معالم وقواعد إرشادية للمقاومة العسكرية
" إنا كل شيء خلقناه بقدر " " فقدرنا فنعم القادرون " هذا شأن الله في خلقه وملكه، كل شيء يسير حسب قانون، وبناءً على قواعد وسنن؛ من سار وفقها وعمل بمقتضاها؛ وصل؛ وفي أسرع الأوقات وأقل الأكلاف، ومن تنكّب هذه السنن وصادم تلك القواعد، وركن لنفسه وجهده و(شطارته)؛ زلت قدمه، وطاش سهمه؛ ولن يصل.
ولكل فن أصل وقواعد يرتكز عليها وينطلق منها، ويُرجع لها عند الملمات لتصويب المسار وتوقي الأخطار، وحيث أن العمل المقاوم الخشن فرعٌ من الأصل الذي هو العمل العسكري بشموليته ؛ كان لابد من التزام الأصول والقواعد والسنن التي بني ويبنى عليها العمل العسكري، وهو أمرٌ جئنا عليه بالتفصيل عندما تحدثنا عن مسار بناء القوات في سلسلة مقالات سابقة، وهي قواعد وأصول ناقشناها في أكثر من مقالة ــ وإن كانت موزعة ومبعثرة في ثنايا تلك المقالات ــ وكوننا نراقب عن بعد حركة تصاعد المقاومة في الضفة الغربية التي بدأت تشكل صداعاً لرأس المحتل، وتهديداً ذا مصداقية على أمنه، دفعه لتخصيص قدراته وحشد طاقاته للتعامل مع هذه الظاهرة الآخذة في النمو، ولأن هذه الظاهرة يجب أن تُحمى ويدافع عنها ويقدم لها النصح الذي هو جهد المقلّ، جاءت هذه المقالة لتتحدث عن بعض القواعد التي يجب أن ينتبه لها المقاومون وهم يحثون الخطأ نحو أهدافهم، ويراكمون القدرات لمقارعة أعدائهم، مشيرين إلى أن هذه القواعد إن انتُبه لها وأنزلت منزلتها وبما يتناسب مع الميدان ؛ فإنها ستساعد في تطوير العمل ـ بشرياً ومادياً ـ وحمايته من ضربات العدو، بحيث يحقق أهدافه في أسرع الأوقات وبأقل الأثمان، آملين أن تسهم هذه المقالة في حفظ دماء المقاومين، وأن تكون سبباً في الإثخان في الجنود المحتلين.
ومن القواعد ومعالم الإرشاد تلك ما يأتي:
- الاستراتيجية: لن نخوض كثيراً في موضوع الاستراتيجية تعريفاً ومصطلحات، فقد ذهب الناس فيها مذاهب، وتعدد القول فيها وكثر، وسنذهب إلى أصل الهدف عند الحديث عنها لنقول إنها تعني في أبسط صورها كما ذكر الجنرال كلاوزيفتز في سفره العظيم "عن الحرب " هي: "استخدام الاشتباك من أجل الوصل إلى أهداف الحرب " وفي مكان آخر قال عنها أنها " فن استخدام القوات في تحقيق هدف الحرب " وقال إن " الاستراتيجية الأفضل هي في أن نكون أقوياء جداً في كل مكان أولاً ومن ثم في النقطة الحاسمة ".
على المقاومين في الضفة الغربية أن يجيبوا على سؤال المهمة (اقرأ الهدف) التي يريدون أن ينهضوا بها والهدف الذي يرومون نيله، عندها ستبدأ معالم استراتيجيتهم تبرز وترتسم، فالعمل بدون استراتيجية واضحة معروفة المعالم سوف يؤدي إلى هدر للقدرات واستنزاف للطاقات، وبوجودها تُجبر الأخطاء والهنات، لذلك يجب أن يحدد المقاومين ما هي استراتيجية عملهم ضد عدوهم، أهي استنزاف؟ أم مشاغلة؟ أم الهاء؟ هل هي استراتيجية تشتيت للعدو؟ أم استراتيجية مواجهة وصد ومنع؟ ولكل من هذه الخيارات مقتضيات وتبعات، ولا نريد الاسهاب أكثر حتى لا يطول فينا المقام، ويكثر منا الكلام.
- المواكبة المعلوماتية: ومن القواعد المهمة ما نطرحه في كل مقال ونعيد طرحه عند كل موقف؛ أن المعلومات، أم الواجبات وفرض الفروض، هي التي تقول ما هي الاستراتيجية الأجدى وما هو التكتيك الأنفع، وهي التي تشير إلى النقطة الحاسمة أو مركز الثقل المعادي الذي يجب أن نكون أقوياء في مواجهته، وهي التي تحدد كيف ومتى وأين نضرب العدو؟ وأين وكيف وضمن أي سقف زمني يجب أن نطور ونراكم قدراتنا؟ وهي التي تقول متى نقدم ومتى نحجم؟ هي التي تخبر أن عملية العدو استنفدت أهدافها وبدأت موجتها بالانحسار، وعليه يجب أن نبدأ بالضغط عليه لتكبده الخسائر أثناء الانسحاب والاندحار.
ثم كيف لنا أن نقاتل عدواً يحصي علينا لأنفاس، ولا نحصي نحن بالمقابل عليه الزفرات؟
- الروتين: القاتل الخفي! الذي قتل ويقتل منا كل يوم شهيد، ويوقع فينا الخسائر منذ أن احتل هذا العدو بلادنا، ولنرجع إلى التاريخ بحثاً عن قصص شهدائنا وأسرانا، وكيف تمكن العدو من استهدافهم أو اعتقالهم، سنجد أن القاسم المشترك بين كل حالات الشهادة أو الاعتقال تلك، القاسم المشترك هو الروتين ؛ روتين المبيت، والمسير، والتجمع، وساعات العمل وظروفه، كلها مقاتل وكمائن موضوعية يصطادنا عدونا بسببها، لذلك يجب العمل بحيث لا يُعرف لنا روتين، فلا نظهر في المكان أكثر من مرة، ولا نتحرك في نفس الساعة أو الوقت في كل مرة، إن عدم وجود روتين يعني عدم قدرة العدو على رسم صورة واضحة لنا، فلا يقرأنا ولا يفك شيفرة عملنا.
- التنميط: وكما أن الروتين هو القاتل الخفي الذي قتل ويقتل صاحبه؛ فإن تنميط العمل يعني إعطاء فرصة للعدو لتوقّع المكان والزمان والأسلوب لعملنا، فإن تمكن من ذلك فهذا يعني أننا سنجده يسبقنا بخطوة، وأنه يتربص بنا عند كل زاوية، وأن ما حشدناه من قدرات لضربه؛ سيبطل مفعوله عند أول اشتباك ومع بداية الاحتكاك، كيف لا والعدو يعرف بصمة عملنا التي تقول له كيف نفكر وننفذ خططنا ومخططاتنا، لذلك فحصره لخيارات عمله ضدنا عند معرفته بصمتنا سيكون سهلاً ميسوراً.
- الرؤية العُقابية : على المقاومين أن يملكوا اشرافاً وسيطرة على الموقف تمكنهم من رؤية المشهد وبكل تفاصيله، مع تركيزهم على فريستهم التي يريدون أن ينقضوا عليها، الأمر الذي يمكن القيام به إن أحسنا حشد القدرات وتخصيصها، وتوزيع الأدوار بشكل صحيح، يجب أن نكون حادي البصر بحيث نرى ما وراء الحدث وما يختفي خلف الموقف، فلا نخدع بإجراء ولا نجر إلى موقف لعدونا فيه اليد العليا، إن هذا الأمر ـ الرؤية العُقابية ـ لا يمكن الوصول له بغياب المعلومات ومعرفة أصل الهدف من المهمات، فالأولى تتيح لك الرؤية الشاملة التي لا تنخدع معها ولا يتشتت انتباهك، والثانية تقول لك أين تركز قوتك وأين تضرب ضربتك. فيا أيها المقاومون كونوا نسور الجو كما كنتم سباع البر.
- المرونة والحركية: إن مما تتيحه المعلومات وتوفرها، وحسن قراءتها، وتحليل محتواها ومعرفة نوايا عدونا منها؛ أنها تمكنا من أن نملك " رؤية العقاب " ومرونة " الفهد " فلا ينجو من ضرباتنا عدو، إن الحركية والمرونة من أهم نقاط قوة أي مجموعة مقاومة تواجه عدواً يشبه عدونا، إنها بعد فضل الله هي التي تمكن المقاومين من التملص من كمائن عدوهم، وهي التي تمكنهم من الحشد المناسب، في الزمان والمكان المناسب، وهي التي تمنح المقاومين خفة في الحركة وبراعة في المناورة، وسرعة في التحول من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. ومربط فرسها ـ المرونة ـ أنها تجعل المقاومين يغيبون عن رادارات العدو ــ الآلية والبشرية ــ فلا يظهرون إلا عند الحاجة ولا ينقضون إلا عند الضرورة.
- التشدد في الإجراءات: ومن المعالم والقواعد الإرشادية التي تقي مصارع السوء ومواقف الخطر القتالية، التشدد في تطبيق الإجراءات الأمنية والتعبوية، وليبقى حاضراً في أذهاننا تراخي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وكيف تهاونوا في تنفيذ إجراء أمروا به، فكانت نتيجة هذا التراخي سبعين شهيداً من الصحابة، على رأسهم أسدهم، وكسراً في وجنة النبي صلى الله عليه وسلم ورباعيته! إن التشدد في تنفيذ الإجراءات يعني حماية الظهر وصوناً للعرض، وعدم إفساح المجال للعدو لأخذ زمام المبادرة، إنها تعني تجمعاً (للعصي) فلا تُكسر فرادى! وهي تعني فيما تعني عدم إعطاء العدو فرصة يبحث عنها لأخذ زمام المبادرة منا، إنها باختصار تعني صوناً للدماء والحريات، فلا تراق بلا طائل ولا تقيد بلا فائدة.
- التظاهر والأعمال المشهدية : إنها السيف ذو الحدين، وملح وبهارات الطعام التي إن زادت عن حدها انقلبت إلى ضدها، إنها الإجراء الذي يجب أن يوزن بميزان الذهب، والذي لا يؤخذ قراره إلا بعد عرضه على معادلة الجدوى والأكلاف، فإن كان هذا الإجراء في وجهٍ من وجوهه شحذاً للهمة، وحشداً للطاقة، ورفعاً للمعنويات ؛ فإنه في وجهه الآخر مصدرٌ للمعلومات، وبابٌ للمفاسد والمضرات، إن رسالة المقاومين التي يريدون أن يرسلوها للعدو قبل الصديق، يمكن أن ترسل وتصل دون الخروج بتلك المظاهر المشهدية، فالفعل يتحدث عن نفسه، وهو مؤثرٌ أكثر إن لم يعرف من خلفه، فالإنسان يخشى ويخاف من المجهول أكثر منه خوفاً من المعلوم ! فالأول لا حيلة معه ولا دواء له، أما الثاني؛ فإن عجزت القدرات الحالية عن المواجهة الآنية؛ فإن معرفة من يقف خلف الحدث وبمن نواجهه؛ يكفينا لنعد له ما ينهض في وجهه، ومراكمة ما يكفي من القدرات للتصدي له والقضاء عليه، إن أفضل ما يشنف الآذان قول قادة العدو أننا نقاتل اشباحاً لا نعرف توصيفها! قالها عندما واجه الشهيد يحيى عياش رحمه الله ومن قبله عماد عقل، ومن بعدهما (أشباحاً) تقبع في أنفاق غزة لا يعرف كيف يواجهها ولا ماذا أعدت له، فهل بعد هذا الرعب رعب؟
- برود الرأس : فالمعارك والحروب لا تدار برؤوس حامية، ولا بردات فعل آنية، وقديماً قيل أن الانتقام طبقٌ يؤكل بارداً، والرأس الحامي معروف رد فعله، ومتوقع تصرفه، ومع أن المشاهد التي يشاهدها المقاومون من دماء تنزف إلى جانبهم، وبيوت تهدم في جوارهم، وأشلاء تتطاير من فوق رؤوسهم، كلها تدعو إلى غليان الدماء في العروق، وطيشان العقول في الرؤوس، إلا أنه يجب أن يحافظ على رباطة الجأش وتحمل الضغط، فأهم ما يريده العدو من وضعنا تحت الضغط حرمانَنا من التفكير المنظم والمنطقي الذي يصدر عنه الإجراء الأنجع لمقاومته، لذلك يجب أن نفوت على عدونا هذه الفرصة، وأن نحافظ على عملية التفكير المنطقي والمنظم الذي يتيح لنا صفاء الذهن ووضوح الرؤية، فـ ( نلعب ) في ملعبنا وفقاً لقوانين ( لعبنا )، وليس في ملعب العدو وبناء على شروط لعبه.
- الارتجال والعفوية: التخطيط مهم والتفكير المنظم مهم؛ ولكن أفضل ضباط أركان العمليات العسكرية وأكثرهم حنكة ودراية، إن نفّذ من خططه الورقية وما رسمه على الخرائط، ستين بالمئة (فأبو زيد خاله)!! فساحة المعركة من أكثر السوح تقلباً وأشدها تغيراً وتبدلاً، والموقف فيها يتغير بين فينة وأخرى، لذلك ما لم تكن القوات مرنة وصاحبة خبرة، وقادرة على الارتجال والتصرف بعفوية بناء على المواقف الميدانية؛ فإنها ستواجه بمعاضل ومشاكل تعبوية، لا حل لها ولا مناص من الخضوع أمامها، لذلك فإن المعلومات والخبرة وبرود الرأس ورباطة الجأش والجاهزية الدائمة كلها من الأمور التي تساعد على الارتجال، للخروج من المآزق والعمل بلا انفعال.
هذه بعض المعالم وقواعد الإرشاد التي تساعد في مراكمة التجارب، وحفظ الأصول البشرية والمادية للمقاومة، نرجو أن تكون محل فائدة، وسهماً في جعبة المقاومين يرمون به عدو الله وعدوهم، وترساً يترسون به.
والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
عبد الله أمين
18 10 2022