أولاً : توطئة :
يُعهد لضباط الاستخبارات العسكرية ؛ وبما يوضع بين أيدهم من قدرات بشرية ومادية ، أن يضعوا بين يدي ضباط العمليات ما يتوصلون له من معرفة حول نوايا العدو المستقبلية ، الأمر ـ معرفة النوايا ـ يمثل خلاصة عمل أي جهاز استخبارات عسكرية في العالم ، فما يُحَصّلونه من أخبار ومعلومات من مصادر مفتوحة أو مغلقة ؛ وبعد أن يُخضعوه للمدار المعلوماتي الذي يشمل : الجمع ، والتصنيف ، والتقييم ، والتحليل ، والاستنتاج ، ثم إعادة التوجيه للجمع من جديد ، بعد أن تُخضع هذه الأخبار لهذه العملية ؛ يجب على ضابط معلومات القائد ، والذي يعبر عنه بمصطلح " ركن الاستخبارات " أن يقدم للقائد رأيه المهني فيما توصل له من معرفة حول نوايا العدو المستقبلية ، وبما أن "ركن عمليات " القائد يشارك في جلسات الإحاطة والتوجيه المعلوماتية التي تُعقد للقائد وباقي أركانه الرئيسيين ـ ركن العديد أو الموارد البشرية ، ركن الدعم اللوجستي ـ ؛ يُعهد إلى ركن العمليات وفريق عمله وضع الخطط والإجراءات والتدابير التي من شأنها أن تحول دون العدو وتحقيق ما يبيت من نويات ، ويضع يضع من أهداف . لذلك في العرف والقوانين العسكرية ؛ المسؤول الأول والأخير عن أي إخفاق هو قائد التشكيل أو الوحدة ، الذي يتحمل كامل تبعات الإخفاقات أمام مسؤوليه ، ثم يعود لبحث سبب القصور ( اقرأ الهزيمة ) الحاصل مع ركني معلوماته وعملياته ، كونهما هما الضابطين المسؤولين عن عدم تقديم الرأي الأقرب للصواب عند تقدير النوايا ، واقتراح الإجراءات ، وفي هذا تفصيل يطول ، يعرفه أصحاب الاختصاص ، وأهل ( الكار).
ولما كانت معرفة النوايا تنعكس سلباً ـــ إن جاءت في غير زمانها ومكانها ــ أو إيجاباً ــ إن جاءت في الزمان والمكان المناسبين ــ على خطط القائد لمواجهة عدوه ، وحتى لا يغرق هو وأركان عمله في التفاصيل والتقارير اليومية التي توضع أمامهم ، خاصة في زمن ثورة المعلومات ، وفورة وسائل التواصل الاجتماعي ، التي أحالت كل حامل لجهاز ذكي ، عنصر جمع معلومات ، أو مراسل حربي ، حتى لا يغرق القائد ومعاونوه ؛ لا بد لهم من معرفة مرتكزات الإستراتيجية العسكرية التي تحكم سير عمل عدوهم ، أثناء بناء وتشغيل قدراته ، فمعرفة هذه المرتكزات تساعد على فهم الصورة الكلية للموقف القتالي ، وتحديد ما يمكن أن يبيته العدو من نويا على المستوى الإستراتيجي والعملياتي والتكتيكي ، فلا يفاجئهم ؛ فيصبحهم أو يُمسيهم وهم لا يشعرون . إن هذه الورقة ، ومن خلال متابعة عمل العدو الإسرائيلي في الأرض المحتلة، سوف تحاول عرض مرتكزات الإستراتيجية العسكرية للعدو في الضفة الغربية ، ومن ثم استنباط عقيدته القتالية التي تأتي كتابع طبيعي ومنطقي يفرضه تبني مثل هذه الإستراتيجية ، ثم سنختم ببعض التوصيات أو الملاحظات التي تساعد في إفشال العدو ، ومنعه من تحقيق أهدافه .
ثانياً : مرتكزات الاستراتيجية العسكرية للعدو في الضفة الغربية :
المرتكز الأول لاستراتيجية العدو القتالية في الضفة الغربية هو الاستنزاف ، وهي حالة الهدف منها ؛ منع المقاومة من مراكمة أي قدرات فنية ، أو تحصيل أي خبرات قتالية تمكنها من تطوير ذاتها ، وإجراءاتها ، فتطوير الذات والإجراءات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يُحصّله المقاتل من قدرات ، وما يراكمه من خبرات ، لذلك فالعدو بإجراءاته اليومية ، وما يقوم به من اقتحامات متكررة للمدن والقرى ، لا يتيح للمقاومة فرصة تطوير ذاتها ، فقد شاهدناه بعد انتهائه من عملية جنين الأخيرة ، وبشكل مباشر يقتحم منطقة العين في نابلس ، كما دفع بقوات باتجاه طول كرم وقلقيلية ، في مناورة سريعة الهدف منها استنزاف المقاومين ، ودفعهم إلى الاشتباك معه في معركة هو من قرر مكانها وزمانها ، وليس له من هدف سوى دفع المقاومين لفتح نارهم ( وصرف ) ما يدخرون من ذخائر في ( معركة ) لا تقدم ولا تؤخر شيء في المسار الكلي للحرب مع هذا العدو ومستوطنيه .
الركيزة الثانية في استراتيجية العدو هي الاشغال ، إنه يشاغل المقاومين ويُشغِلهم في أكثر من مكان ، وعلى أكثر من جبهة ومحور ، إنه بسلوكه التعبوي هذا ، ومناوراته واقتحاماته اليومية لا يترك للمقاومين مجالاً أو فرصة يفكروا فيها برأس بارد فيما حصل بأمس ، ليستخلصوا منه العبر ، وكيف يمكن أن يواجهوا العدو في الغد ! أن فعل ـ العدو ـ بسلوكه هذا يتحكم بجدول أعمال المقاومين اليومي ، فهو يعرف أنه رد فعل المقاومين الآني على فعله ، سوف يحرمهم من وقت هم أشد الحاجة له للتفكير الهادئ ، والتخطيط للمستقبل .
إن هذه الركيزة الاستراتيجية تهدف إلى إيصال رسالة لحضانة المقاومة أن بقاءها ملتصقة بها ـ بالمقاومة ـ أو مقدمة تسهيلات لها ؛ يعني بقاءهاتحت ضغط العدو ، ومن ثم التضييق عليها ، وحرمانها من أبسط مقومات العيش والحياة ، اليومية ، وتدمير كل ما يمكن أن يشكل مساعداً في تقديم الخدمات الاجتماعية والحياتية لها . في سعي محموم الهدف منه ؛ فض هذه الحاضنة الشعبية من حول المقاومة ، وكشف ظهرها ، ليسهل ضربها واستهدافها .
إن هذه الركائز الثلاثة هي من أهم ركائز استراتيجية العدو العسكرية في مواجهته للمقاومة في الضفة الغربية ، الأمر الذي يتطلب التدقيق فيها ، وفهم وإدراك مقتضياتها ، كون هذا الفهم هو القادر على اجتراح سبل مواجهتها ومقاومتها ، وإبطال مفاعيلها .
ثالثاً : العقيدة القتالية للعدو :
بناء على تلك المرتكزات ، وحتى تتحول إلى إجراء فعلي تعبوي ؛ فقد تبنى العدو عقيدة قتالية تحكم سير عمل قواته ، وتحقق مقتضى تلك الإستراتيجية ، ومن أهم ملامح هذه العقيدة ، ما يأتي من سمات وإجراءات:
يركز العدو من أجل إنجاح استراتيجيته القتالية على تحصيل أكبر كم من المعلومات عن ساحة العمليات ، وما فها ومن فيها من بشر حجر ، مستخدماً كل ما يتاح له من وسائل ووسائط جمع المعلومات من : رصد ، وتنصت ، ومتابعة لوسائل التواصل الاجتماعي ، وتجنيد للعملاء والمصادر البشرية ، كما يصطحب في عملياته وسائط جمع المعلومات الميدانية ، من مسيرات مجنحة وغير مجنحة ، فتراه يتحرك في بقعة العمليات وكأنه واحد من أهلها ، يعرف كل تفصيل فيها .
كما يعمد العدو من أجل استنزاف المقاومة والمقاومين ، وإبقائهم مشغولين ، يعمد إلى عمليات الاقتحام اليومي للمدن والقرى والخٍرَب في كامل الضفة الغربية ، فلا يكاد يمر يوم لا تتوغل قواته في مدينة أو قرية أو خربة ، فتقتل ، وتعتقل ، وتدمر ، ثم تنسحب ؛ استنزافاً ، وإشغالاً.
وبحثاً عن معلومات ، أو تَثبتاً منها ، أو استثمار لها ؛ فإن العدو لا يمل من عمليات الاعتقالات الموجهة أو العشوائية ، فيدخل مزوداً بمعلومات دقيقة عن مكان مقاوم ، فيعتقله ، أو يصفيه ، وفي طريقه ـ العدو ـ لا يتوانا عن اعتقال من يعتقد أنه يمكن أن يفيد في تطور الموقف العملياتي ، أو المعلومات له ، فـ ( يكش عن جنب وطرف ) ، فيبقي من يعتقد فائدته ، وطلق سراح من يظن لا فائدة ترجى منه .
كما أن العدو أثناء مناوراته في مدن وقرى الضفة الغربية ، يعمد إلى محاصرة المدينة أو القرية التي يريد العمل فيها ، فيعزلها عن محيطها ، ولا يسمح بتواصلها مع جوارها ، ويقطع كل طرق الإمداد أو التعزيز الممكن أن يستفاد منها لتعزيز صمود هذه القرية أو تلك المدينة ، ويبقيها تحت الحصار إلى حين انتهائه من تنفيذ الواجب المطلوب منه تنفيذه ، فينسحب رافعاً حصاره ، وموقفاً دماره .
ثم لا يكتفي العدو بالمحاصرة الشاملة لمنطقة العمليات ، وإنما يحولها إلى مربعات عمل صغيرة ، تسند مهام العمل فيها إلى وحدات وتشكيلات مشاركة في المناورة أو الاجتياح ، فيتحول المخيم أو المدينة إلى مربعات عمل مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض ، ويمنع أهلها من تقديم العون لبعضهم بعض ، ولا يسمح للمقاومين العاملين فيها بتطبيق أصل الدفاع المتقابل ، فينشغل كل منهم في الدفاع عن مربعه ، ومكان تواجده وحارته ، إن كان هناك تعرض من العدو عليه ، وإن لم يكن ؛ فإنه ـ المقاوم ـ محروم من قدرة على الحركة أو المناورة وتقديم العون لمن تتعرض مناطقهم للضغط أو الاستهداف .
وفي بعض المناطق لا يعمد العدو إلى العمل الصاخب ، والاجتياح الشامل ، وإنما يكتفي بإرسال مجموعة من القوات الخاصة ، أو المستعربين لتصفية هدف ، أو الاستيلاء على قدرات أو معلومات ، كما أن العدو قد يطلب من عميل من عملائه تفخيخ مكان أو وسيلة نقل ، يعلم أن المجاهدين يستفيدون منه ، أو يستخدمونها أثناء تنقلهم . إن العدو لديه صندوق أدوات تعبوية ، يُخرج منه ما يناسب المهمة والجغرافيا والظرف .
وفي الوقت الذي تصل فيه للعدو معلومات صلبة ، أو ( ذهبية ) يخرج بشكل مباشر ، ودون إنذار للعمل على إحباط عمل يوشك على الخروج إلى حيز التنفيذ ، إنه ـ العدو ـ لا ينتظر حتى يتحرك المقاومون ، باتجاه أهدافهم لضربها ، وإنما يبادر وبشكل فوري للضرب الاستباقي ، وإحباط العمل قبل تبلوره وتنفيذه .
كما أن العدو يستفيد ويستثمر كل ما بين يده من قدرات وأدوات ، فهو في سبيل استنزاف المقاومين وبيئتهم ، وإبقائهم مشغولين في ترميم ما تضرر ، وتعويض ما تمت خسارته ، يستفيد وعلى سبيل المثال من المستوطنين والعملاء في عمليات الاستنزاف والإشغال ، ومن أجهزة سلطة الحكم الذاتي وأجهز مخابرات معادية عربية وغير عربية في المتابعة والسيطرة المعلوماتية ، وما لا يقدر عليه ؛ يحوله إلى من هم أقدر منه عليه ، وما لا ليس في سلم الأوليات في الوقت الحاضر ؛ يُطلب من الأصدقاء والحلفاء ضمه إلى جداول عملهم ، ومخططات إجراءاتهم ، وفي المحصلة كله في ( الفدان ) .
ومن أهم إجراءات العدو في عقيدته القتالية التي أملتها عليه إستراتيجيته العسكرية ؛ ضرورة السيطرة على منطقة العمليات ، والاحاطة بها ، معلوماتيا ً ، وتعبوياً ، فهو يستصحب معه أثناء المناورة كل ما هو متاح من وسائط قيادة وسيطرة تمكنه من الإحاطة المعلوماتية ، والسيطرة الجغرافية ، بدء بمسيرات " الكواد كبتر " التي تشغل على مستوى السرية ، أو الفصيل ، ولا تنتهي بتطير المسيرات المجنحة التي تُشغل على مستوى اللواء أو الكتيبة ، والتي تمكنه من تحقيق التفوق الجوي ، والسيطرة المعلوماتية على كمال منطقة العمليات .
كما أن أحد عناصر عقيدة العدو القتالية التي يستخدمها في مواجهة المقاومة والمقاومين ما بات يعرف اصطلاحاً بـ (طنجرة ) الضغط إن كان الإجراء على مستوى مقاوم فرد أو مجموعة متحصنة في منزل أو مبنىً ، أو (قدر) الضغط إن كان المقاومون منتشرين في جغرافيا على مستوى مخيم أو مدينة ، فيحاصرهم ، ويبدأ بالضغط عليهم ، ليجبرهم على الحركة ، والتنقل ، وتغير المواقع والمواضع ، ليحقق فيهم أكبر قدر ممكن من الخسائر والإصابات .
رابعاً : توصيات وإجراءات لمواجهة استراتيجية العدو :
لمواجهة استراتيجية العدو العسكرية ، وما انبثق عنها من عقدية قتالية ؛ نكتفي بسرد بعض من التوصيات ، والتوصية ببعض من الإجراءات ، دون الخوض في التفاصيل والمتطلبات ، ومن أهم هذه التوصيات والإجراءات ما يأتي :
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون