فإنه تراعى كل شاردة وواردة، ولا تغفل صغيرة ولا كبيرة، دون التطرق لها أو توقع إمكانية حدوثها؛ فيدبر لكل موقف ما يناسبه من إجراءات ومناورات وحركات.
10. أصل وحدة القيادة: إن العاملين في فلسطين كثر، وفصائل المقاومة في الضفة الغربية كثيرة، وكلها -تقريباً- تعمل في منطقة عمليات واحدة، ففي المخيم أو القرية أو المدينة الواحدة تجد أكثر من فصيل عامل، وكلها لها قياداتها ومرجعياتها السياسية والعسكرية، كما أن هذه الفصائل في تلك البقع الجغرافية تملك امتدادات في جغرافيات فلسطينية أخرى، مجاورة أو بعيدة، وحتى ينتظم عمل هذه الفصائل، وحتى لا يُحدث التزاحم في الميدان جلبة يستفيد منها العدو؛ لا بد من إطار ينظم قيادة هذه الجغرافيات، هدف هذا الإطار الناظم؛ التفاهم على أصل الهدف من الأعمال، وإسناد بعض التشكيلات لبعضها، رعاية لـ "أصل التأمين"، وللتفاهم على فكرة مناورة (اقرأ حركة وتنقل) مجاميع المقاومة في تلك المخيمات والحارات، ثم تحديد وتوزيع للمهام والأدوار، وتخصيصاً للقدرات بناء على ما تم التفاهم عليه من أهداف وغايات، ولا يفهمن أحدٌ أن المطلوب عمل هيكليات قيادة كلاسيكية؛ خيطية كانت أو عنقودية، بحيث (تفرط) هذه التشكلات بمجرد إمساك طرف خيط لهذه المجموعات، إنما نقصد من وحدة القيادة والتفاهم على (إطار) قيادي؛ التفاهم على كيفية إدارة الفعل المقاوم الذي تمارسه تلك الفصائل في جغرافيا واحدة، أمام عدو وتهديد مشترك، بحيث لا يتولد احتكاك غير محمود، يفضي إلى كشف وفضح النوايا، واحباط والأعمال والإجراءات، وهنا تترك كيفية رعياة هذا الأصل والعمل بمقتضياته لمن هم في الميدان ومن يدهم في النار، وليس لمن ينظرون المشهد من خلف الجدار.
11. أصل الدفاع المتقابل: إن رعاية أصل "وحدة القيادة" وفقاً لما قلناه سابقاً؛ يساعد في تنظيم عمليات الدفاع المتقابل بين مختلف بؤر المقاومة ونقاط ارتكازها، فعندما يتم تحديد العناوين القيادية للفصائل الجهادية؛ يسهل تنظيم مناطق المسؤولية وبقع العمليات الجغرافية، وهي مقدمات تعبوية مهمة في تنفيذ فكرة الدفاع المتقابل، بحيث تساند وتعزز الجغرافيات بعضها البعض، في جهد منظم معروف الأهداف مخصص القدرات، فلا يستفرد العدو بجغرافيا دون أخرى، ولا يتغول على منطقة دون منطقة، فيحسب حساباً لأي عمل ينوي القيام به ضد أي جغرافيا من جغرافيات الضفة الغربية، بحيث يصبح (اللكش) في أي منطقة من مناطق الضفة يشبه (الحركشة) في عش دبابير ســ (تفوع) في وجه هذا المحتل الغاصب ملحقة به الضربات تلو الضربات والقرصات تلو القرصات، إلى أن يصبح الدخول إلى قرانا ومددنا ومخيماتنا من (المحرمات).
هذه بعض "الأصول القتالية" التي نعتقد أنها بحاجة إلى بسط أكثر مما بسطت فيه في هذه المقالة، كما أنها بحاجة إلى قراءة متأنية لمعرفة فن تطبيقها واخراجها من حيز التنظير والكلمات، إلى حيز الفعل والإجراءات، ففي رعاتها والعمل بمقتضاها، حقن لدم هنا، وتسديد لضربة هناك، وتقليل من خسائر هنا وزيادة أكلاف على العدو هناك، هي "الأصول القتالية" عبارة عن جزء من الأسباب التي أمرنا ربنا أن نأخذ بها، ولا نركن لها، فالاخذ بها منجاة والتنكب لها مظنة الخط. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عبد الله أمين
15 08 2022