إسرائيل" تسرّع وتيرة عمليات التدمير في قطاع غزة.. قراءة في الأسباب!

أحمد عبد الرحمن

كاتب في الشأن السياسي والعسكري

كتبت في الحادي والعشرين من الشهر الماضي عن سياسة "التدمير" في العقلية الصهيونية، وحاولت أن أقف على الأسباب التي جعلت هذه السياسة في بعض الأوقات هدفاً في حد ذاته، إذ إن العقل "الإسرائيلي"، المجبول على الحقد والكراهية تجاه الآخرين، بغضّ النظر عن معتقداتهم الدينية، أو مواقفهم السياسية، لجأ إلى هذه السياسة منذ عشرات السنين، وهي نِتاج معتقد ديني وعَقِدي منصوص عليه في كتبهم المحرّفة، وفي أوقات أخرى استُخدمت سياسة التدمير أداةً لتحقيق أهداف أخرى، بينها استعادة الردع تجاه أعداء "الدولة" العبرية، كما حدث في إبّان عدوان تموز 2006 على لبنان، وفي الحروب المتعددة على قطاع غزة.
إلا أن هذه السياسة، في بعديها المشار إليهما أعلاه، تبدّت أكثر في العدوان الحالي على غزة الذي دخل شهره الرابع عشر، بحيث شهد القطاع الصغير والمحاصر عمليات تدمير ممنهجة وغير مسبوقة، نتج منها كما يشير كثير من الإحصاءات غير النهائية دمار هائل، وإزالة لمناطق سكنية وصناعية كاملة من الخريطة العمرانية للقطاع، إلى جانب التدمير والتجريف لمناطق زراعية تبلغ مساحتها مئات الكيلومترات، وهو ما حوّل جزءاً كبيراً من جغرافيا القطاع، ذات الكثافة العمرانية العالية نتيجة صغر مساحتها وارتفاع عدد سكانها، إلى مناطق شبه جرداء، ويكفي أن نشاهد مقطع فيديو واحداً لا تتجاوز مدته دقيقتين لنكتشف حجم الدمار والخراب المفجعين، ولاسيّما في مناطق معينة يتم التركيز عليها أكثر من غيرها.
خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، ارتفعت وتيرة عمليات التدمير بشكل ملحوظ وغير مسبوق، وخصوصاً في ثلاث مناطق رئيسة على مستوى قطاع غزة، ومن خلال متابعتنا عن قرب لهذه العمليات كنّا نلاحظ أن الوتيرة السابقة التي كانت متّبعة في تنفيذ هذه العمليات التي تجري في الغالب ليلا كانت تسير ببطء، بحيث كانت كل ليلة تشهد من خمس إلى ثماني عمليات تفجير ضخمة في كل منطقة، وكانت أوقات النهار تُخصّص لنقل ركام هذه المباني من خلال شاحنات كبيرة إلى مناطق مجاورة لتعبيد طرق جديدة يتم شقّها، أو لإقامة ما نعتقد أنه لسان بحري يشبه الميناء الصغير في المنطقة المقابلة لوسط القطاع.
إلا أن هذه الحال تغيّرت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، بحيث لُوحظ ارتفاع وتيرة عمليات التدمير الليلية إلى مستوى قياسي، وهذا يمكن الحكم عليه من خلال الانفجارات الهائلة التي يُسمع صداها على بعد أكثر من عشرة كيلومترات وربما يزيد، بحيث ازدادت تلك العمليات إلى أكثر من ثمانية أضعاف، وبتنا نلاحظ أن الحد الأدنى للتفجيرات في كل ليلة، والتي تبدأ من الساعة السادسة مساء في معظم الأيام، وتنتهي بعد نحو اثنتي عشرة ساعة، تصل من خمسين إلى سبعين تفجيراً، وهي عادة ما تكون مترافقة مع عمليات تدمير أخرى ينفذها سلاح الجو الصهيوني، وهي تكون في الغالب لمنازل ومنشآت تقع عند حدود المناطق التي ينشط فيها جيش الاحتلال، والقريبة نوعاً ما من مناطق وجود المدنيين الفلسطينيين، إذ يخشى جيش الاحتلال الوصول إليها بشكل مباشر خوفاً من استهدافه من المقاومة فيلجأ إلى قصفها من الجو، وهو بذلك يؤمّن من جهة غطاءً بصرياً لقواته التي تعمل بالقرب منها، من خلال تحويل المنازل، ولاسيّما المرتفعة إلى موانع اصطناعية تحمي قواته من نيران القناصة أو الصواريخ الموجهة، ويمنع المقاومين من جهة أخرى من استخدامها لعمليات الرصد أو الاستهداف للجنود والآليات. 
لكن، دعونا قبل أن نذهب إلى عرض الأسباب التي نعتقد أنها تقف وراء ارتفاع وتيرة عمليات التدمير في قطاع غزة وتسريعها، نُشِرْ إلى المناطق الثلاث التي تجري فيها تلك العمليات بشكل رئيس، بحيث يمكن لنا أن نستنتج، من خلال عرض المواقع والمواصفات لهذه المناطق، أن لدى جيش الاحتلال خطة ممنهجة وطويلة الأمد للمرحلة التي تلي انتهاء الحرب، إضافة إلى ترجيح الفرضيّة التي تشير إلى أنه كان يُعد الخطط منذ فترة طويلة لمرحلة من هذا النوع حتى قبل حدوث عملية طوفان الأقصى. وكان، كما يبدو أيضاً، أعد خرائط تفصيلية لكل مناطق القطاع، وخصوصاً التي تشكّل محاوره الأساسية، والتي تمنح الجهة التي تسيطر عليها إمكان التحكّم في معظم جغرافيا القطاع، وفي حركة المواطنين بداخله.
أولى هذه المناطق هي محافظة رفح أقصى جنوبي القطاع، والتي تُعَدّ أصغر مدنه مساحة " 67كلم"، وأقلّها سكاناً ""290 ألف مواطن، وتقع عند الحدود مع جمهورية مصر العربية، ويفصلها عن نظيرتها رفح المصرية شريط حدودي يبلغ طوله نحو 14 كلم، وهو ما يُعرف بمحور "فيلادلفيا "، وهي تشكّل المتنفّس الوحيد لأكثر من مليونين وربع المليون فلسطيني، يعيشون تحت حصار خانق منذ أكثر من 18 عاماً. > النشر والتحرير 2: حتى كتابة هذا المقال بلغ حجم عمليات التدمير الكلّي في هذه المحافظة الصغيرة والجميلة أكثر من 70%، بحسب بعض المصادر المطّلعة، وهو ما تؤكّده الصور التي ينشرها جيش الاحتلال، بحيث كان الجزء الأكبر من هذه العلميات من نصيب المناطق الجنوبية والشرقية، سواء تلك المحاذية للحدود المصرية، أو تلك المجاورة للشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة عام 48.
ثانية المناطق هي وسط قطاع غزة، وهي المنطقة التي تبدأ من جنوبي مدينة غزة، وتحديداً من الشارع رقم "8"، والممتد من الشرق في اتجاه الغرب، بمحاذاة أحياء الزيتون والصبرة وتل الهوا والشيخ عجلين، وصولاً إلى حدود المنطقة الواقعة إلى الشمال من مخيم النصيرات وسط القطاع، والتي يقع في نطاقها مدن المغراقة والزهراء والأمل والمخيم الجديد بالقرب من شركة توزيع الكهرباء شمالي مخيم النصيرات.
هذه المنطقة، التي يبلغ طولها من الشمال في اتجاه الجنوب، نحو ثمانية كيلومترات، وعرضها من الشرق في اتجاه الغرب حيث شارع الرشيد "البحر" نحو ستة كيلومترات ونصف كيلومتر تتعرّض لعمليات تدمير هي الأعنف والأوسع. وعلى الرغم من أن هذه العلميات ارتفعت وتيرتها منذ الثاني والعشرين من آب/أغسطس الماضي تحديدا، فإنها خلال الأسابيع الأخيرة ازدادت بشكل ملحوظ وواضح، ويمكن لسكّان المناطق المجاورة لها سواء من الجهة الجنوبية أو الشمالية أن يسمعوا بوضوح أصوات التفجيرات المتتالية، إلى جانب أصوات الآليات العسكرية والجرافات وطائرات الاستطلاع، والتي لا تغادر هذه المنطقة لحظة واحدة. وبحسب بعض المصادر، تم حتى الآن تدمير ما نسبته 90% من منازل هذه المنطقة ومنشآتها، التي كانت تشتهر بمناطقها الزراعية الواسعة والغنيّة، إلى جانب آلاف البيوت السكنية المقامة حديثاً.
مع التذكير هنا بأن هذه المنطقة الحيوية والحسّاسة مُقام عليها ما يُعرف بـ "محور نتساريم"، والذي يفصل القطاع إلى نصفين، ويُمنع من خلاله مئات آلاف النازحين من سكّان مدينة غزة ومحافظة الشمال من العودة إلى بيوتهم ومساكنهم.
أما ثالثة المناطق، التي تشهد تسارعاً في وتيرة عمليات التدمير، فهي محافظة شمالي القطاع، وخصوصاً مناطق بيت لاهيا ومخيم جباليا، والتي تشهد منذ أكثر من شهرين عملية عسكرية موسّعة، سقط خلالها أكثر من ألفي شهيد في مجازر مروّعة، وفي ظل صمت إقليمي وعالمي مخزٍ وفاضح، وفي ظل عمليات تهجير قسرية يقوم بها جيش الاحتلال ومرتزقته للمواطنين هناك تحت قصف الصواريخ والقنابل التي لا تتوقف، وفي ظل حملة مشدّدة من الحصار والتجويع لم تحدث من قبل خلال شهور الحرب الماضية.
محافظة شمالي غزة، والتي تُعَدّ ثالثة أكبر محافظات القطاع من حيث عدد السكان، إذ كان يسكنها قبل العدوان نحو 389 ألف مواطن، شهدت خلال العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية عمليات نسف وتدمير فاقت من حيث الحجم والكم ما جرى خلال العمليات الثلاث السابقة، ولاسيّما في الأطراف الشرقية والغربية لمخيم جباليا، وفي الأطراف الشمالية، والشمالية الغربية لمنطقة بيت لاهيا، والتي تُعَدّ أقرب مناطق القطاع للحدود مع أراضينا المحتلة عام 48، مع الإشارة إلى أن مدينة بيت حانون الواقعة في أقصى شمالي شرقي القطاع دُمرت منذ بداية العدوان، ولم يتبقّ فيها سوى بعض المدارس التي تُستخدم مراكز إيواء للمواطنين الذين يرفضون مغادرتها على رغم المخاطر التي تحيط بهم من كل اتجاه.
في الأيام الأخيرة بدأت قوات الاحتلال تركيز جهودها في الهدم والتدمير على منطقة بيت لاهيا تحديداً، وقامت باستخدام شركات "إسرائيلية" خاصة لهذه المهمة إلى جانب قوات "الجيش"، ونشرت عدة مجموعات استيطانية صهيونية إعلانات في عدد من الصحف العبرية للراغبين في العمل في هذا المجال براتب مغرٍ، لتسريع وتيرة الهدم لمنازل الفلسطينيين ومنشآتهم. 
بعد هذا العرض المختصر للمناطق التي جرى فيها تسريع وتيرة الهدم والتدمير، دعونا نذهب إلى قراءة الأسباب التي دفعت الاحتلال إلى رفع وتيرة عملياته وتسريعها، علّنا نفهم مغزى ما يجري من أحداث في أرض الواقع.
في اعتقادي ان هناك ثلاثة أسباب رئيسة وراء هذا التطوّر، سنشير إليها بعجالة حتى لا نُطيل.
أولاً، نضوج شروط وقف الحرب: 
بعد أن فشلت آلة الحرب "الإسرائيلية " في تحقيق أهداف الحرب المعلنة، والتي رفعتها القيادتان السياسية والعسكرية منذ بدء الهجوم على غزة، بدأت كفّة الفريق الداعي إلى وقف القتال في أوساط النخب الصهاينة ترجح على حساب كفّة الفريق الآخر، إذ ترسّخ لدى كثيرين من القادة السياسيين والعسكريين السابقين والحاليين قناعة باستحالة تحقيق "النصر المطلق" الذي يرغب فيه نتنياهو، وبعدم وجود إمكان للقضاء على المقاومة واستعادة الأسرى أحياءً، وان الطريق الوحيد القادر على المحافظة على حياة الأسرى، وتأمين بعض مصالح "إسرائيل" الأمنية، هو الوصول إلى صفقة شاملة، يتم من خلالها وقف الحرب، وتبادل الأسرى، وتولّي جهات "معتدلة " حكم غزة، وبدء عملية إعادة الإعمار وعودة النازحين. > النشر والتحرير 2: وبالتالي، في ضوء نضوج بعض الشروط اللازمة للذهاب في اتجاه صفقة ما، وفي ظل ما تشهده بعض العواصم العربية من تحركات في هذا الجانب، فإن جيش الاحتلال بدأ تسريع عمليات التدمير والهدم من أجل زيادة تكلفة الحرب على الفلسطينيين، ومن أجل إشغال سكّان القطاع ومعهم فصائل المقاومة في عمليات الإعمار أطول فترة ممكنة، بحيث يعتقد أن هذا الإِشغال سيوفر له كثيراً من الهدوء والأمن المنشودين.
ثانياً، تفعيل الخطة البديلة إذا اقتضت الحاجة:
الخطة البديلة هنا تعني تهيئة الأرضية الملائمة للبقاء طويلاً في أراضي القطاع في حال فشلت جهود الوساطة، ووصلت المحاولات الحثيثة التي يبذلها البعض إلى طريق مسدود، وهذا الأمر مُتوقَّع وممكن حدوثه نظراً إلى ما جرى خلال الشهور الماضية من تراجع وتنكّر لكل ما تم التوصّل إليه من تفاهمات، وكان أبرزها في أيار/مايو الماضي، عندما تراجع نتنياهو عن قبول مقترحه الذي تبنّاه الرئيس الأميركي جو بايدن، والذي تم اعتماده لاحقاً كقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي.
وبما أن هذه الفرضية واردة ومتاحة، ويمكن ان تتحوّل لاحقاً إلى أمر واقع لا مفر منه، يلجأ جيش الاحتلال إلى عمليات كهذه من أجل إقامة مزيد من نقاط التمركز شبه الدائمة، والتي إن كانت حتى الآن ذات طبيعة هندسية موقتة، إلا أنه يمكن أن يتم تطويرها لتصبح ذات طبيعة مستدامة إذا تطلّب الأمر، ويمكن أيضاً أن تكون نواة لعودة الاستيطان، وإن بالتدريج، إلى تلك المناطق المؤمّنة بقواعد ومنشآت عسكرية.
ثالثاً، فوز ترامب في الانتخابات الأميركية:
بما أن ساكن البيت الأبيض الجديد يرفع شعار إنهاء الحروب في المنطقة والعالم، ويرغب في التفرّغ لقضايا بلاده الداخلية، وللمعركة المحتدمة اقتصادياً مع الصين، والتي تمثّل، بحسب الرؤية "الترامبية"، التحدّي الأكبر والأخطر للسيطرة الأميركية على العالم، فإن حكومة الكيان الصهيوني تشعر بأنها قد تجد نفسها أمام موقف أميركي مغاير لما اعتادت عليه خلال الشهور الماضية، وهي، على الرغم من سعادتها الطاغية بفوز ترامب صديقها الوفي، والذي تعتقد أنه سيكمل ما بدأه معها خلال ولايته الأولى، وخصوصاً على صعيد التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، وفي المقدمة منها السعودية، فإن ثمن ذلك يمكن أن يكون إرغام "إسرائيل" على وقف الحرب، لأن استمرارها سيُسقط كل مشاريعه في هذا الجانب، ولن يتمكّن أي نظام عربي أو إسلامي من التقدّم خطوة في اتجاه التطبيع في ظل ما ترتكبه "الدولة " العبرية من جرائم ومجازر بحق الفلسطينيين.
وبالتالي، تأتي عمليات تسريع الهدم والتدمير تحسباً لتلك اللحظة التي تتوقّف فيها الحرب، وهي تهدف إلى ما أشرنا إليه في السبب الأول من زيادة تكلفة العدوان على الجانب الفلسطيني.
في كل حال، سواء توقّفت الحرب أو لم تتوقّف، وبغض النظر عن حجم الدمار والخراب اللذين يُحدثهما جيش الاحتلال في قطاع غزة، فإن هذه "الدولة" المجرمة والمارقة لن تستطيع تحقيق أهدافها، ولن تتمكّن من هزيمة هذا الشعب العظيم، وهذه المقاومة البطلة، مهما ارتكبت "إسرائيل" من جرائم، إذ إن نتائج الحروب لا تُقاس بالإنجازات التكتيكية والمرحلية وإن كانت مهمة، وإنما بمقدار هذا الطرف أو ذاك على تحمّل تكلفة الحرب وآثارها. وفي هذا الجانب تحديداً، وعلى الرغم من حجم التضحيات الهائلة التي قدّمها شعبنا الفلسطيني، فإنه لم يرفع الراية البيضاء، ولم يعلن الاستسلام، وسيبقى يقاوم هذا الوحش القاتل حتى يهزمه بالضربة القاضية بإذن الله، ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريباً.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023